ذاكرتنا الجمعية وترهات مواقع التواصل

ذاكرتنا الجمعية وترهات مواقع التواصل

تموج‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الفرد‭ ‬أحداث‭ ‬كثيرة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بأمور‭ ‬شخصية‭ ‬بسيطة‭ ‬وأخرى‭ ‬لها‭ ‬ارتباطات‭ ‬متشعبة‭ ‬وأكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬المكتنزات‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬أو‭ ‬اقتصادية‭ ‬أو‭ ‬ثقافية،‭ ‬لكنها‭ ‬حتمًا‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬بالغ‭ ‬‏في‭ ‬تشكيل‭ ‬لبنات‭ ‬حياة‭ ‬الفرد،‭ ‬كما‭ ‬تزخر‭ ‬الذاكرة‭ ‬بأحداث‭ ‬متفاوتة‭ ‬في‭ ‬درجات‭ ‬السعادة‭ ‬والفرح‭ ‬والحزن‭ ‬والألم،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬وغيرها‭ ‬تشكل‭ ‬الإرث‭ ‬الراسخ‭ ‬في‭ ‬تلافيف‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وهذه‭ ‬الحصيلة‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬سلوكيات‭ ‬الفرد‭ ‬وطرق‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الأحداث،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬سبل‭ ‬تشكيل‭ ‬بنى‭ ‬ثقافية‭ ‬لدى‭ ‬الفرد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لدى‭ ‬الجماعة‭.‬

 

وللولوج‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬بدقة‭ ‬أكبر‭ ‬يتوجب‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬نشوء‭ ‬مفهوم‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية،‭ ‬ومتى‭ ‬بدأ‭ ‬تداوله؟‭ ‬وأين؟‭ ‬وكيف؟‭ ‬وباختصار‭ ‬شديد‭ ‬وللإجابة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬المستحقة،‭ ‬الفضل‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الفرنسي‭ ‬موريس‭ ‬هالبفاكس‭ ‬المتوفى‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1945م،‭ ‬حيث‭ ‬ركّز‭ ‬في‭ ‬دراساته‭ ‬وبحوثه‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬الذي‭ ‬يعمد‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬الروابط‭ ‬والتمثيلات‭ ‬المشتركة‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬المجتمع،‭ ‬ثم‭ ‬رصد‭ ‬طرق‭ ‬وسبل‭ ‬استعادة‭ ‬الأفراد‭ ‬بعض‭ ‬الأحداث‭ ‬المرحلية‭ ‬التي‭ ‬عاشوها‭ ‬أو‭ ‬سمعوا‭ ‬عنها‭.‬

ويرى‭ ‬هالبفاكس‭ ‬أن‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬تشترك‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬مع‭ ‬صفات‭ ‬الكائن‭ ‬الحي،‭ ‬فهي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عناية‭ ‬خاصة‭ ‬للصمود‭ ‬والبقاء‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تتقاذفها،‭ ‬وربما‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬ذلك‭ ‬منظومة‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والأعراف‭ ‬المكتسبة‭ ‬ومظاهرنا‭ ‬الاحتفالية‭ ‬التي‭ ‬تستقر‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية،‭ ‬فهي‭ ‬كسباق‭ ‬الجري‭ ‬مَن‭ ‬يصمد‭ ‬أطول‭ ‬وستكون‭ ‬لديه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التحمل‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬توافر‭ ‬القوة‭ ‬البدنية‭ ‬والثبات‭ ‬الذهني‭ ‬وأمور‭ ‬أخرى‭ ‬تتعلق‭ ‬باللياقة‭ ‬والتكتيك،‭ ‬سيكتب‭ ‬له‭ ‬الظفر‭ ‬بالمركز‭ ‬الأول‭ ‬ثم‭ ‬الذي‭ ‬يليه‭ ‬وهكذا،‭ ‬لكن‭ ‬السباق‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لقيم‭ ‬الجودة‭ ‬والاستحقاق‭ ‬والرصانة‭ ‬والقوة‭ ‬بل‭ ‬ستكون‭ ‬الغلبة‭ ‬للأكثر‭ ‬تأثيرًا‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬المحتوى،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬الفرنسي‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الدور‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬تلعبه‭ ‬الذاكرة‭ ‬في‭ ‬تجانس‭ ‬أعضاء‭ ‬المجتمع‭ ‬وتوحدهم‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬معينة‭ ‬يتآلف‭ ‬حولها‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭.‬

