تقنيات الإعلام والاتصال من الحلم إلى الحضور المطلق

تقنيات الإعلام والاتصال من الحلم إلى الحضور المطلق

تعالج‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬تطور‭ ‬شكل‭ ‬حضور‭ ‬تقنيات‭ ‬الإعلام‭ ‬والاتصال‭ ‬وأثرها‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لأجل‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬السيرورة‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬بمقتضاها‭ ‬من‭ ‬طموح‭ ‬وحلم‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬مطلق‭ ‬الحضور،‭ ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬التقنيات‭ ‬المقصودة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تنهض‭ ‬بمهمتي‭ ‬الإعلام‭ ‬والاتصال،‭ ‬في‭ ‬اتصالهما‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬انفصالهما‭.‬

1‭ - ‬الصحافة

الصحافة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬كتابة‭ ‬وجمع‭ ‬وإعداد‭ ‬وتوزيع‭ ‬للأخبار‭ ‬والتعاليق‭ ‬المرتبطة‭ ‬بها،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬على‭ ‬الربورتجات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالأحداث‭ ‬المطبوعة‭ ‬على‭ ‬الصحف،‭ ‬فاتسع‭ ‬ليشمل‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أشكالاً‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ (‬الصحافة‭ ‬الإذاعية،‭ ‬الصحافة‭ ‬التلفزية،‭ ‬والصحافة‭ ‬الإلكترونية‭)‬‮»‬،‭ ‬مرت‭ ‬عبر‭ ‬تاريخها‭ ‬بتطورات‭ ‬مختلفة؛‭ ‬بين‭ ‬سنتي‭ ‬1830‭ ‬و1870‭ ‬‮«‬اخترعت‭ ‬الصحافة‭ ‬النبأ‭ ‬الراهن،‭ ‬كما‭ ‬حددت‭ ‬للصحفيين،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مهمتهم،‭ ‬القول‭ (‬ما‭ ‬يجري‭) ‬ما‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬وما‭ ‬سيجري‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬تعددت‭ ‬أشكال‭ ‬العمل‭ ‬الصحفي‭ ‬بين‭ ‬صحافة‭ ‬مهنية‭ ‬ويومية‭ ‬ودوريات‭ ‬ومجلات‭ ‬بأعداد‭ ‬خاصة‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬‮«‬المولود‭ ‬الجديد‭ ‬لوسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الجماهيرية‭ ‬هو‭ ‬الصحيفة‭ ‬اليومية‭: ‬إنها‭ ‬النموذج‭ ‬الأساسي‭ ‬للاتصال‭ ‬الجماهيري‮»‬‭. ‬

رافقت‭ ‬تطور‭ ‬الصحافة‭ ‬مسيرة‭ ‬نضالية‭ ‬غايتها‭ ‬توسيع‭ ‬نطاق‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رفع‭ ‬مطالب‭ ‬الطباعة‭ ‬بدون‭ ‬إذن‭ ‬مسبق،‭ ‬ورفع‭ ‬الرسوم،‭ ‬وحق‭ ‬عدم‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬مصادر‭ ‬المعلومات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬توج‭ ‬بضمان‭ ‬حرية‭ ‬الصحافة‭ ‬دستوريًا‭ ‬سنة‭ ‬1791‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬1789‭ ‬بفرنسا،‭ ‬ليصبح‭ ‬لها‭ ‬حق‭ ‬الشهادة‭ ‬والفعل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أقره‭ ‬هيغل‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬دور‭ ‬الصحافة‭ ‬هو‭ ‬الشهادة‭ ‬على‭ ‬الحوادث‭ ‬والفاعلية‭ ‬فيها‭. ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬انتصرت‭ ‬له‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى‭ ‬دعمت‭ ‬حرية‭ ‬الصحافة‭ ‬والإعلام‭ ‬عبرها،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬Victor Hugo
وTocqueville‭ ‬وEmile Zola‭. ‬

