عصر المسلسلات

عصر المسلسلات

 المسلسل التلفزيوني الآن هو فن الرأسمالية، ونعني بهذا أربعة أمور مجتمعة: أولاً، أن المسلسل بات هو الشكل المفضل للسرد لدى الرأسمالية في عصر نهاية التاريخ الذي بشّر به فوكوياما. ثانيًا، أن المسلسلات، منذ بداية نهاية التاريخ، هي التي تنتج وتوزع أكثر من غيرها حتى صارت تملأ السهل والجبل. ثالثًا، أنها هي التي تصور الاختلالات بين حظوظ البشر وأوضاعهم على كوكب الأرض، وتصور كذلك رغبة الأقل حظًا في تغيير تلك الأوضاع واستحالة هذا التغيير في آن معًا. رابعًا، أن المسلسلات التلفزيونية صارت هي ملاحم العصر، وهي الآن التي تقوم بالدور الذي كانت تؤديه الملحمة قديمًا؛ أي التصوير الفني لحركة الجنس البشري في شكلها العام.

 

 لعل حقيقة أن عصرنا صار هو عصر المسلسلات كانت ماثلة أمام أعيننا من أيام مسلسل (الأصدقاء 1994-2014)، غير أننا لم نتيقن منها سوى مع وباء كوفيد-19، والعزلة التي فرضها لشهور طويلة على البشر داخل منازلهم. تأكد حينها أن المسلسلات التي تعرضها منصات العولمة باتت هي وسيلة التسلية الأولى على الكوكب، والأهم، أنها صارت الوسيلة الأكثر عمومية في نقل الخبرة بين البشر. لكن الناقد النبيه كان بوسعه استشراف هذه الحقيقة في توقيت أبكر لدلالتين كانتا تشيران إليها.
 
أفول الحدود
أما الأولى فهي سيولة الحدود الفاصلة بين الأفلام والمسلسلات منذ بداية الألفية الثالثة أو قبل ذلك بقليل. فمن ناحية، أخذت الأفلام، وعلى نحو متزايد عامًا بعد آخر، تصنع في سلاسل، خصوصًا التي تحقق أرباحًا كبيرة، حتى باتت أشبه بالحلقات التلفزيونية، متبعة قالب «المتصل-المنفصل»، الذي هو قالب (فورمات) تلفزيوني في الأساس. نجد مثلًا لهذا في سلاسل فيلمية من قبيل: (سريع وصاخب 2021-2001)، و(المتحولون2007-2014)، و(أولاد مشاغبون 1995-2020)، و(كابتن أمريكا،2011-2016)، و(المُبيد1984-2014)، و(الرجل الوطواط 1989-2022)، و(المنتقمون 2012-2021)، و(الرجل الحديدي 2008-2013)، وسلاسل أفلام مارفل، وغيرها الكثير.
من الناحية المقابلة أخذت المسلسلات هي الأخرى تقترب من فورمات السينما. لم يعد المسلسل التلفزيوني يُصنع في ثلاثين حلقة أو أكثر، بل في ثمان أو أقل. وصار الحرص على الجماليات والإبهار البصري هو عينه في السينما. الميزانيات هي الأخرى باتت أقرب إلى ميزانيات الأفلام، حتى أن ميزانية حلقة واحدة من مسلسل «لعبة العروش» ربما فاقت ميزانية فيلم هوليودي من ذوي الميزانيات المتوسطة. هذا فضلًا عن الاتجاه الذي يتزايد يوميًا من تحول نجوم السينما، ومؤلفيها، ومخرجيها، ومنتجيها إلى العمل في المسلسلات.
فوق هذا نستطيع أن نتلمس بوضوح أن الفجوة التي كانت بين المسلسل والفيلم في مجال الموضوعات والأفكار أخذت هي الأخرى في التقلص بصورة متسارعة حتى زالت. لم يعد الكود الرقابي أو الأخلاقي القديم فيما يُعرض على الشاشة الصغيرة في حرمة البيوت وفي حضرة الأسرة كما كان، بل بات هو هو الكود الرقابي والأخلاقي لسينما هوليود؛ يتشدد فيما يتشدد فيه (كتدخين السجائر، وحقوق المرأة، وصورة اليهودي، والحريات الفردية، والحفاظ على البيئة، إلخ)، ويتساهل فيما يتساهل فيه (كالعري، والعنف، والمثلية، وتعاطي المخدرات، واحتقار المسنين، إلخ).

