شرود الذهن ليس كله ضياعًا

شرود الذهن  ليس كله ضياعًا

التفكير والتأمل وأحلام اليقظة كلها من مظاهر شرود الذهن الذي غالبًا ما يقتحم عقولنا، ويشتت قدرتها على التركيز، ويحملها إلى عالم منفصل عن تجربتنا الحالية. يعتبر شرود الذهن تجربة شائعة للغاية، وذلك وفقًا لدراسة حديثة قادها عالما النفس بجامعة هارفارد الأميركية «دانيال جيلبرت» و«ماثيو أ.كيلنغزورث»، وتوصلا خلالها إلى حقيقة أننا كبشر نخضع لشرود الذهن  كل دقيقتين تقريبًا، أي  بمعدل قد يصل إلى 50 في المائة من ساعات اليقظة، والأمر الملفت أننا نادرًا ما نعي بوقت حدوثه. 

 

في لحظة ما نكون منغمسين بأمر معين، وفي لحظة أخرى قد نتخيل كيف سيكون الأمر إذا ما انتقلنا في الزمن إلى 100 عام في المستقبل، أو إذا ما كنا نعيش على جزيرة ساحرة ونستمتع بطبيعتها الجميلة، أو نقابل شخصًا آخر لا علاقة له بما نعيشه في الوقت الحالي، أو أي أمر غريب آخر. 
من الناحية العلمية يتعلق شرود الذهن بما يُعرف بشبكة الوضع الافتراضي (DMN) التي يُعتبر اكتشافها أحد أهم الاكتشافات في علم الأعصاب، وهي مجموعة من مناطق الدماغ التي تنشط في حالات عدم التركيز على الواقع الحاضر، إذ يكون الدماغ في حالة «راحة يقظة». ومثلها مثل العديد من الاكتشافات العلمية الأكثر أهمية فقد تم اكتشاف شبكة الوضع الافتراضي بالصدفة، وذلك عندما كان باحثو علم الأعصاب الوظيفي يرسمون خرائط لشبكات الدماغ أثناء قيام الأشخاص بـ«مهام إيجابية»، تلك المناطق التي تضيء عند الانخراط في مهام تتطلب تركيزًا كليًا، مثل القيام بعمليات حسابية مثلًا، فقد وجدوا أنه في معظم هذه التجارب كانت هناك حالة من التركيز تتخلّلها فترات من الراحة أو عدم التركيز في المهمة المعينة. إلا أنه عندها لم يكن الدماغ مظلمًا وهادئًا على الإطلاق، بل  بدلًا من ذلك كانت هناك إشارات مضيئة متواصلة في شبكة معينة من هياكل الدماغ في الفصّ الصدغي الإنسي، مما يشير إلى عدم الركود ولكن إلى وجود نشاط نابض بالحياة. ونشير هنا إلى أنه أثناء استسلامنا لشرود الذهن تتخطّى عقولنا روابط المكان والزمان، وتمزج بين الذاكرة والخيال، وبعدها تعود شبكات الدماغ للتركيز على المهمة التي نحن بصددها، وتتكرر هذه التذبذبات - بترتيب الثواني أو الدقائق - طوال اليوم.

سمة من سمات كسلنا المتأصّل 
عادة ما ينظر إلى شرود الذهن من جانبه السلبي، إذ يُعتبر أن «التجول العقلي» إذا أمكن تسميته، هو بمثابة ثقب أسود، حيث تموت الإنتاجية لأنه يسبب تراجعًا في التحكم المعرفي، ويؤدي إلى عدم القدرة على معالجة المهام والتعلم والفهم والانتباه وإلى ضعف في الذاكرة العاملة.  بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتسبب شرود الذهن بالتعاسة، وذلك عندما يفقد الشخص الاتصال بالحاضر فيتنقل بأفكاره بشكل متكرر إما إلى الماضي أو إلى المستقبل فيشعر عمومًا بأنه أسوأ من الشخص الذي يمكنه التركيز على ما يحدث الآن. كما يمكن للشعور بالتعاسة أن يترافق أيضًا مع أشكال أخرى من شرود الذهن الذي يأتي مع أنواع مختلفة من الأرق والتخدير الخفيف أو المرض (مثل أحلام الحمى أو الاجترار الاكتئابي) ، حيث نكون في حالة من «الشفق اللاواعي»، ونبتلى بأفكار متكررة باستمرار لا يمكننا التوقف عنها. ومن جهة أخرى، في ثقافة مهووسة بالكفاءة لطالما تلهث وراء الوقت، غالبًا ما يتم النظر إلى  شرود الذهن كتأكيد على كسلنا المتأصل بحيث يعتبر نوعًا من التفكير الذي نعتمد عليه عندما لا نريد التركيز على الأمور المهمة، ولذلك نجد أن سيغموند فرويد، مثلًا، وصف أحلام اليقظة بأنها «طفولية» ووسيلة للهروب من الأعمال الحياتية الضرورية  إلى تخيلات لا تهدف إلا إلى «تحقيق الرغبات». كما أنه قبل فرويد بزمن بعيد نجد أن الطبيب اليوناني في القرن الثاني الميلادي جالينوس كان يعتقد أن شرود الذهن هو نتيجة التراخي الجسدي والعقلي، لذلك أوصى بنظام المنطق والعمل الجاد والمنظّم لتجنب ذلك، وكان قد أشار إلى علاقة ما  بين شرود الذهن والكسل فقال بأن: «الكسل يولّد مزاج الدم!» بحيث إن الافتراض هنا بأن التركيز هو نوع من الانضباط النفسي البيولوجي، وهو شيء يتعين علينا العمل عليه لمنع عقولنا «الشاردة» من الخروج عن سيطرتنا.