إلى‭ ‬حدود‭ ‬‮«‬عتبة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬يمتزج‭ ‬تاريخ‭ ‬الصحافة‭ ‬بتاريخ‭ ‬الحرية‭ ‬الأصلية‭ (‬الأساسية‭)... ‬باعتبارها‭ ‬شرطًا‭ ‬لوجود‭ ‬الحريات‭ ‬الأخرى،‭ ‬المدنية‭ ‬أو‭ ‬السياسية،‭ ‬الشخصية‭ ‬أو‭ ‬العامة‮»‬‭. ‬فبماذا‭ ‬يمتزج‭ ‬تاريخ‭ ‬الصحافة‭ ‬قبيل‭ ‬وفيما‭ ‬بعد‭ ‬القرن‭ ‬العشرين؟‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬انقلاب‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬حددتها‭ ‬الصحافة‭ ‬لنفسها‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬فـ«الصحافة‭ ‬أو‭ ‬أية‭ ‬وسيلة‭ ‬عمومية‭ ‬للتواصل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستعمل‭ ‬أحيانا‭ ‬لأهداف‭ ‬غير‭ ‬نبيلة‮»‬‭. ‬إن‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬يرافق‭ ‬الصحافة،‭ ‬يعيد‭ ‬النظر‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬استعمالاتها‭ ‬وأشكال‭ ‬حضورها‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬مهمتها‭ ‬الأصل‭ ‬التي‭ ‬بمقتضاها‭ ‬‮«‬تتمثل‭ ‬المجتمع‭ ‬كمجموعة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬الجارية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بتاريخ‭ ‬وساعات‭ ‬وقوعها‮»‬‭.‬

 

2‭ - ‬السينما

ظهرت‭ ‬السينما‭ ‬كتقنية‭ ‬أو‭ ‬صناعة،‭ ‬كانت‭ ‬الولادة‭ ‬مع‭ ‬الإخوة‭ ‬لوميير‭ ‬August et louis lumière‭ ‬سنة‭ ‬1895،‭ ‬فقد‭ ‬ظهرت‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬‮«‬استمرار‭ ‬للمسرح‭ ‬الشعبي‭ ‬بوسائل‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكنها‭ ‬أصبحت‭ ‬بسرعة‭ ‬صناعة‭ ‬ووسيلة‭ ‬إعلامية‮»‬‭. ‬مرت‭ ‬عبر‭ ‬تاريخها‭ ‬بطفرات‭ ‬متعددة،‭ ‬حيث‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬مع‭ ‬Georges Méliès‭ ‬وفي‭ ‬أمريكا‭ ‬مع‭ ‬Edwin Porter‭ ‬وDavid Griffith،‭ ‬وأصبحت‭ ‬لها‭ ‬قاعات‭ ‬خاصة‭ ‬مثل‭ ‬Nickelodeon‭ ‬الشهيرة‭. ‬أضفى‭ ‬عليها‭ ‬اختراع‭ ‬التلوين‭ ‬Technicolor‭ ‬سنة‭ ‬1938‭ ‬صبغة‭ ‬خاصة‭ ‬قوت‭ ‬من‭ ‬حضورها،‭ ‬حيث‭ ‬ارتفع‭ ‬عدد‭ ‬المنتجين‭ ‬والأفلام‭ ‬وقاعات‭ ‬العرض،‭ ‬وتم‭ ‬التحول‭ ‬نحو‭ ‬السينما‭ ‬الناطقة‭ ‬بعدما‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬صامتة‭.‬

بفعل‭ ‬مختلف‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬المختصرة‭ ‬في‭ ‬العبارات‭ ‬السابقة،‭ ‬أصبحت‭ ‬السينما‭ ‬صناعة‭ ‬منظمة‭ ‬غزت‭ ‬السوق‭ ‬العالمية‭. ‬وهو‭ ‬الغزو‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬السينما‭ ‬على‭ ‬مفترق‭ ‬طرق،‭ ‬لمح‭ ‬له‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسي‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬1958‭ ‬و1969‭ ‬André Malraux‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬إنها‭ ‬فن،‭ ‬ولكنها‭ ‬صناعة‭ ‬أيضًا‭... ‬أثر‭ ‬فكري‮»‬‭ ‬وثقافي‭ ‬وترفيهي،‭ ‬لكنها‭ ‬أيضًا‭ ‬تحمل‭ ‬بوادر‭ ‬تجارة‭ ‬تشكل‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬المشاهد،‭ ‬يزيد‭ ‬منه‭ ‬تدخل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬السينما،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬لينين‭ ‬وستالين‭ ‬Lénine et Staline‭ ‬بقولهما‭ ‬إنها‭ ‬وسيلة‭ ‬للتحريك‭ ‬الجماهيري‭. ‬

