تلك الأيام
من دفتر
الذكريات
"الحياة مجموعة من الخبرات المتنوعة، وليس بالضرورة أن تشابه وتتكرر، إنما كثير من الخبرات منفردة تضيف معنى جديدا للحياة، وتعطيها لذة التراكم، وقد اختارت "العربي" مجموعة من المتميزين العرب ليروي كل بطريقته الخاصة بعضا من ذكرياته التي أصبحت دروسا في الحياة.
"تقول الحكمة العربية: "الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم". وهي حكمة تنبئ بما لقضايا العصر وملابساته وهمومه وأحداثه من آثار بعيدة في نفوس الناس. ولا عجب بعد في أن نجد العلماء والمؤرخين والنقاد الكبار يعنون في دراساتهم ببيان السمات الأساسية للعصر والبيئة، وما يتركان من طوابع وبصمات في نفوس أبناء العصر وتوجهاتهم وتصرفاتهم ونتاجهم الفكري والأدبي والفني.
وكان لجيلنا الذي أنتمي إليه همومه وقضاياه التي طبعته بطابعها، وأكسبته صفاته التي أفردته وميزته. أنا من الجيل الذي فتح عينيه على أنباء الثورة السورية، ونشأ في أكنافها، وشهد حملات التأديب الفرنسية الشرسة تجوس خلال الديار، تعيث فسادا، وتخلف خرابا وشرا، تريد أن تقضي على الحس الوطني، وتئد روح المقاومة المتأججة في صدور المواطنين، وتسكت صوت الحرية.
وعاش جيلنا مرحلة النضال، وخاض معارك قدم فيها أغلى التضحيات، وقاد مسيرات شعبية عبرت عن روح المقت والكره للاستعمار، ونددت بأساليبه الماكرة وطرقه الخداعة. وعرف جيلنا معاني البطولة والفداء، ودق باب الحرية بأيد مضرجة بالدماء، واشتري الاستقلال الكريم العزيز بالنفوس والمال وكل غال، بذلها رخيصة لينعم بالحرية. هل يقوى أحد أن يعدد المعارك التي خاضها الشعب؟، هل يستطيع أحد أن يسرد التضحيات التي قدم؟
لقد استنفر الشعب كل طاقاته ليواجه القوى العاتية الاستعمارية، ومضى في نضاله وكفاحه يجاهد المستعمر الغاضب خمسا وعشرين سنة، حتى كتب الله له النصر، وتعالى في سماء البلاد علم الحرية والاستقلال.
كان جيلنا جيل الحرية والوحدة. وما أكثر ما حاول الاستعمار أن يفصم عرى التواصل العربي، وأن يحيي روح الإقليمية الذميمة، فباءت جهوده بالإخفاق، وذهبت دسائسه أدراج الرياح ... كنا أشد ما نكون تطلبا للحرية، وكنا أكثر ما نكون تطلعا لقضايا الوطن العربي، نشارك فيها ما وسعتنا المشاركة، ونتتبعها من أقصى المغرب حتى الخليج العربي.
كنا في تلك الأيام لا نغفل مناسبة لنشدد الخناق على المستعمر، ولنجدد النضال، لا نتوقف أبدا. كنا نجهد ونبذل لنعرف أخبار الوطن، نقرأ باهتمام ما يقوم به علال الفاسي ومصالي الحاج وأمثالهما في مغرب الوطن العربي، لنهتبل المناسبات الوطنية التي توثق ما بيننا وبينهم من روابط الإخوة والقومية. ونطالع في "العمل القومي" و "الشباب" و "الأمة العربية La Nation Arabe" (التي كان يصدرها الأمير شكيب أرسلان في جنيف) ، و "الهدف" و "الهاتف" و"الغد" ، وأمثالها مما يشحن الصدر ويوغره على المستعمر الغاشم ويزيدنا مضاء في إحباط مخططاته الكريهة المقيتة.
وتحضرني ذكريات تلك المرحلة، تصحبني ما تفارقني. إنها ذكريات غضة أبدا. عشت أحداثها، وشاركت فيها في مدينة حمص مسقط رأسي، وفي دمشق حيث أكملت دراستي الثانوية، وفي القاهرة التي تابعت فيها دراساتي الجامعية والعليا.
وهذه واحدة من
ذكريات تلك الأيام:
طالعتنا الأنباء بثورة رشيد عالي الكيلاني في
العراق سنة 1941م ، فهبت بلاد الشام (سورية) هبة رجل واحد . وكنت طالبا في ثانوية
دمشق (الثانوية الرسمية الوحيدة في دمشق آنذاك)، وتداعى الطلاب وتنادى خطباؤهم
منددين بالاستعمار، وانتظموا صفوفا يتقدمهم أساتذتهم ليخرجوا في مسيرة احتجاج.
وتصدت لهم القوى الفرنسية بقيادة الكولونيل (كويتو) وكان من عتاة المستعمرين
الطغاة. ونشبت المعركة على باب المدرسة، ولم يكن بد - وقد تعالى صوت رصاص
الفرنسيين- من العودة إلى المدرسة والاعتصام بجدرانها.
وبدأت معركة حامية الوطيس، كان سلاح الطلاب الحجارة التي وجدوها على سقف المدرسة، وسقط طلاب كثيرون جرحى، تجاوز عددهم مائة وخمسين طالبا. ولما أسدل الظلام سجوفه بدأت المفاوضات بين مدير المدرسة والقوى الفرنسية، وتباعد الفرنسيون، وخرج الطلاب إلى منازلهم. وبقينا نحن الطلاب الداخليين معتصمين بالمدرسة.
كانت الحماسة تملأ الصدور، وكانت الأصوات ترتفع معبرة عن هذه المشاعر الوطنية التي تتوقد جذوتها، وكان النقاش والشورى، وأجمع الحاضرون أن هذه الثورة التي شب أوارها في العراق تحمل بشائر الوحدة، وأن وقت العمل قد أزف.
وصعد الطلاب إلى سقف المدرسة، ثم رفعوا على ساريتها، في خشوع وجلال العلم العربي، إيذانا بأن فجر الوحدة العربية قد أشرق، وكانوا يترنمون بصوت ملؤه الثقة والإيمان:
بلاد العُرب أوطاني |
من الشام لبغدان |
ومن نجدٍ إلى يمنٍ |
إلى مصرٍ فتطوان |
فلا حدٌ يباعدنا |
ولا دين يفرقنا |
لسان الضاد يجمعنا |
بعدنان وقحطان |
ورفرف العلم العربي (علم الوحدة العربية) في سماء دمشق عام 1941 م ، وتنادى الطلاب يحرسون علمهم، يفدونه بالنفس والدم.
وتطوع متطوعون التحقوا بالثورة في العراق، وتأسست جماعة (نصرة العراق) وتبرع متبرعون، وقدم العرب الأماجد أغلى التضحيات . . ثم تلاشت الأحلام، وانهار البنيان الشامخ الذي تشوفنا إليه، وانقضى كل شيء، وبدأ النضال من جديد . . .
وأعود اليوم بعد ثمانية وأربعين عاما، وتطالعني ذكرى العلم العربي يرفرف في سماء دمشق وأتمثل الأحداث أمامي، وتتلوها ذكريات طويلة، فيها البهيج وفيها المرير، وأنظر إلى أحوال قومي وما يعانون، وأحلم بوحدة الوطن، فأتمتم بصوت خافت حزين:
حبذا العيش حين قومي جميع |
لم تفرق أمورها الأهواء |