واتساقًا‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬بصدد‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭ ‬فإن‭ ‬ذاكرة‭ ‬الفرد‭ ‬تتشكّل‭ ‬وتنمو‭ ‬ضمن‭ ‬أطر‭ ‬اجتماعية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهلها‭ ‬أو‭ ‬إغفالها،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬بمفرده‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬ذاكرةً‭ ‬أو‭ ‬ماضيًا‭ ‬خاصين‭ ‬به،‭ ‬فالذاكرة‭ ‬لن‭ ‬تبنى‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الزمان‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وأمكنة‭ ‬إقامة‭ ‬الفرد‭ ‬وطرق‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬اللغة‭ ‬المستخدمة‭ ‬أو‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬وسجل‭ ‬التاريخ‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬وإلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭  ‬أمور‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬يسمعه‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬يشكل‭ ‬حيزًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬وليس‭ ‬ضروريًا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفرد‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬حدث‭ ‬معين‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭.‬

وفي‭ ‬نظرة‭ ‬فاحصة‭ ‬لكيفية‭ ‬تشكّل‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬يرى‭ ‬الخبراء‭ ‬أنها‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬تآزر‭ ‬بين‭ ‬مجموعة‭ ‬ذاكرات‭ ‬فردية‭ ‬وتشمل‭ ‬الأفكار‭ ‬والقيم‭ ‬والأنماط‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها،‭ ‬فتشكل‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬طريقة‭ ‬متجانسة‭ ‬للإلمام‭ ‬بمجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬يتعذر‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬الفردية‭ ‬تشكيلها‭ ‬بمفردها‭.‬

لم‭ ‬تركن‭ ‬الثقافة‭ ‬يومًا‭ ‬إلى‭ ‬السكون‭ ‬لأنها‭ ‬ترفض‭ ‬التقييد‭ ‬بمكان‭ ‬أو‭ ‬زمان‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬دائمة‭ ‬وفقًا‭ ‬لبراهين‭ ‬الإنثروبولوجيين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ماهية‭ ‬الثقافة‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬مزيج‭ ‬شخصي‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬الفرد‭ ‬وعناصر‭ ‬أخرى‭ ‬تأتي‭ ‬بتفاعل‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬لذلك‭ ‬تكون‭ ‬القوى‭ ‬الناعمة‭ ‬هي‭ ‬الحلقة‭ ‬الأقوى‭ ‬في‭ ‬إحداث‭ ‬أي‭ ‬تغيير‭ ‬ربما‭ ‬يتحقق،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬للتواصل‭ ‬الثقافي‭ ‬مفعول‭ ‬السحر‭ ‬في‭ ‬تقريب‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬وتوحيد‭ ‬الشعوب‭.‬

ووفقًا‭ ‬لهذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬يتوجس‭ ‬الخبراء‭ ‬خيفة‭ ‬من‭ ‬تلاشي‭ ‬بعض‭ ‬ملامح‭ ‬الهوية‭ ‬وسقوط‭ ‬بعض‭ ‬الثوابت‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬تلافيف‭ ‬الذاكرة‭ ‬وامتلاء‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬ببعض‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تمثلنا‭ ‬أو‭ ‬نمثلها‭ ‬ولا‭ ‬تعنينا‭ ‬ولا‭ ‬نعنيها،‭ ‬هنا‭ ‬يطبق‭ ‬القلق‭ ‬بفكيه‭ ‬على‭ ‬المصير‭ ‬المجهول،‭ ‬وربما‭ ‬ليس‭ ‬القلق‭ ‬بل‭ ‬الهلع‭ ‬والفزع‭ ‬مما‭ ‬ستكون‭ ‬عليه‭ ‬الحال‭... ‬فالنذر‭ ‬ليست‭ ‬مشجعة‭.‬

 

منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي

لم‭ ‬يعد‭ ‬مخفيًا‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬باتت‭ ‬الأكثر‭ ‬تأثيرًا‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬وتأكيدًا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تصريح‭ ‬مايكل‭ ‬زوكربيرغ‭: ‬‮«‬100‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬مؤثر‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أعدادًا‭ ‬أخرى‭ ‬تتفاوت‭ ‬درجات‭ ‬تفاعلها‭ ‬ضمن‭ ‬الشبكة،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬يكتفي‭ ‬بالمشاهدة‭ ‬وغيرهم‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬يعلق‭ ‬أو‭ ‬يبدي‭ ‬إعجابه‮»‬‭. ‬