استفحل‭ ‬حضورها‭ ‬بعد‭ ‬ظهور‭ ‬التلفزيون‭ ‬سنة‭ ‬1950،‭ ‬فهذا‭ ‬الأخير‭ ‬لم‭ ‬يشكل‭ ‬خطرًا‭ ‬عليها‭ ‬وإنما‭ ‬إمكانًا‭ ‬جديدًا‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬حضورها‭ ‬الواسع‭. ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬في‭ ‬المصالح‭ ‬والرؤى‭ ‬الموجهة‭ ‬نحو‭ ‬السينما‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬مدار‭ ‬تساؤل‭ ‬مركزي‭ ‬حول‭ ‬منتجها‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الفيلم‭: ‬فهل‭ ‬الفيلم‭ ‬سلعة‭ ‬أم‭ ‬وسيلة‭ ‬دعاية‭ ‬أم‭ ‬عمل‭ ‬إبداعي؟‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬التساؤلات،‭ ‬يحوي‭ ‬مفارقة‭ ‬تضع‭ ‬السينما‭ ‬بين‭ ‬الفن‭ ‬والتجارة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستدعي‭ ‬تفكيرًا‭ ‬جديًا‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬إمكانية‭ ‬تخليص‭ ‬السينما‭ ‬مما‭ ‬يناقض‭ ‬قيم‭ ‬الفن‭ ‬والإنسانية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نجد‭ ‬بوادره‭ ‬عند‭ ‬برغسون‭ ‬ودولوز،‭ ‬ففي‭ ‬‮«‬سنة 1907‭ ‬كان‭ ‬برغسون‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تحسس‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬التطور‭ ‬المبدع‭ ‬سيرورة‭ ‬الجمع‭ ‬الممكنة‭ ‬بين‭ ‬التفكير‭ ‬وشكل‭ ‬السينما‮»‬،‭ ‬تابعه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬دولوز‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬كتابين‭ ‬حول‭ ‬السينما‭: ‬السينما‭ ‬1‭ (‬الصورة‭ - ‬الحركة‭)‬؛‭ ‬السينما‭ ‬2‭ (‬الصورة‭ - ‬الزمن‭). ‬فرأى‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬إمكان‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬العمل‭ ‬الفلسفي،‭ ‬بتعبير‭ ‬ماك‭ ‬لوهان‭ ‬هي‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬منسوج‭ ‬حول‭ ‬شريط‮»‬‭. ‬

 

3ــ‭ ‬الراديو

إن‭ ‬الراديو‭ ‬‮«‬تحويل‭ ‬للأصوات‭ ‬بجعلها‭ ‬موجات‭ ‬كهرومغناطيسية‭ ‬تمر‭ ‬عبر‭ ‬الفضاء‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬المتلقي‭ ‬عبر‭ ‬جهاز‭ ‬يحولها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬أصوات‮»‬،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬دخل‭ ‬الراديو‭ ‬التاريخ‭ ‬كوسيلة‭ ‬اتصال،‭ ‬ففي‭ ‬نوفمبر‭ ‬1917‭ ‬أعلن‭ ‬الراديو‭ ‬من‭ ‬الطراد‭ ‬أورور‭ (‬Aurore‭) ‬أن‭ ‬سوفيات‭ ‬بتروغراد‭ ‬Petrograd‭ ‬يقود‭ ‬المقاومة‭ ‬ضد‭ ‬الحكومة‭ ‬الشرعية‮»‬‭. ‬فقد‭ ‬ارتبط‭ ‬الراديو‭ ‬أو‭ ‬البث‭ ‬الصوتي‭ ‬عبر‭ ‬الأثير‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬بالتشبه‭ ‬بالهاتف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاتصال‭ ‬بين‭ ‬العسكريين،‭ ‬شهد‭ ‬نقلة‭ ‬مهمة‭ ‬سنة‭ ‬1899‭ ‬مع‭ ‬Marcconi‭ ‬Guglielmo‭ ‬الذي‭ ‬أقام‭ ‬تلغرافًا‭ ‬بلا‭ ‬سلك‭ ‬من‭ ‬انجلترا‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭. ‬ظهرت‭ ‬أول‭ ‬محطة‭ ‬خاصة‭ ‬للراديو‭ ‬سنة‭ ‬1922‭ ‬لصاحبها‭ ‬Emile Gerardeau‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬راديولا‭ ‬Radiola‭. ‬