في شرود الذهن سبيل إلى حالة عاطفية أفضل
على الرغم من هذه النظرة السلبية، هناك من يعتقد أن لشرود الذهن إيجابيات فعلية، وكان أول من لفت الانتباه إلى هذا الأمر جيروم سينجر، أستاذ علم النفس في جامعة ولاية بنسلفانيا وأبو أبحاث أحلام اليقظة، بحيث أكد في كتابه: «العالم الداخلي لأحلام اليقظة» (1975)، بأن أحلام اليقظة يمكن أن تكون مفيدة أكثر من كونها مجرد مضيعة للوقت. أما اعتقاده الأساسي فهو أن شرود الذهن أمر طبيعي تمامًا وبالتالي لا بد أن يكون له وظيفة معينة، فمثلما تؤدي مشاعر الخوف مثلًا، إلى مساعدتنا على تجنب المخاطر، ومثلما تساعد مشاعر الحزن في منع الأخطاء المستقبلية، يجب أن يحقق شرود الذهن إفادة أيضًا. يقول سينجر بأنه ليست كل أشكال الشرود الذهني هي نفسها، بحيث إن هناك أدلة أولية على أن الأفكار التلقائية التي تسيطر على أحلام اليقظة تلعب دورًا مهمًا في التعافي من التجارب السيئة، وكذلك في التخطيط للقيام بمهام مختلفة، وفي حل المشكلات، والتفكير الموجّه نحو الهدف، وربما حتى في أشكال أعمق من التأمل الذاتي. وقد أظهرت الأبحاث الحديثة في علم النفس التنموي أن الأطفال والبالغين الذين ينخرطون في أنواع معينة من شرود الذهن يظهرون بالفعل مرونة معرفية أكثر، ويعملون بشكل أفضل عندما يُطلب منهم ممارسة وظائف «تنفيذية»، مثل حل المشكلات والتخطيط والإدارة. ففي الواقع يمكن أن يُنظر إلى شرود الذهن على أنه عملية تنظيم ذاتي عاطفي فيكون العقل المتجول مثل عقرب الساعة يتأرجح يمينًا وشمالًا عبر مشهد عاطفي داخلي، بحيث يهرب من التصورات والمشاعر غير السارة ويحاول الوصول إلى حالة عاطفية أفضل. فمن خلال شرود الذهن يمكن استلهام الخيال الرمانسي وتصوّر لقاءات تثير الشوق والإحساس الداخلي الجميل، ألم يقل جبران خليل جبران: «إن الابتسامة وقت شرود الذهن لقاء من نوع آخر؟!». وكذلك الشاعر المتيّم ابن دراج القسطلي، ألم يضرب موعدًا لحبيبته في عالم الكرى والأحلام عندما تعذر عليه لقاؤها فقال: 
إن كان واديك ممنوعًا فموعدنا
وادي الكرى، فلعلّي فيه ألقاك؟
نشاط ذهني متأجّج يؤدي إلى الإبداع
بالإضافة إلى الشعور بالسعادة قد يسهم الترحال العقلي أثناء شرود الذهن في تعزيز التفكير الإبداعي، فبينما تستكشف الشبكة الافتراضية إمكانيات جديدة من خلال تخيل مشاهد يمكن أن تختلف جذريًا عن الماضي الفعلي والحاضر الفعلي-تسمح لنا باستنباط أفكار حيوية تؤدي إلى اكتشاف ما لم يوجد بعد والتعرف عليه بعمق. فخلال شرود الذهن تتدفق الصور والأفكارالعفوية واللاواعية في طريقة قد يكون أبلغ وصف لها ما كتبته الأديبة الإنكليزية فيرجينيا وولف، في روايتها(إلى المنارة)، عندما أشارت إلى النشاط الذهني الذي يتكشف داخل عقل شخصية ليلي بريسكو بحيث تقول: «من المؤكد أنها (أي ليلي) كانت تنفصل عن الأشياء الخارجية، ولكن عقلها كان يظل يفجر من أعماقه مشاهد وأسماء وأقوالًا وذكريات وأفكارًا مثل نافورة مياه متدفقة». وغالبًا