راشد حسين.. الاحتراق شعرًا ووطنًا (شاعر العدد)

راشد حسين.. الاحتراق شعرًا ووطنًا (شاعر العدد)

كيف مات راشد حسين? محترقًا في شقته النيويوركية التي عاش فيها وحيدًا وهو يدشن عامه الحادي والأربعين، أم مختنقًا بدخان الحريق الغامض الذي اشتعل في الشقة من دون أن يتأكد أحد ممن حاولوا اكتشاف ما جرى، كيف ولماذا؟ أم تراه مات مختنقًا بدخان حلمه الجميل في العودة إلى فلسطينه التي أحب العودة إليها حرة مستقلة، وعاش على هذا الحلم بين تفاصيل القصيدة وذكريات النضال المبكر؟

لا أحد يدري بالضبط كيف مرت اللحظات الأخيرة في حياة الشاعر الفلسطيني راشد حسين، لكن ما يعرفه الجميع أن وكالات الأنباء طيرت في أحد أيام شهر فبراير من العام 1977م خبرا مفاده أن الشاعر قضى نحبه إثر حريق غامض اندلع في شقته الواقعة في أحد أحياء نيويورك، وعندها فقط آن للشاعر أن يعود إلى فلسطينه التي قضى سنواته الأخيرة حالما بالعودة إليها مجاهدا بكل السبل في سبيل تحقيق هذا الحلم الذي لم يتحقق إلا لجثته المحترقة وروحه التائقة لرائحة فلسطين وراحة أبدية.

ولد راشد حسين في قرية مصمص التابعة لأم الفحم الفلسطينية العام 1936م لأسرة فلاحية، وانتقل مع الأسرة إلى مدينة حيفا العام 1944م لإتاحة الفرصة للوالد كي يعمل في التجارة، لكن الأسرة عادت لمصمص بعد حرب العام 1948م حيث بدأ راشد حسين حياته الدراسية التي أكملها لاحقًا في مدينة الناصرة. وبعد تخرجه عمل في التعليم لكنه بعد عام دراسي واحد فقط فصل من العمل بسبب نشاطه السياسي الذي بدأ يتصاعد تحت وطأة تصاعد الاحتلال، فعمل في الصحافة ونشط في حزب العمال الموحد آنذاك، قبل أن يوزع ذاته الطموح بين تجليات مختلفة للنضال الوطني من أجل حرية فلسطين.

بدأ راشد حسين باكتشاف موهبته الشعرية في سن مبكرة جدًا، حتى أنه أصدر مجموعته الشعرية الأولى وهو في العشرين من عمره، وهي فرصة قلما تتاح لغيره في ذلك الوقت. وقد انتشرت قصائده الوطنية بين الناس الذين وجدوا فيها تعبيرًا عن حنقهم على الاحتلال وغضبهم مما أحدثه في حياتهم بشكل عام، وقد أجاد الشاعر التعبير عما يدور في خلجات أولئك الناس بلغة سهلة ممتنعة وجميلة جدا أهلته لأن يكون في طليعة شعراء فلسطين حتى أنه عرف لدى كثير من النقاد ومؤرخي الأدب باعتباره مؤسس شعر المقاومة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني المحتل.

ولم ير راشد حسين معنى للقصيدة إن لم تكن مغمسة بالهم الفلسطيني ومسيجة بالحلم الوطني، ولذلك كانت قصيدته ترجمة لهموم وأحلام أبناء شعبه من دون أن تفقد قدرتها على اقتناص جمالياتها الخاصة من رحم الموهبة التي تمتع بها واتكأ عليها وهو يراكم شعريته بنفس ثوري ملتزم بالوطن والقصيدة معًا.

في منتصف ستينيات القرن الماضي سافر راشد حسين إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال دراسته العليا، ولم تلبث أن حلت نكسة العام 1967 بديار العرب، فأيقن راشد حسين أن نيويورك المحتشدة بالصهاينة ليست مكانه المناسب، فاستغل أول فرصة للهجرة إلى أي بلد عربي يمكن أن يستقبل حلمه المستمر، فكانت بيروت محطته الأولى. وفي حرب السادس من أكتوبر العام 1973م سافر إلى سورية حيث التحق في الإذاعة السورية محررًا للقسم العبري فيها مستغلاً معرفته باللغة العبرية، كما شارك في تأسيس مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعد انضمامه إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي عمل لاحقًا ممثلاً ثقافيًا لها في الأمم المتحدة في نيويورك التي عاد إليها هذه المرة ممثلاً لفلسطينه. فكان شعلة من نشاط إعلامي وسياسي واجتماعي دائم، وكانت كتاباته الشعرية والنثرية في أوجها، وكأنه وجد نفسه يقاتل عدوه البعيد القريب بسلاح الكلمة الحاضرة دومًا في ذهنه على أوراقه. ولم تحتمل إسرائيل كل هذا فمنعته للأبد من العودة إلى دياره الأولى. وهكذا حرم من رؤية أهله حتى رحيله المأساوي لاحقا.

عندما اضطرت السلطات الإسرائيلية تحت الضغط الشعبي الكبير للموافقة على دفنه في مسقط رأسه، خرج أبناء قريته لاستقبال ابنهم العائد إليهم بعد طول غياب مضمخًا بعبير الأسى الوطني.

أصدر راشد حسين مجموعته الشعرية الأولى بعنوان «مع الفجر» العام 1957م مبشرا بفجر لابد سيأتي لينير الأرض الفلسطينية الصابرة والثائرة، وبعدها تتابعت مجموعاته الشعرية ومنها؛ «صواريخ»، و«أنا الأرض لا تحرميني المطر»، بالإضافة إلى الترجمات التي أنجزها من العربية إلى العبرية ومن العبرية إلى العربية. وبعد رحيله أصدرت لجنة فلسطينية خاصة لإحياء تراثه الشعري بعض أعماله.

 

 

 

سعدية مفرح