إن‭ ‬حضور‭ ‬الراديو‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬العمومية‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬إحلال‭ ‬‮«‬المباشر‭ ‬محل‭ ‬المؤجل،‭ ‬والفورية‭ ‬أزاحت‭ ‬الوساطة،‭ ‬ولا‭ ‬مادية‭ ‬الموجات‭ ‬سجلت‭ ‬قوتها‭ ‬مقارنة‭ ‬بمادية‭ ‬ورق‭ ‬الصحيفة‭ ‬أو‭ ‬مادية‭ ‬قاعة‭ ‬العرض‭ ‬للسينما‮»‬‭. ‬ظهر‭ ‬الراديو‭ ‬كوسيلة‭ ‬اتصال‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أكبر‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الجمهور‭ ‬المشتت‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬مختلفة‭. ‬وجد‭ ‬الراديو‭ ‬نفسه‭ ‬أيضًا‭ ‬بين‭ ‬مفترق‭ ‬طرق،‭ ‬رسمت‭ ‬ملامحه‭ ‬الاستعمالات‭ ‬السياسية‭ ‬كما‭ ‬يتضح‭ ‬ذلك‭ ‬تاريخيًا‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬والنظام‭ ‬النازي‭. ‬كما‭ ‬رسمت‭ ‬ملامحه‭ ‬بعض‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬حدت‭ ‬من‭ ‬الاستعمال‭ ‬التجاري‭ ‬له،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬فعلت‭ ‬قناة‭ ‬الـ«بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬BBC‮»‬‭ ‬البريطانية،‭ ‬إذ‭ ‬اختارت‭ ‬لنفسها‭ ‬العيش‭ ‬دون‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الدعاية،‭ ‬عكس‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬الراديو‭ ‬على‭ ‬التنافس‭ ‬الحر،‭ ‬وافترقت‭ ‬باقي‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا،‭ ‬حيث‭ ‬سارت‭ ‬إما‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬بريطانيا‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬أمريكا‭ ‬الذي‭ ‬بمقتضاه‭ ‬تمول‭ ‬بعض‭ ‬الراديوهات‭ ‬من‭ ‬الدعاية‭.‬