ما تتدفق هذه الأفكار في تيار من الوعي غير المترابط فيكون التفكير مرنًا وغير خطّي يسمح بعمل روابط غير متوقعة وقفزات حدسية يمكن أن تؤدي إلى ظهور مفاجئ لإدراك أمور جديدة ومبتكرة. يقول الكاتب الأمريكي إدغار آلان بو: «من يحلمون في النهار مطّلعون على أشياء كثيرة تخفى على من يحلمون في الليل فقط». ولأنها كذلك، أي أن أحلام اليقظة تسمح بالاطلاع على أمور جديدة، فهي بالنسبة للبعض جزء لا يمكن الاستغناء عنه من العملية الإبداعية، فممّا لا شك فيه أن المبدعين والفنانين والعلماء قد مارسوا لعبة أحلام اليقظة بمهارة فائقة سواء الشاعر الإنكليزي وليم ووردزورث وهو يتجول وحيدًا  كالسحابة (كما أشار هو نفسه في قصيدته «تجولت وحيدًا كسحابة»)، أو ألبرت أينشتاين وهو يتخيل نفسه يسافر على متن شعاع من ضوء الشمس (كما تخيل يومًا عندما كان في سن السادسة عشرة كيف سيكون الحال لو أنه سافر على متن شعاع ضوئي)، أو أورهان باموك، الكاتب التركي المعروف، عندما حلم في طفولته بعالم آخر مختلف تمامًا عن العالم الواقعي، والذي ألهمه الكتابة في صباه. 
قد يكون من أهم ما يتيحه شرود الذهن هو التعمق في العقل اللاواعي والتوصل إلى الاكتشافات عن طريق الصدفة، والتاريخ مليء بأمثلة عن العلاقة بين الشرود الذهني والاكتشافات التي جاءت عن طريق الصدفة البحتة. وقد يكون من أبرز الشخصيات المؤثرة التي آمنت بتلك النظرية، مؤرخ الفنّ الألماني أبي واربورغ  (1866-1929) الذي أسس مكتبته الشهيرة التي تضم ما يفوق  50000 كتابًا بهدف تعزيز شرود الذهن. فكانت تلك المكتبة التي هي بمثابة نواة لمعهد واربورغ في لندن تتكون من أربعة أدوار، وكان كل دور  فيها مخصص لواحد من بين أربعة موضوعات رئيسية وهي: الصورة، والكلمة، والتوجيه، والعمل – وكانت مقسمة إلى موضوعات فرعية، مثل «السحر والعلم» و«نقل النصوص الكلاسيكية» و«تاريخ الفن». وعلى أساس ما كان يعتقده واربورغ بأنه يمكن أن يحدث تلاقحًا للأفكار بين محتويات الكتب المختلفة ويؤدي إلى تجاوز الحدود بين التخصصات- كان يقوم بترتيب الكتب، فكان يضع مجلدًا طبيًا قديمًا من القرن السابع عشر مثلًا، إلى جانب كتب تحتوي على نصوص في الرياضيات وعلم الفلك وعلم الاجتماع، وذلك لكي تعزز الرفوف الصدفة الفكرية عندما يتخطى الباحث الكتاب (أو الفكرة) التي يبحث عنها إلى فكرة أو موضوع آخر مثير للاهتمام لم يكن يخطر بباله على الاطلاق. 
وأخيرًا، لا بد من الدفاع عن شرود الذهن الذي، وعلى الرغم من مختلف المزايا السلبية التي تُلصق به، لكنه مايزال غالبًا، يحمل معه مشاعر الراحة والسعادة ويسمح لنا بتوسيع آفاقنا العقلية، لذلك قد يكون أفضل نصيحة يمكن تقديمها هنا هي نصيحة تنقلها مقولة ألمانية جميلة «die Seele baumeln lassen»، تعني بمعناها الحرفي «دع روحك تسترخي»، وبمعناها الضمني «دع ذهنك يشرد»، أقلّه لكي نتمكن من الاسترخاء والتمتع بالحياة، وربما لاكتشاف أنفسنا وأسرار العالم من حولنا ■