طبيعة المشاهدة وأدواتها
أما الدلالة الثانية التي كانت تشير إلى عصر المسلسلات وتبشر به فكانت حقيقة تغير وسائل المشاهدة وطبيعتها في آن معًا. حلت شاشة التلفزيون الصغيرة محل شاشة السينما الكبيرة، وصار المشاهدون يفضلون المشاهدة في الداخل أكثر من الخارج واستئجار شرائط الفيديو لأحدث الأفلام والمسلسلات لمشاهدتها في صالة البيت مع الأسرة أو الأصدقاء والأحبة. شاشة التلفزيون الصغيرة نفسها ستحل محلها شاشات أخرى متناهية الصغر، بعد تطوير «أبل» لشاشات التليفون المحمول كي تصبح فائقة الجودة والوضوح، مع دعم كثيف وملح منها، ومن غيرها من شركات الهواتف، لنمط المشاهدة عبر التليفون، وهو النمط الذي دخلت «أبل» بسببه سوق إنتاج الدراما التلفزيونية بنفسها.
من ناحية طبيعة المشاهدة، صارت المشاهدة الفردية هي المفضلة بدل المشاهدة الجماعية في صالة السينما. وصار عدد الحضور يُنتقص بشكل متزايد، بعد أن تركت صالة السينما مكانها لحجرة المعيشة في البيت، الذي ترك مكانه بدوره لسرير النوم، أو مقعد فردي في الباص أو السيارة، أو صالة انتظار في مكان عام، أو حتى مقعد أحد المراحيض العامة أو الخاصة.
لا يمكننا تصور الدلالة الاجتماعية لعصر المسلسلات بدون ملاحظة جانبه التدميري لتقاليد المشاهدة الجماعية. هذا يظهر بأوضح ما يكون مع مسلسلات المنصات الكوكبية. وهو ما يفتح الباب للكلام عن دفع هذا النمط من المشاهدة نحو مزيد من العزلة والفردانية. ويمكن للمرء أن يمضي فيقول: يؤدي هذا إلى مظهرين مختلفين، بل ويكادا يكونا متضادين؛ أولهما، هي السلطة الفائقة التي يمارسها المتفرج على المسلسل، بوصفه عددًا في نسبة المشاهدات، التي هي هدف منصات العرض. وثانيهما، هي السلطة الفائقة التي يمارسها المسلسل على المتفرج الفرد، خصوصًا المشوش، العائش في صحراء الوعي. نحن لا نتحدث عن جيل الألفية، أو جيل زد Z، أو مواليد منتصف الثمانينيات الذين كانوا يتحسسون أدوات الوسائط الرقمية ويشعرون نحوها بالتهيب والحياء، بل عن جيل رقمي أصبحت هذه الوسائط تمثل له يده الثالثة، وفي كثير من الأحيان يده الأولى. رسمت مسلسلات عديدة، جيدة ورديئة، صورًا لهذا الجيل وذلك النمط من المشاهدة الفردية، سنجد مثلًا لها في: (نشوة Euphoria،2022-2019)، و(التربية الجنسية Sex Education،2021-2019)، و(خفقان القلب Heartstopper،2022)، بل ونعثر عليها بسهولة في تجاربنا اليومية الشخصية.

المحاسن والأضداد
كلتاهما وارد، مثل أي وسيلة أو أداة أو تقنية، تتحدد فوائدها ومثالبها بحسب الاستعمال؛ فاضلها فاضل، ومنكرها منكر. غير أننا نميل إلى القول إن أكبر الظن عندنا هو أن المثالب أعظم من الفرص التي توفرها مشاهدة مسلسلات اليوم. نستطيع أن نتعلل بعدة مؤشرات، كما سنرى بعد قليل، نسوقها من قبيل الاستئناس بهذا الترجيح.
قبل ذلك وجب أولًا قول كلمة أو اثنتين عن الفرص والفوائد التي قد توفرها مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، فلا ريب أنه قد صُنع منها منذ بداية الألفية أعمال من الطبقة الأولى على النحو الذي نراه مثلًا في «الشَرَك»، و«غرفة الأخبار»، و«المدرعة الفضائية جالاكتيكا»، و«الأصدقاء»، و«لعبة العروش»، وغيرها القليل. وهي أعمال عالية القيمة، أخلص صناعها لخبراتهم الشخصية ورأس مالهم المعرفي، وتشهد لهم بالتمرس في أساليب الصنعة وأصولها، حتى صارت من جواهر الدراما، وأكرمها في إمطار التنوير مطرًا وإضافة رصيد نافع لخبرة المشاهد.
غير أنه في حشوة المسلسلات القيم خاص والركيك عام. جليفر في بلاد الأقزام. فما يغمرنا كل صباح ومساء من أقزام الدراما الرائجة هي أعمال ضعيفة أو متواضعة أو بين بين؛ من حيث الصنعة، ومن حيث المعاني، ومن حيث الخبرة المفيدة التي تمررها للمشاهد. والغالب عليها هو تمجيدها لمبدأ الربح، واللهاث وراء الصرعات، وإنكارها للحياة العقلية، ونشدانها للكمال الجسدي، وتفضيل الغباء والغفلة والنسيان، ويصح فيها قول الجاحظ في «الحيوان»: «ومن الناس من يقول إن العيش كله في كثرة المال، وصحة البدن، وخمول الذكر».
ونحب أن نلفت النظر، وخصوصًا نظر صناع الدراما، إلى عدم التهيب عند ذكر مسائل مثل المعاني والقيم والخبرة والفائدة من الدراما. فقد اعتاد أهل الصناعة النفور عند ذكر فوائد الدراما، والإصرار على أنها ترنو فقط إلى تحقيق شروط الفن لا أكثر. ونحن نخطئهم في هذا، فكل عمل فني عظيم يحوي فائدة. والقصد بالفائدة ليست العبر والمواعظ والنصائح المدرسية المباشرة، وإنما تتجلى فائدة العمل الفني بمساعدته لنا كي نصبح أكثر فهمًا لأنفسنا، وللآخرين، وللعالم من حولنا، وهو بهذا المعنى وكفى يحمل فائدة عظيمة. الفهم يعني التسامح؛ مع الآخرين، ومع الذات وهو الأهم.