حمل‭ ‬الراديو‭ ‬مند‭ ‬نشأته‭ ‬بوادر‭ ‬إمكانية،‭ ‬إمكان‭ ‬تحريري‭ ‬وإمكان‭ ‬هيمنة،‭ ‬يقول‭ ‬فرنسيس‭ ‬بال‭ ‬أن‭ ‬الراديو‭ ‬قدم‭ ‬‮«‬لبعض‭ ‬المجموعات‭ ‬أو‭ ‬لبعض‭ ‬القبائل‭ ‬الاجتماعية‭ ‬إمكانية‭ ‬تأكيد‭ ‬ذاتها‭ ‬والإعلان‭ ‬عن‭ ‬نفسها،‭ ‬وحتى‭ ‬إمكانية‭ ‬أن‭ ‬تعي‭ ‬وجودها‮»‬‭. ‬لكنه‭ ‬يذهب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الراديو‭ ‬صار‭ ‬وسيلة‭ ‬مبتذلة‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬الاستعمال‭ ‬والتآكل،‭ ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬مسايرة‭ ‬وتيرة‭ ‬التطور‭ ‬التي‭ ‬تطبع‭ ‬باقي‭ ‬تقنيات‭ ‬الإعلام‭ ‬والاتصال‭. ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬فإنه‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬للراديو‭ ‬مستمعون‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭. ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الكثيرين‭ ‬ينتصرون‭ ‬له‭ ‬كحامل‭ ‬للواء‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬التلفزيون،‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬يجعلنا‭ ‬نسبح‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬سمعي،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬موضوعه‭ ‬الرئيسي‮»‬‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬السمعي‭ ‬لا‭ ‬إعمال‭ ‬لغير‭ ‬الفكر‭ ‬وتدقيق‭ ‬الإنصات،‭ ‬فهو‭ ‬وسيط‭ ‬ساخن‭ ‬Médium‭ ‬chaude‭ ‬حدثت‭ ‬بمقتضى‭ ‬حضوره‭ ‬تحولات‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬مختلفة،‭ ‬إذ‭ ‬اضطرت‭ ‬إلى‭ ‬تنويع‭ ‬البرامج‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتآكل‭ ‬قوة‭ ‬حضورها‭ ‬مقارنة‭ ‬بالراديو‭.‬

 

4‭ - ‬التلفزيون

إن‭ ‬التلفزيون‭ ‬ذلك‭ ‬الجبار‭ ‬الخجول‭ ‬Le géante‭ ‬timide‭ ‬بلغة‭ ‬ماك‭ ‬لوهان‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الأكثر‭ ‬عائلية‭ ‬ربما‭ ‬والأكثر‭ ‬وجدانية‮»‬،‭ ‬وصفه‭ ‬مند‭ ‬البداية‭ ‬بكونه‭ ‬جبـارًا‭ ‬خجولاً‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬حمله‭ ‬لمفارقة‭. ‬دلت‭ ‬كلمة‭ ‬تلفزيون‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬على‭ ‬‮«‬نقل‭ ‬الصور‭ ‬المتحركة‭ ‬والأصوات‭ ‬إلى‭ ‬مسافة‭ ‬بعيدة‮»‬‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يطبع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬حيث‭ ‬صارت‭ ‬له‭ ‬قدرة‭ ‬هائلة‭ ‬على‭ ‬التأثير،‭ ‬وحضر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منزل‭ ‬بفعل‭ ‬ربطه‭ ‬بأقمار‭ ‬صناعية‭ ‬ضخمة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬وأنه‭ ‬شمل‭ ‬مهمات‭ ‬مختلف‭ ‬التقنيات‭. ‬فاعتماده‭ ‬النشرات‭ ‬الإخبارية‭ ‬بالصوت‭ ‬والصورة‭ ‬جعل‭ ‬الصحافة‭ ‬والراديو‭ ‬تابعين‭ ‬له،‭ ‬واعتماده‭ ‬سياسة‭ ‬الترفيه‭ ‬والفرجة‭ ‬عبر‭ ‬الأفلام‭ ‬ضم‭ ‬السينما‭ ‬إليه‭. ‬لكنه‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يؤد‭ ‬إلى‭ ‬زوالهم‭ ‬بل‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬تطورهم‭. ‬

