الصداقة صحة وفرح

الصداقة صحة وفرح

   قيل إن التواجد مع صديق حقيقي هو العلاج الذي نحتاجه إذا ضاقت صدورنا، أو ألمّت بنا علّة، لأنه مَن يسمعنا حتى لو لم ننطق بكلمة، ويتقبلنا كما نحن، ويدفعنا لنكون أفضل. وعندما يُطلب منا إعداد قائمة بأنواع الحب، أو إدراج ما يعطي لحياتنا معنى، كثيرًا ما يأتي ذكر الصداقة والأصدقاء. فالصداقة في أحد تعاريفها، اعتماد متبادل بين شخصين ينمو مع الوقت، ويحقق أهدافًا اجتماعية وعاطفية تتضمن درجات من الصحبة والمساعدة. ويبقى اكتساب الأصدقاء جانبًا مهمًا من السلوك الإنساني في جميع المجتمعات وعلى مدار السنين. 

 

وللإجابة على سؤال: لماذا الأصدقاء؟ أكدت عديد من الدراسات أهمية الصداقة كعلاقة مدهشة لها آثار إيجابية على صحتنا الجسدية، وسلامتنا النفسية، وتعزيز شعورنا بالسعادة والفرح، باعتبارها مصدر من مصادر الدعم الاجتماعي في جميع مراحل الحياة، بدءًا من الطفولة وحتى الشيخوخة. فللأصدقاء دور خاص ومميز في السراء والضراء عندما نتشارك معهم أحلى لحظاتنا وأحلك ظروفنا؛ فهم من يقابل حاجاتنا الاجتماعية بحبهم وتقديرهم ودعمهم ومساندتهم لنا. وهم من يلهمنا بمشاركة التجارب والأنشطة وتبادل الأفكار. وربما لهذا اعتبر أرسطو الصديق ذاتًا ثانية، وقال: «بدون الأصدقاء لا أحد سيختار أن يعيش». 

لماذا الأصدقاء؟
حددت دراسة أعدها باحثون من جامعتَي نيقوسيا وكريت بقبرص واليونان، واحدًا وأربعين سببًا لعقد الصداقات، استُخرجت من عيّنة مكونة من 1326 مشاركًا من متحدّثي اليونانية. ثم صُنّفت في خمس مجموعات، أهمها مجموعات الأسباب الاجتماعية، والبحث عن الدعم، ووجود صفات وسمات جاذبة ومرغوبة في الصديق، بينما تراجعت أهمية أسباب مجموعة تحقيق المصلحة. وفي الوقت الذي ركزت فيه النساء على دوافع المشاركة الاجتماعية، والدعم لعقد الصداقات، أكد الرجال على أهمية الصداقة في تحقيق التقدم المهني. كما اهتم المشاركون الأصغر سنًا بأمر الحصول على دعم، في الوقت الذي وجد فيه الأشخاص الأكبر سنًا، الصفات والسمات المرغوبة دافعًا أقوى لإقامة الصداقة. وبينت الدراسة تبني واحد من كل ثلاثة مشاركين لاستراتيجية كسب الأصدقاء التي تهتم بالصداقة الحقيقية، وبالفرص التي يمكن أن تنتج عنها في الوقت نفسه.  
واعتقد الباحثون أن النتائج قد عكست طبيعة الثقافة اليونانية الجمعية التي تؤكد على العلاقات ولا تركز على المكاسب المادية - كالثقافة الأمريكية الفردية المادية، ونظام الرفاهية الاجتماعية غير المتطور، المختلف عما هو عليه الحال في السويد - ولهذا تكتسب الصداقة أهمية خاصة لضمان توافر المساندة. 

أهمية الصداقة حول العالم
تناولت دراسة أخرى أجرتها مجموعة من الباحثين في جامعات أمريكية من المتخصصين في الإرشاد النفسي، وعلم النفس الإكلينيكي - أهمية الصداقة حول العالم، والعوامل الثقافية المؤثرة على ارتباط الصداقة بالصحة والسعادة والسلامة الذاتية، والعديد من الفوائد في السياقات المختلفة. وكشفت النتائج التي تم تحليلها على مستويات متعددة عن أن كلًا من النساء، والأشخاص الحاصلين على مستوى تعليم مرتفع، ومواطني البلدان المتمتعة بعدالة اقتصادية، يقدرون الصداقة أكثر من سواهم، ويضعونها في مرتبة متقدمة في قائمة الأولويات في الحياة، وترتبط الصداقة لديهم بالصحة الجيدة، والسلامة الأفضل. فوفقًا لعوامل ثقافية متعددة، تثري الصداقة الحياة بطرق شتى، ويمنح الأصدقاء بعضهم الدعم المادي والمعنوي، مع إحساس قوي بالصحبة الذي يبدد الشعور بالوحدة. 
وعادة ما يساهم الأصدقاء في تعزيز تقدير الذات، ويرفعون من مستوى الشعور بالرضا عن الحياة، كما يساعدون بعضهم على الاعتياد على سلوكيات سليمة، كممارسة الرياضة، وخسارة الوزن الزائد - مع احتمال اكتساب السلوكيات السلبية -، ولهذا تكون الصداقة مفيدة للصحة النفسية والجسدية، وكلما وضعت أولًا يصبح الأصدقاء أوفر صحة. هذا وللسياقات الثقافية تأثير على وظيفية الصداقة والتعبير عنها، ووفقًا لذلك تتغير منافعها من ثقافة إلى أخرى ومن سياق لآخر، فارتباط الصداقة بالصحة والسعادة يأتي من الدعم الاجتماعي والصحة العقلية والجسدية عبر مراحل الحياة المتعددة. 

عوامل ثقافية
رأت الدراسة المذكورة التي شملت عيّنتها 323200 مشارك من 99 بلدًا، أن مفهوم الصداقة والتوقعات منها، والعدد الملائم من الأصدقاء، يتباين في الثقافات والبلدان المختلفة، وعلى سبيل المثال، لدى الأمريكي أصدقاء أكثر مقارنة بمواطن غانا الأكثر حذرًا. ويختلف تعريف المراهقين الصينيين للصداقة عن تعريف أقرانهم الغربيين. وتكون الصداقات مستقرة ومرنة في مجتمعات أكثر من غيرها، بينما تكون كثيرة التغير مع تزايد الحريات والحراك الاجتماعي. 
ويؤثر مستوى الدخل وتوجهات المجتمع وعوامل ثقافية أخرى على مستوى تقدير الصداقة، فارتفاع الدخل، وجودة التعليم العالية، والخدمات الصحية المتميزة، وتوافر وسائل المواصلات الملائمة، ومستوى المعيشة الجيد، وعدم تعرض العلاقات إلى ضغوط، بحيث لا يستدعي الوضع طلب المساندة - كل ذلك قد يعني تراجع تقدير الصداقة في قائمة الأولويات. مثلما يؤدي تراجع العدالة في الدخل إلى تفضيل إنفاق الوقت على العمل، أو الاضطرار إلى ذلك - على إنفاقه على كسب الصداقة أو تعزيزها، فلا تقدّر الصداقة كما ينبغي. وحسب الدراسة، لا تفضل المجتمعات الفردية توثيق الصداقة بدرجة كبيرة على عكس المجتمعات الجمعية، كما في الدراسة السابقة. وتتراجع الصداقة في المجتمعات الذكورية الأكثر استقلالية، مقارنة بالمجتمعات النسوية. بينما يُعتبر عامل تجنب عدم اليقين، من مصادر التوتر الذي يمكن أن يؤدي إلى طلب دعم الصداقة وتقديرها، نتيجة لدورها في تجنب الغموض. 
ومن جانب آخر ينشّط التساهل الاجتماعي أحيانًا المشاعر السلبية، كالشعور بالذنب والندم، ولهذا تكون البلدان عالية التساهل مشجّعة على مشاركة الناس في أنشطة ينتج عنها مشاعر سلبية وضغوط نفسية ومتاعب صحية، وإن لم توجد دراسات مقارنة للتساهل في مقابل الشدة، مما يتنبأ بمواصفات الصداقة، غير أن الأفراد الذي يشعرون بحرية المشاركة في أنشطة منصبّة على المتع في مجتمع متساهل، كإنفاق الوقت مع الأصدقاء، يقدّرون الأصدقاء والصداقة، ويستفيدون منها بشكل أكبر. 

صفات الصديق 
وفقًا لنتائج مسح بريطاني أُجري بتكليف من العلامة التجارية «فيشرمانز فريند» على ألفَي شخص: يحتاج اكتساب الأصدقاء إلى أربعة وثلاثين ساعة من الالتزام، أي ما يعادل 2040 دقيقة. ويتطلب نقل شخص من قائمة المعارف الجدد إلى قائمة الأصدقاء أحد عشر تفاعلًا، لا يقل الواحد عن ثلاث ساعات، على مدار خمسة شهور ونصف.  
وبينت النتائج التي قام بتحليلها أستاذ أكسفورد وعالم الأنثروبولوجي البريطاني روبن دنبار، صاحب نظرية ترى أن حدود شبكة علاقاتنا ذات المعنى 150 شخصًا، خمس منها فقط تعد علاقات وثيقة - أن معظم الناس يتطلعون إلى زيادة عدد أصدقائهم الحقيقيين. فقد ذكر 58 في المائة من المشاركين في المسح أنهم بحاجة إلى عدد أكبر من الأصدقاء كي يشعروا بالسعادة.  
وعن صفات الصديق المطلوبة وضع المشاركون خفّة الظل في المقدمة بنسبة 61 في المائة، ثم حمْل نفس القيم بمعدل 44 في المائة، وامتلاك نفس الاهتمامات، وممارسة نفس الأنشطة، وفقًا لـ 26 في المائة. وأن يكون الصديق جديرًا بالثقة، ويُعتمد عليه بمعدل 25 في المائة و23 في المائة على التوالي. أما ما يميز الصديق الأفضل عن غيره، في رأي المشاركين، فهو التواجد عند الحاجة لتقديم المساندة، والقدرة على تقبّل الصديق في أسوأ حالاته. بينما تم رفض الكذب في الصديق، وفقًا لـ 29 في المائة، وإفشاء الأسرار، والغياب عند الحاجة بنسبة 25 في المائة. 
واتضح من المسح أن بعض المشاركين أصدقاء أوفياء - فيما يبدو - لأن بعض صداقاتهم قد امتدت إلى تسعة وعشرين عامًا، مع أمنيات الاستمرار لفترة قادمة. ولكن عدد الصداقات التي تبقى، قليلة جدًا، والغالبية تستمر لسنتين أو نحو ذلك، والقليل جدًا ما يعيش فترة طويلة، ولا يحدث هذا الامتداد إلا ببذل الجهد من جانب كلا الطرفين. وأفضل الصداقات ما يركز على قيَم الاحتفاء بنجاحات الأصدقاء، والاحترام المتبادل فيما بينهم، والتشجيع عندما لا تكون الأمور على ما يرام. 

افتراضات خاطئة 
ينشغل معظمنا ويُستنزف بأعباء الحياة، ويُؤجل التواصل مع الأصدقاء. وما بين الانشغال والتأجيل تمر السنوات، ويغيب عنا بعض الأصدقاء ونغيب عنهم، ويصعب التواصل من جديد بسبب افتراضات خاطئة كشفت عنها دراسة نُشرت في 2022 بمجلة تصدرها جمعية علم النفس الأمريكية، حيث ذكرت أن الناس عادة ما يقللون من شأن أصدقائهم الذين فقدوا التواصل معهم، فيما يتعلق بقدرتهم على الاستماع إليهم، ودعت إلى البحث عن هؤلاء الأصدقاء، والحديث معهم بلا تردد. 
وتأتي هذه الدعوة في ضوء سلسلة من التجارب التي أجراها الباحثون على آلاف الأشخاص لإثبات ترحيب الأصدقاء وفرحهم بتواصل أصدقائهم، سواء كان ذلك بمكالمة هاتفية، أو رسالة عبر البريد إلكتروني، أو هدية رمزية. وهو ما تؤكده خبيرة الصداقة ميريم كيرماير، وتنبّه إلى ضرورة الالتفات إلى أنماط التفكير الآلية التي تظهر عندما يفكر الشخص في التواصل مع صديق، فتمنعه أو تجعله يتردد قبل الإقدام على التواصل. وتتضمن هذه الأنماط افتراضات غير صحيحة في الغالب، كافتراض وجود اهتمام أقل بالعلاقة من الطرف الآخر، أو افتراض عدم رغبة الآخر في التواصل، أو الخوف من الرفض الذي يعد من أكثر المخاوف شيوعًا. وتشجع على تكوين صداقات جديدة، واستثمار الوقت والجهد في تطويرها، لتصبح أكثر عمقًا، وأكثر قدرة على إثراء للحياة ■