جاذبية العابر 
وإن كان بمقدورنا أن نسوق عددًا لا يحصى من المسلسلات ضعيفة الصنعة أو المعاني أو كلتيهما، أو من تلك التي تروج لقيم زائفة أو مضرة، والتي تغمرنا بها ماكينة السرد الدرامي كل لحظة، خصوصًا فيما تعرضه المنصات الكوكبية من أمثال «نتفليكس»، و«أمازون»، و«هولو»، إلا أننا سنكتفي بذكر بعض الأمثلة من أشهرها. قبل ذلك، علينا أن نقول إننا لا نخشى ضررًا من فوضى المعاني التي وصلت إليها الدراما على المشاهد النبيه حسن المشاهدة حسن الفهم، لكن مما يؤسف له أن أغلب العامة اليوم ليسوا محصنين، فهم أبناء جيل زد Z، وثقافتهم اليوم تسمى «ثقافة السقط» أو «ثقافة المخدرات» Junk Culture، وغالبيتهم قد تشرب بثقافة النيولبرالية وصار يعتمد المال قيمة حاكمة تهيمن على باقي قيمه ومُثله. 
تأمل نوعية المسلسلات التي حظيت بأكبر نسبة مشاهدات في العقد الماضي، وهي إشارة قاطعة أو قريبة من القطع كي تستأنس برأينا بكثرة الهزل وعظم شأنه في أيام النيولبرالية. (آل سوبرانو The Sopranos)، و(الانحدار Breaking Bad)، و(سول تحت الطلب Better Call Saul)، و(لعبة الحبار)، و(تد لاسو Ted Lasso)، و(نشوة)، و(خفقان القلب)، و(صاحبات السترات الصفراء Yellowjackets)، و(أشياء غريبة Stranger Things)، و(الماندارولي The Mandalorian)، و(رجل الرمال Sandman)، و(أربعاء Wednesday)، و(التربية الجنسية)، ومسلسلات مارفل. هي أعمال، وإن كانت حققت أعلى نسب مشاهدة بين الجمهور وقت عرضها، إلا أنها باروكية مخوخة؛ براقة الشكل رثة الجوهر، سخيفة باردة النادرة، مبتذلة وضحلة، تأثيرها سريع الزوال تستهلك نفسها من المشاهدة الأولى ولا تتحمل الثانية، وهي في ذلك كما حكم عمرو بن العلاء على شعر ذي الرمة: «أبعار ظباء لها مشم المسك في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح البعر».