ففي‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬أصبح‭ ‬وسيلة‭ ‬اتصال‭ ‬جماهيرية،‭ ‬فانتقل‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬فضولية‭ ‬تقنية‭ ‬قبل‭ ‬العام‭ ‬1950‭ ‬إلى‭ ‬غزو‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المشاهدين،‭ ‬ففرض‭ ‬قواعده‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الإعلام‭ ‬والترفيه،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬خضع‭ ‬لأهواء‭ ‬الشركات‭ ‬التجارية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬صعود‭ ‬المحطات‭ ‬الخاصة،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬بالإمكان‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تلفزيون‭ ‬بصيغة‭ ‬المفرد،‭ ‬وإنما‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع‭ ‬والتعدد،‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬التلفزيونات‭ ‬الرسمية‭ ‬أبدًا‭ ‬كسب‭ ‬مصداقية‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الإعلامي،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬احتكارها‭ ‬فجأة‭ ‬موضع‭ ‬شك‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬ظهور‭ ‬المحطات‭ ‬التلفزية‭ ‬الخاصة‭ ‬ولد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الانتقادات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬رفض‭ ‬المزج‭ ‬أثناء‭ ‬بث‭ ‬البرامج‭ ‬بين‭ ‬الدعاية‭ ‬والإعلام‭ ‬والعرض‭ ‬الترفيهي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬وأن‭ ‬الإشهارات‭ ‬لا‭ ‬تتم‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬البرامج‭ ‬التي‭ ‬ستعرض‭ ‬عند‭ ‬بداية‭ ‬البث‭ ‬التلفزي،‭ ‬مما‭ ‬يطبعها‭ ‬بطابع‭ ‬الفجائية،‭ ‬ويؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الإقرار‭ ‬بكونها‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬المشاهدين‭ ‬رغمًا‭ ‬عن‭ ‬أنوفهم،‭ ‬فتحولهم‭ ‬بمقتضى‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬إلى‭ ‬أهداف‭ ‬مشروعة،‭ ‬وزبائن‭ ‬محتملين‭ ‬لشركات‭ ‬تجارية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لهم‭ ‬حرية‭ ‬الاختيار‭.‬

إن‭ ‬التلفزيون‭ ‬أيضًا‭ ‬باعتباره‭ ‬تقنية‭ ‬حامل‭ ‬لمفارقة،‭ ‬يجسد‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬شقها‭ ‬الأول،‭ ‬والشق‭ ‬الثاني‭ ‬تمثله‭ ‬قدرته‭ ‬الهائلة‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الجمهور‭ ‬وبالتالي‭ ‬تساهم‭ ‬إمكانية‭ ‬استعماله‭ ‬المعقلن‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬نطاق‭ ‬العقلنة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التوسيع‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بغير‭ ‬الفهم‭ ‬العميق‭ ‬لما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬كواليس‭ ‬المحطات‭ ‬التلفزية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تكشف‭ ‬عنه‭ ‬مجموع‭ ‬التساؤلات‭ ‬التي‭ ‬يطرحها‭ ‬فرنسيس‭ ‬بال،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬من‭ ‬هم‭ ‬الفاعلين‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬برامج‭ ‬تلفزيونية‭ ‬على‭ ‬الجمهور؟‭ ‬من‭ ‬يمول‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات؟‭ ‬بأي‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬تتمتع‭ ‬المحطات‭ ‬لإعداد‭ ‬برامجها‭ ‬ولتحديد‭ ‬محتوى‭ ‬هذه‭ ‬البرامج؟‭ ‬وهل‭ ‬يفتح‭ ‬التلفزيون‭ ‬نفسه‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬تيارات‭ ‬الرأي؟

إن‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬التوسيع‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬إيضاحات‭ ‬بخصوصها،‭ ‬كفيل‭ ‬بالتأسيس‭ ‬لمساءلة‭ ‬فلسفية‭ ‬للتلفزيون،‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬وإمكانات‭ ‬إلحاق‭ ‬الفلسفة‭ ‬به،‭ ‬خصوصًا‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬مدار‭ ‬التساؤل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬فلاسفة‭ ‬وازنين‭ ‬أمثال‭ ‬بورديو‭ ‬وكارل‭ ‬بوبر،‭ ‬إذ‭ ‬رأى‭ ‬فيه‭ ‬الأول‭ ‬تلاعبًا‭ ‬بالعقول‭ ‬والثاني‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬الديمقراطية‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعكسه‭ ‬أيضًا‭ ‬قول‭ ‬Jean Cazeneuve‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬دعاوى‭ ‬متعددة‭ ‬رفعت‭ ‬ضد‭ ‬التلفزيون‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬أسبابها‭ ‬‮«‬استقلاليته‭ ‬النسبية،‭ ‬تذوقه‭ ‬للعرض‭ ‬المسرحي،‭ ‬ديماغوجيته،‭ ‬إثارته‭ ‬للانفعال،‭ ‬احتقاره‭ ‬للثقافة،‭ ‬ممارسته‭ ‬أشكالاً‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬وأفضلياته‭ ‬للترفيه‮»‬‭.‬

