الرُّشدية اللاتينية والحضارة الغربية

الرُّشدية اللاتينية والحضارة الغربية

 هنالك حقيقة تُستنبط من حركة التاريخ الإنساني لا يمكن نكرانها أو التجهُّم لها، تتمثل في اتّكاء الحضارات على بعضها وأخذها عن بعضها البعض، والاستثناء الوحيد في هذه المعادلة حضارة الإنسان البدائي، إذا اعتبرنا أنّ الحضارة هي التفاعل بين الإنسان ومحيط بيئته وَفْقَ الأدوات والوسائل التي أنتجها في سبيل التغلّب على الطبيعة ومعوّقات الحياة؛ فحضارة الإنسان البدائي هي الوحيدة التي بدأت من الصفر أو انقدحت من الفراغ.
وكلّ مَن يتمكّن من قراءة تاريخ الحضارات، كما فعل الأمريكي وِلْ ديورانت في كتابه الموسوعي الضخم «قصة الحضارة» أو البريطاني أرنولد توينبي في كتابه «الحضارة في التاريخ»، يُسلّم بهذه الحقيقة التي لا مفرّ من إقرارها.
وإذا كنا نعترف بهذا المبدأ في دورات الحضارة، ونقرّ بأن الحضارة الإسلامية أفادت من الحضارات السابقة خاصة الرومانية والإغريقية والهندية والصينية، فإنّ الإنصاف يدفعنا، انطلاقًا من المبدأ نفسه، إلى التسليم بكون الحضارة الغربية التي نقلتْ الإنسانية من العصر الوسيط إلى العصر الحديث، وباتت الحضارة المهيمنة خلال هذه المرحلة التاريخية أو الدورة الحضارية، قد اتّكأت هي الأخرى على الميراث الحضاري الكبير للعرب والمسلمين وطوّعته إبان انطلاقتها في دورتها الحضارية؛ وللأمانة فإن المنصفين وذوي الضمائر الحية من المؤرخين والفلاسفة الغربيين لا ينكرون هذه الحقيقة ولا يعترضون عليها.
بل إنّ بعضهم يعزو الانطلاقة الحقيقية للحضارة الغربية إلى «الرشدية اللاتينية» ويصرّح بأنّ الفيلسوف العربي ابن رشد هو صاحب الفضل في خروج أوربا من الظلمات إلى النور، فهو إلى جانب تبحّره في الفقه والشريعة الإسلامية والطب والفلسفة، قد انكبّ على كتب أرسطو وقرأها في لغتها الأصلية - اليونانية - وشرحها بأمانة علمية، وبعد وفاته بأقل من عشرين سنة أصدر «فريدريك الثاني» ملك نابولي وصقلية قرارًا يقضي بترجمة جميع مؤلفاته إلى اللغة اللاتينية - وهي أصل اللغات الأوربية - والإفادة منها في النهضة الأوربية الجديدة.
أما لو أردنا الحديث عن أثر اللغة العربية والأدب العربي في الآداب الأوربية، فإنّ الأمر يتطلّب دراسة مطوّلة؛ وقُلْ مثل ذلك عن العلوم المختلفة، ويكفي حضارتنا فخرًا أنّ كتاب «القانون في الطب» لابن سينا الذي تُرجم أكثر من سبع وثمانين مرّة ظلّ مدة أربعة قرون المرجع الرئيس لكليات الطب في أوربا، وفي مقدمتها كلية الطب في جامعة مونبيليه بفرنسا ■