ولكني اعتدت!

ولكني اعتدت!

أحنَت قامته السنون التسعون، فأعارته مشية السلحفاة! يدرج على جسر رفيع فوق نهر التايمز، مجرجرًا أذياله في ممر ضيق أمام شاب أرعن، يقدم عجلًا، تخدعه قوته كمن أصابه مسّ! لم يكن يدري ذلك الشاب أن ذاك العجوز، هو الأديب، الساخر الكبير، صاحب اللسان اللاذع، المبدع البارع... علَم المسارح، كاتب: (تلميذ الشيطان)، (القلوب المحطمة)، (بجماليون)، (فرسان المائدة المستديرة)، (سيدتي الجميلة)، (بنت الجبل).... الذي يرى أن في البغض انتقام الجبناء، وأن الصمت أبلغ من الجلَبة، ذلكم هو (أحدب نوتردام) زمانه، الذي صعد في المحطة الأخيرة من قطار الزمن. برنارد شو (1856-1950) مَن أضحك زمانه وأبكاه سنوات وسنوات. وهو هنا في هذه العجالة سيّد الموقف، وبطله المرموق!
 ... شرع الشاب الأرعن يمشي بكبرياء وغطرسة، ماسحًا بعينيه تلك القامة، مباغتًا مفرملًا ومنطلقًا كعربة أفلتت لتوها من سكّتها... وراح يرغي مزبدًا متلفّظًا بالسباب المحموم، غير آبه ولا مراعٍ ذلك الإنسان الفذّ! ضاربًا كفًا بكفٍ، محتجًا صارخًا منتفضًا!
- مرّقني يا لئيم! أنا لم أعتد انتظار أحد مثلك! 
يبادره (شو) على الفور معيدًا له صفاقته! 
- حسنًا، ولكني اعتدت أن أرى أمثالك الكثيرين.
- أجل، اعتدت مقابلة الإساءة بالإحسان، والغموض بالوضوح، والأسود بالأبيض، والشر بالخير، والاحتقار بالاحترام. تطايرت أصداء الموقف، مشعلةً السخط، مثيرةً الحنق، إذ لم يرعَ ذاك المستكبر حرمة الإنسان، ناسيًا أو متناسيًا ترديد شاعرنا:
يا أخي لا تَمِلْ بوجهك عني
ما أنا فَحمةٌ ولا أنت فَرقَد!
أنا أولى بالحبّ مِنكَ وأحرى
من كساءٍ يبلى ومالٍ ينفد!
... فوا رحمةً بإنساننا! فالرحمة تغادر قلوب المستكبرين، هؤلاء العتاة الشياطين. فبالرضا يُدفع السخط، والأمل يحارب اليأس باعثًا الرجاء، والصحة تحارب الأسقام، والصفح يردي الغيظ. لنجعل من هذه القيَم النبيلة ينابيع محبة تصب الوداعة والثقة والمسؤولية في قلوبنا المبصرة الرحيمة، فتورد وجوهنا وتزهر، لنبدو أقرب للخالق من المخلوق، والراحة من التعب... حتى نجني من الشوك العنب، ومن الحب الأرب، ولكن بمنتهى الأدب! ■