 

5‭ - ‬الإنترنت‭ ‬والحاسوب

الإنترنت‭ ‬‮«‬شبكة‭ ‬الشبكات،‭ ‬يربط‭ ‬ملايين‭ ‬أجهزة‭ ‬الكومبيوتر‭ ‬بجميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬يندرج‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬اليوم‭ ‬بالملتيميديا،‭ ‬أو‭ ‬تقنيات‭ ‬الإعلام‭ ‬والاتصال‭ ‬المتعددة‭ ‬الاستعمالات،‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬أشكال‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الاتصال‭. ‬كانت‭ ‬بدايته‭ ‬كما‭ ‬الراديو‭ ‬بداية‭ ‬عسكرية‭ ‬داخل‭ ‬شبكة‭ ‬البنتاغون‭ ‬الأمريكية،‭ ‬حيث‭ ‬اعتمدته‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬لتأمين‭ ‬معلومات‭ ‬الحرب،‭ ‬وانتقل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ليستخدم‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬أخرى،‭ ‬حيث‭ ‬أحدِثت‭ ‬سنة‭ ‬1971‭ ‬أول‭ ‬شبكة‭ ‬للبريد‭ ‬الإلكتروني‭ ‬للدردشة،‭ ‬مما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬انتشاره‭ ‬الواسع‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬ربطه‭ ‬بالشبكات‭ ‬التلفزية‭. ‬كان‭ ‬الانتقال‭ ‬الأكبر‭ ‬بالتحول‭ ‬من‭ ‬الاستخدام‭ ‬المحتكر‭ ‬للحواسيب‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬حواسيب‭ ‬شخصية‭ (‬pc) Personal Computer‭ ‬للجمهور،‭ ‬فـ«لم‭ ‬يعد‭ ‬الحاسوب‭ ‬موجودًا‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬المكتب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬أيضًا‭ ‬والمدرسة‮»‬،‭ ‬بهذا‭ ‬الانتقال‭ ‬الأكبر‭ ‬‮«‬أصبح‭ ‬الإنترنت‭ ‬شبكة‭ ‬الشبكات،‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬ربط‭ ‬الحواسيب‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله‭... ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬بالتالي‭ ‬وسيلة‭ ‬تعبير‭ ‬واتصال‭ ‬فقط،‭ ‬ومع‭ ‬الويب‭ ‬Web،‭ ‬أصبحت‭ ‬الإنترنت‭ ‬أكبر‭ ‬صحيفة‭ ‬عالمية‭ ‬ومكتوبة،‭ ‬تم‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬وسوقًا‭ ‬ضخمة‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬فتح‭ ‬الإنترنت‭ ‬آفاقًا‭ ‬جديدة‭ ‬للتواصل‭ ‬الإنساني،‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬يفتح‭ ‬أمامنا‭ ‬إمكانات‭ ‬جديدة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويتقدم‭ ‬باعتباره‭ ‬وسيطًا‭ ‬تكنولوجيًا‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تعبر‭ ‬الجماعات‭ ‬كما‭ ‬الأفراد‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬وحاجياتها‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬الإنترنت‭ ‬يحمل‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬إمكاناته‭ ‬إمكانًا‭ ‬رئيسيًا،‭ ‬تمسكت‭ ‬به‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬كسبيل‭ ‬لخلق‭ ‬تواصل‭ ‬كوكبي‭ ‬ومحلي،‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الإرادة‭ ‬العامة،‭ ‬وعن‭ ‬الحاجيات‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭ ‬بكل‭ ‬حرية،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الإمكان‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يراجع‭ ‬ذاته،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحقائق،‭ ‬منها‭ ‬التوزيع‭ ‬اللامتكافئ‭ ‬للثروة‭ ‬التكنولوجية،‭ ‬إذ‭ ‬تتمركز‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬دول‭ ‬الشمال،‭ ‬وهو‭ ‬التمركز‭ ‬الذي‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬وإبداء‭ ‬المواقف،‭ ‬إذ‭ ‬تقام‭ ‬اليوم‭ ‬استطلاعات‭ ‬كوكبية‭ ‬للرأي‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬محلية‭ ‬وكوكبية،‭ ‬اعتقادًا‭ ‬من‭ ‬القائمين‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬كوكبية‭ ‬الإنترنت‭ ‬وعمومية‭ ‬استعماله،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬سوى‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬دول‭ ‬الشمال‭ ‬وقد‭ ‬تنضاف‭ ‬إليها‭ ‬ثلة‭ ‬من‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬امتلاك‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الجنوب،‭ ‬فقد‭ ‬ثبت‭ ‬أن‭ ‬البلدان‭ ‬الخمسة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬2002‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬عدد‭ ‬الرواد‭ ‬هي‭: ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬اليابان،‭ ‬الصين،‭ ‬ألمانيا‭ ‬وإنجلترا‭. ‬مما‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬اعتبار‭ ‬الإنترنت‭ ‬وسيلة‭ ‬اتصال‭ ‬عالمية‭ ‬لا‭ ‬مركزية‭. ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬عمليات‭ ‬المراقبة‭ ‬والتجسس‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬لها‭ ‬المعلومات‭ ‬المدلى‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت،‭ ‬بل‭ ‬الأخطر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الحاسوب‭ ‬الشخصي‭ ‬أصبح‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬وجود‭ ‬صاحبه،‭ ‬مما‭ ‬يسهل‭ ‬عمليًا‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬المخالفين‭ ‬وحتى‭ ‬تصفيتهم،‭ ‬حيث‭ ‬تستعمل‭ ‬لهذا‭ ‬الغرض‭ ‬تقنيات‭ ‬تحديد‭ ‬الموقع‭ ‬عالية‭ ‬الدقة،‭ ‬مثل‭ (‬JPS‭).‬