هذا‭ ‬العدد‭ ‬الضخم‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬تأثير‭ ‬هذه‭ ‬المنصات‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬وعلى‭ ‬المجتمع،‭ ‬حيث‭ ‬يمتد‭ ‬هذا‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الأشخاص‭ ‬الآخرين‭ ‬الذين‭ ‬يتواصلون‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬المؤثرين،‭ ‬فيبدو‭ ‬أن‭ ‬العدد‭ ‬ربما‭ ‬يفوق‭ ‬ذلك‭. ‬هذا‭ ‬الانغماس‭ ‬عبر‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬له‭ ‬آثاره‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬الثقافية،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬المشكلة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تطل‭ ‬برأسها‭ ‬هي‭ ‬المعاناة‭ ‬من‭ ‬التسطيح‭ ‬الثقافي،‭ ‬فالكل‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتصدر‭ ‬المشهد‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬دقة‭ ‬المعلومة‭ ‬وحقيقتها،‭ ‬فيدور‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬أي‭ ‬معلومة‭ ‬حول‭ ‬الموضوع‭ ‬المثار‭ ‬ليدلو‭ ‬بدلوه،‭ ‬ولا‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬فتجد‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬يضع‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬صائبة‭ ‬أم‭ ‬خاطئة،‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬السباق‭ ‬المحموم‭ ‬تضيع‭ ‬الحقائق‭ ‬ويقل‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الظواهر‭ ‬المهمة‭ ‬وينحرف‭ ‬الحوار‭ ‬أو‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬جادة‭ ‬الصواب‭.‬

والمشكلة‭ ‬الثانية‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬تلاشي‭ ‬الثقافة‭ ‬المحلية‭ ‬وذوبانها‭ ‬وسط‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬فيخفت‭ ‬أي‭ ‬صوت‭ ‬أمام‭ ‬جلبة‭ ‬المد‭ ‬الهادر‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬والأكثر‭ ‬تأثيرًا‭. ‬أما‭ ‬المعضلة‭ ‬الثالثة‭ ‬فتتمحور‭ ‬حول‭ ‬الفرد‭ ‬وطريقة‭ ‬تعاطيه‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬المنصات،‭ ‬فيشعر‭ ‬بالغربة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الشبكة،‭ ‬لاسيما‭ ‬حينما‭ ‬يتملكه‭ ‬شعور‭ ‬أن‭ ‬ثقافته‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬مسايرة‭ ‬العصر،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬مسيطر‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تطبيقه‭ ‬لاعتبارات‭ ‬كثيرة‭. ‬ومن‭ ‬المشكلات‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تدخل‭ ‬سريع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكيان‭ ‬الأسري،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬سلطة‭ ‬الوالدين‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬سارية‭ ‬المفعول‭ ‬على‭ ‬أولادهم‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬التربية‭ ‬حصرًا‭ ‬لهما،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬تساهم‭ ‬وبشكل‭ ‬كبير‭ ‬جدًا‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬الأولاد،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬نوع‭ ‬هذه‭ ‬التربية؟‭ ‬وما‭ ‬معاييرها؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬القيم‭ ‬والأخلاق‭ ‬والسمات‭ ‬التي‭ ‬تغرسها‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬النشء؟‭ ‬طبعًا‭ ‬الحديث‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬التعميم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأسر‭ ‬والنسيج‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬استثناءات‭ ‬كبيرة،‭ ‬وهناك‭ ‬روابط‭ ‬أسرية‭ ‬متينة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العائلات‭ ‬تغرس‭ ‬القيم‭ ‬النبيلة‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬فلذات‭ ‬أكبادهم،‭ ‬وتحيط‭ ‬كياناتهم‭ ‬بمنظومة‭ ‬أخلاقية‭ ‬يصعب‭ ‬اختراقها‭ ‬وثوابت‭ ‬اجتماعية‭ ‬صلبة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزها‭. ‬

 

مؤسسات‭ ‬التعليم

وضمن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬ثمة‭ ‬قصور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬التعليم،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬دورها‭ ‬بذلك‭ ‬التأثير‭ ‬المأمول،‭ ‬فقد‭ ‬تخلت‭ ‬عن‭ ‬دورها‭ ‬الكبير‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬به،‭ ‬وهذا‭ ‬النكوص‭ ‬ليس‭ ‬وليد‭ ‬المصادفة‭ ‬أو‭ ‬الحظ‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬بسبب‭ ‬تأثيرات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬وعلى‭ ‬مدار‭ ‬أعوام‭ ‬كثيرة‭ ‬فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬لهذا‭ ‬الشكل‭ ‬المخيف‭. ‬ومن‭ ‬الأسباب‭ ‬المهمة‭ ‬أيضًا‭ ‬تزاحم‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بآلاف‭ ‬الأفكار‭ ‬والموضوعات،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الفرد‭ ‬يستغني‭ ‬عن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬جديدة،‭ ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬قام‭ ‬بفعل‭ ‬شنيع‭ ‬بتعطيل‭ ‬التفكير‭ ‬حينما‭ ‬رأى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬توافر‭ ‬كل‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬خطرت‭ ‬في‭ ‬باله‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تخطر‭ ‬بعد،‭ ‬هذا‭ ‬يجعل‭ ‬الفرد‭ ‬مجرد‭ ‬ناقل‭ ‬للفكرة،‭ ‬وهنا‭ ‬يتعطل‭ ‬الفعل‭ ‬والعمل‭ ‬الذهني‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬العقل‭ ‬لإنتاج‭ ‬أفكار‭ ‬جديدة‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬كفاءة‭ ‬الإنسان‭ ‬وقيمته‭.‬

 

الأمراض‭ ‬الاجتماعية

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬عليكم‭ ‬أن‭ ‬مساوئ‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬تتفاقم‭ ‬مع‭ ‬استمرار‭ ‬التجارب‭ ‬ومرور‭ ‬الزمن،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬حلبة‭ ‬لممارسة‭ ‬الأمراض‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتجاوز‭ ‬الخصوصية‭ ‬وانتهاك‭ ‬الحريات،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬سلبيات‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الخبراء‭ ‬القضاء‭ ‬عليها،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أقل‭ ‬تقدير‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬خطورتها‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭. ‬

لذا‭ ‬يجب‭ ‬علينا‭ ‬قبل‭ ‬حدوث‭ ‬الضمور‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬الموازنة‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وترشيد‭ ‬هذا‭ ‬الاستهلاك‭ ‬المفرط‭ ‬في‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬ونتخلص‭ ‬من‭ ‬إدمان‭ ‬ارتياد‭ ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬وتعويض‭ ‬القصور‭ ‬الذي‭ ‬أطبق‭ ‬فكيه‭ ‬على‭ ‬عقولنا،‭ ‬لأن‭ ‬العقل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬اكتساب‭ ‬علم‭ ‬أو‭ ‬معرفة‭ ‬بشكل‭ ‬متواصل،‭ ‬مثلاً‭ ‬تعلّم‭ ‬لغة‭ ‬أو‭ ‬مهارة‭ ‬أو‭ ‬قراءة‭ ‬أو‭ ‬تكوين‭ ‬علاقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬مفيدة‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬علينا‭ ‬إهمال‭ ‬بل‭ ‬عدم‭ ‬الاكتراث‭ ‬لترهات‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬وعدم‭ ‬رؤيتها،‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬المخجل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬النماذج‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الفاشنيستا‮»‬‭  ‬أو‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬شاكلتها‭ ‬يحققون‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الرواج‭ ‬والتفاعل،‭ ‬والأنكى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬مضمون‭ ‬المنتج‭ ‬الذي‭ ‬يقدمه‭ ‬هؤلاء‭ ‬للأسف‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬كونه‭ ‬ترهات،‭ ‬وحينما‭ ‬تدقق‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬فتلاحظ‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الشهرة‭ ‬جاءت‭ ‬بفضل‭ ‬رداءة‭ ‬المضمون‭ ‬وليس‭ ‬لجودة‭ ‬ما‭ ‬يطرحون‭ ‬أو‭ ‬لأهمية‭ ‬ما‭ ‬يعرضون‭ ‬بل‭ ‬لتفاهة‭ ‬ما‭ ‬يقدمونه‭ ‬من‭ ‬هرطقات‭ ‬صبيانية‭ ‬لا‭ ‬ترتقي‭ ‬لتكون‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬المشاهدات‭ ‬وتحصل‭ ‬على‭ ‬الترند،‭ ‬أتساءل‭ ‬هل‭ ‬وصلت‭ ‬بنا‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬السوء‭ ‬بأن‭ ‬يتصدر‭ ‬المشهد‭ ‬هذه‭ ‬النماذج‭ ‬المخجلة‭ ‬والضحلة‭ ‬ثقافيًا‭ ‬والفقيرة‭ ‬ثقافيًا‭ ‬فكريًا؟‭ ‬في‭ ‬الختام،‭ ‬نحن‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬انتفاضة‭ ‬ثقافية‭ ‬تحافظ‭  ‬على‭ ‬هويتنا‭ ‬وإرثنا‭ ‬وتاريخنا،‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬ما‭ ‬يشرف‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬الجمعية،‭ ‬فماذا‭ ‬ستقول‭ ‬عنا‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬حينما‭ ‬تكون‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬لم‭ ‬تحمل‭ ‬إلا‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬الرديئة؟‭ ‬لذا‭ ‬يجب‭ ‬وضع‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬نصابها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نفقد‭ ‬أصالتنا‭ ‬وعراقتنا‭ ‬وحتى‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬فلا‭ ‬يعقل‭ ‬أن‭ ‬نكتفي‭ ‬بالتفرّج‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يجري‭! ‬■