أحوال البطل
فإذا مررنا ببصرنا سريعًا على صور أبطال تلك الدراما لوجدناهم: زعماء مافيا مخدرات، ومدرس بالمرحلة الثانوية يستغل معرفته بالكيمياء في تخليق أخطر أنواع المخدرات وترويجها، ومحام مغمور لا يترك سبيلًا للدفاع عن اللصوص والسفلة وزعماء الجريمة المنظمة إلا ويرتاده، ومدرب كرة قدم لا يفقه شيئًا عن اللعبة، وتلميذات بالمرحلة الثانوية سوقيات وغائبات عن الوعي من إدمان المخدرات، وتلاميذ منغمسون في علاقات مثلية، ومراهقات يأكلن جثث الموتى، وأطفال منفصلون عن الواقع ويعيشون في عوالم الخرافات والأساطير وينقذون الكون من كائنات شريرة، وصراعات ما بين كائنات أبدية لا تموت، وأبطال خارقون مشغولون بالتصدي لأشرار يحاولون إبادة وتدمير، لا كوكب الأرض فقط، بل المجرة كلها، وأحيانًا الكون بأسره، وأحايين الأكوان الموازية أيضًا، وقتلة متسلسلون، وسماسرة بورصة محتالون، ونصابون بأنوف أطول من بينوكيو، إلى كثير من هذا الصنف ممن لا يغريك فيهم إلا الرغبة في صفعهم. إن المنظور العام للدراما يُروى اليوم من خلال وجهة نظر هذا البطل الجديد، وقيمه ومثله هي التي تحدد الأخلاقيات التي يتبناها المسلسل.
صحيح أن الأوغاد والمجرمين واللصوص والمدمنين والأغبياء والكسالى كانوا موجودين دائمًا في الدراما، ومن قبل في الأدب، لكن موقعهم في الغالب كان موقع الشخوص الثانوية، أو الشخصيات اللازمة لتصعيد الدراما ودفعها للأمام، بل ونجد بعضهم في براءة من يرتكب الشر قبل علمه بأنه شر. لكن اللافت منذ فترة أن الأوغاد صاروا يتبوأون موقع الشخصية الرئيسية، أي البطل، وفي توقيت متزامن أو أقرب إلى التزامن مع بداية العصر الفوكويامي لنهاية التاريخ واكتساح سياسات النيولبرالية للكوكب غربًا وشرقًا.
فإذا ما تساءلنا: ما الذي يمكن أن يجمع كل تلك النوعيات من الأبطال الجدد من الحمقى والمدمنين والمجرمين والمرضى الاجتماعيين؟ لوجدنا أن العامل المشترك فيما بينهم أنهم يعلقون قواعد التهذيب والحس الإنساني السليم على الشماعة، فيسرقون، ويقتلون، ويتلاعبون، وينصبون، ويخدعون، بتباه وتبجح، وبوعي، وبلا صراع نفسي أو معاناة روحية، وباستمتاع وتلذذ. تفتح دراما اليوم صندوق باندورا الذي يضم كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وكذب، وحسد، ووقاحة... صندوق اللعنات.

سقوط حر
يفاقم من ذلك الوضع، في رأينا، عملية مستمرة من تدهور الوعي رافقت سياسات النيولبرالية، بحيث بات الفرد العادي يفتقد لآليات تفسير الظواهر التي تعصف بفرديته الواهنة كل يوم؛ من أزمات اقتصادية، وتضخم مستمر، وتسريح عمالة، وإفلاس شركات وبنوك، وازدياد الفقر، وتفاقم الظلم الاجتماعي وغياب العدالة. تقدم له الدراما تفسيرًا سهلًا بسيطًا لتلك المشكلات البنيوية المعقدة بأن تلقي باللائمة على بعض المجرمين والأشرار، أو الإرهابيين، أو الآخر الصيني أو الروسي أو العربي أو الكوبي أو المكسيكي، أو حتى في ممارسات بعض الأفراد الفاسدين من التكنوقراط، معفية النظام النيولبرالي وسياساته من اللوم. تقول الدراما للمتفرج إن المشكلة هي في الخياط لا في القماش المعيوب؛ خطأ شخصي مسؤول عنه الآخر الأجنبي، أو الشرير، أو الشيطان، أو حتى الضحية نفسها بفساد أخلاقها وبعدها عن الدين. تنويم مغناطيسي يخدر الحس السليم والذهن الذي يعيننا على الفهم والتصرف في مواجهة الواقع.
ولعلنا نلاحظ، بسبب أزمة الوعي أيضًا، أن الاحتجاجات الشعبية التي وقعت في السنين الأخيرة في الشرق والغرب على السواء، عجزت فيها الجماهير عن التعبير عن نفسها في شكل بديل واقعي أو مشروع متماسك، واقتصر الأمر على النزول إلى الشارع والتظاهر الصفري. وفي بعض الأحيان، كحالة الاضطرابات الشبابية التي جرت في بعض المدن البريطانية عام 2011، الانخراط في تنفيس أعمى من الشغب والعنف السلبي الهدام.
في الشواهد المتقدم ذكرها برهان لا يكشف سوى جزء من الألف من بؤس واهتراء الدراما الآنية، وهو ما يجعلنا نميل إلى افتراض استمرار فوضى المعاني في مسلسلات العولمة، وفقر الدم القيمي، والتلوث الوجداني، وغلبة الهزل على الجد، والضار على النافع، والوضيع على الشريف، واستمرار الحلقة المفرغة ما بين دراما تحط من الوعي وتزيفه، ومتفرج يستقبل الانحطاط والزيف ويثمنه ويطالب بالمزيد، بينما يتحول إلى حجر وهو يتفرج على ميدوزا الحديثة. فرصة الأمل في ظل وضع كهذا أشبه بمحاولة بناء سد على نهر مستمر في جريانه ■