 

الحرية‭ ‬والإعلام

فهل‭ ‬نحن‭ ‬أحرارًا‭ ‬أثناء‭ ‬تعاملنا‭ ‬التلقائي‭ ‬مع‭ ‬الإنترنت؟‭ ‬وهل‭ ‬بإمكاننا‭ ‬أن‭ ‬نناقش‭ ‬كل‭ ‬القضايا‭ ‬المطروحة‭ ‬للنقاش‭ ‬بكل‭ ‬تلقائية‭ ‬وبكل‭ ‬حرية؟‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأسئلة‭ ‬الكبرى‭ ‬الموجهة‭ ‬للنقاش‭ ‬الدائر‭ ‬اليوم‭ ‬حول‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بتقنيات‭ ‬الإعلام‭ ‬والاتصال‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬يتربع‭ ‬على‭ ‬عرشها‭ ‬الإنترنت‭. ‬ناهيك‭ ‬عمّا‭ ‬يسمح‭ ‬به‭ ‬الإنترنت‭ ‬من‭ ‬فبركة‭ ‬للصور‭ ‬ونشر‭ ‬المعلومات‭ ‬المغلوطة‭ ‬وتضليل‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭. ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوح‭ ‬يستوعب‭ ‬كل‭ ‬أنماط‭ ‬الخطاب‭ ‬ومحتوياته‭ ‬ويؤمن‭ ‬انتشارها‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬وبدقة‭ ‬عالية‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الصور‭ ‬والفيديوهات‭.‬

إن‭ ‬الإنترنت‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوح،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬مراقب،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬تضمنه‭ ‬لمفارقة،‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬وقف‭ ‬عليها‭ ‬مارتن‭ ‬هايدغر‭ ‬في‭ ‬سؤاله‭ ‬عن‭ ‬التقنية‭ ‬عندما‭ ‬ميز‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الجانب‭ ‬الأداتي‭ ‬والجانب‭ ‬الماهوي‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭. ‬إن‭ ‬الإنترنت‭ ‬فضاء‭ ‬للحرية‭ ‬وقمع‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬■