الحجّ الأوربي إلى فلسطين في القرون الوسطى
بدأ الحجّاج الأوربيّون يتوافدون إلى فلسطين منذ القرن الرابع الميلادي. وقد أخذت أعدادهم تزداد مع تشييد هيلانة، والدة الإمبراطور الروماني قسطنطين (حكم بين سنتي 306 و337م)، كنيسة القيامة واكتشاف مكان الصليب المقدّس وغيرها من الأماكن والأشياء المرتبطة بالسيّد المسيح. وبعد أن أُسّس الكرسي البطريركي في مدينة القدس في منتصف القرن الخامس الميلادي، جرى تفعيل الحجّ وتشجيع الحجّاج على زيارة القدس. ابتداءً من القرن السادس، لم يعد الحجّ مقتصرًا على الأماكن المقدّسة في فلسطين فقط، بل شمل المدن الواقعة شمالًا، وصولًا إلى أنطاكية، حيث تمّ بناء مزارات لتكريم القدّيسين.
سنة 636م، صارت فلسطين تحت حكم المسلمين، وبسبب التغييرات السياسيّة والعسكريّة التي شهدها الشرق، عرف الحجّ الأوربي إلى فلسطين تراجعًا، فخفّ عدد الحجّاج بشكل تدريجي. وتضاعفت مصاعب الحجّاج وازداد الخطر عليهم مع الوقت بخاصّةٍ ابتداءً من القرن التاسع الميلادي بسبب ضعف الخلافة العبّاسيّة وتفكّكها إلى دويلات تتنافس في ما بينها، وظهور الفاطميّين وتأسيسهم خلافة، ونجاحهم بالسيطرة على مصر وفلسطين وأقسام أخرى من بلاد الشام، ما جعل فلسطين وغيرها من المناطق المحيطة بها مسرحًا للقتال والحروب بين السلالات الحاكمة المتخاصمة. فالخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله هدم كنيسة القيامة سنة 1009م، والفوضى عمّت في فلسطين، ومناطق داخليّة كثيرة، بما فيها مدينة القدس، سقطت بأيدي السلاجقة سنة 1071م، بالإضافة إلى ذلك، وبسبب غياب الأمن وفقدان سلطة مركزيّة، ازدادت هجمات البدو على القوافل والمسافرين على امتداد الطرق والسهول. هذه الحروب وأعمال الشغب والنهب التي شهدتها بعض مناطق بلاد الشام، لم تكن موجّهة ضدّ المسيحييّن سكّان البلاد، ولكنّها تسببّت باجتياح بعض الأماكن المقدّسة وتدمير بعض المزارات المسيحيّة، وأهّمها كان دير مار سابا في صحراء يهوذا، على بعد كيلومترات من مدينة بيت لحم، الذي أحرقه البدو. لكلّ هذه الأسباب صار الحجّ إلى فلسطين محفوفًا بالأخطار، ولم يعد يجرؤ أحد على السفر بمفرده، بل صار الحجّاج يسافرون ضمن جماعات.
الحجّ إلى فلسطين قبل الحملات الصليبيّة
حتّى القرن الحادي عشر الميلادي، كان الحجّاج الأوربيّون يسافرون إلى فلسطين عن طريق البحر. ولكن مع اعتناق الهنغارييّن الديانة المسيحيّة منذ عهد الملك إيتيان سنة 985 م، وثبات واستمراريّة سلالته، صار الحجّاج يسافرون برًّا إلى فلسطين عبر وادي الدانوب مرورًا بالبلقان وآسيا الصغرى ثم الساحل الشامي وصولًا إلى القدس. وكان الحجّاج ينتمون إلى كافّة طبقات الشعب والمراتب: أمراء، فرسان، أساقفة، كهنة، نبلاء، فلّاحون. ولكن السفر كان يتمّ ضمن جماعات، حيث يمكن أن يصل عدد الحجّاج الذين يشكّلونها إلى بضعة آلاف كما كانت الحال سنة 1054م عندما سافر إلى فلسطين أسقف مدينة كامبري الفرنسيّة يرافقه ثلاثة آلاف حاجّ من مقاطعتي بيكاريا والفلاندر، وسنة 1064-1065م عندما توجّه نحو فلسطين نحو ثمانية آلاف حاج ألماني يتقدّمهم رئيس أساقفة مدينة ماينس، وأساقفة مدن راتيسبون، وبامبرغ، وأوترخت. كان الهدف من سفر الحجّاج الجماعي مواجهة أي خطر وصدّ أي اعتداء يمكن أن يتعرّضوا له، فشهد الحجّ تحوّلًا مثيرًا للاهتمام باتّخاذه شكل حملة عسكريّة، وهذا التحّول هو الذي مهّد للحملات الصليبيّة في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي.
الحجّ إلى فلسطين إبّان وجود الصليبيّين
في الشرق
مع نجاح الحملة الصليبيّة الأولى بالاستيلاء على فلسطين، وبخاصّة مدينة القدس سنة 1099م، عرف الحجّ في السنوات التالية لهذا الانتصار حركة مزدهرة، ولكن في تلك الحقبة كان من الصعب التمييز بين «الحاجّ» و«الصليبي». ولكن في ما بعد صار الفرق واضحًا بين الأشخاص الذين يغادرون أوربا إلى الشرق: فالصليبيّون ركّزوا اهتمامهم على محاربة المسلمين وتنظيم أوضاعهم السياسيّة والإداريّة في المناطق التي احتلّوها، في حين أنّ الحجّاج، الذين أصبحوا يتمتّعون بالحماية لدى تنقّلهم في فلسطين، كرّسوا رحلتهم لممارسة عقائدهم الدينيّة وزيارة الأماكن المقدّسة لإيفاء نذورهم. ومع تأسيس الكنيسة اللاتينيّة في الشرق، وتعيين بطاركة وأساقفة لاتين يعملون على تنظيم وجود الإكليروس اللاتيني ويشرفون على الكنائس والمزارات الدينيّة المشيّدة في الأماكن المقدّسة، صار الحجّاج الأوربيّون ينضمّون إلى الزياحات والاحتفالات الليتورجيّة التي تُقام في مدينة القدس وغيرها من الأماكن المقدّسة.
سنة 1187م، انتصر صلاح الدين الأيّوبي على الصليبيّين، واسترجع معظم المدن التي كانت بحوزتهم بما فيها مدينة القدس، ولم يعد للصليبيّين إلّا مدينة صور يحتمون فيها. انقطع الحجّ إلى فلسطين، ولكن بعد الحملة الصليبيّة الثالثة التي قادها الملك ريتشارد قلب الأسد والتي انتهت بتوقيع معاهدة الرملة سنة 1192م مع صلاح الدين الأيّوبي، تمّ الاتفاق على أن تبقى القدس بأيدي المسلمين ولكن يمكن للأوربيّين أن يحجّوا إليها بحريّة. وعرفت حركة الحجّ الأوربي مزيدًا من الإقبال على مدينة القدس بعد أن تولّى المدينة المسيحيّون من سنة 1229م إلى 1244م بموجب المعاهدة التي عقدها الإمبراطور فريديريك الثاني مع السلطان الكامل الأيّوبي.
سنة 1260م، ضمّ المماليك فلسطين إلى دولتهم. في سنة 1276م، أصبح لمدينة القدس نظام إداري مستقلّ وعُيّن عليها مندوب يتبع مباشرةً السلطان في القاهرة. رغم أنّ المدينة تتمتّع بمركز ديني مهمّ بالنسبة إلى المسلمين، إلّا أنّها لم تكن مهمّة من الناحية الإدارية، وكانت تشكّل مكانًا لإقامة الأمراء المماليك غير الحائزين رضا السلطان.
الحجّ الأوربي إلى فلسطين إبّان حكم المماليك
سنة 1291م، سقطت عكّا، آخر المدن التي كانت تخضع للحكم الصليبي بأيدي المماليك، وبالتالي، زال الحكم الصليبي في الشرق. رغم أنّ فكرة تنظيم حملة صليبيّة جديدة لاستعادة القدس بقيت راسخة في أذهان بابا روما وملوك الغرب، إلّا أنّ المصالح التجاريّة بين الغرب والشرق كانت أقوى. ولم يمضِ وقت طويل حتّى عاودت المدن التجاريّة الأوربيّة اتصالاتها مع سلطان مصر وأرسلت السفراء إلى القاهرة لعقد معاهدات صلح تسهيلًا للتبادل التجاري.
وقام ملك أراغون خايمي الثاني وبابا روما بسلسلة من الاتّصالات مع السلطان الناصر محمّد بن قلاوون، ودخل أيضًا ملك نابولي روبير دنجو وزوجته سانشيا دو مايوركا على خطّ المفاوضات مع السلطان، وطالبوا بالسماح للرهبان الفرنسيسكان بالإقامة في مدينة القدس وإعادة تنظيم حركة الحجّ إلى فلسطين. ومنذ سنة 1316م، طلب ملك نابولي روبير دنجو من الراهب الفرنسيسكاني روجيه غيران مباشرة مفاوضات مع السلطان الناصر محمّد بن قلاوون للحصول على امتياز يمكّن الرهبان الفرنسيسكان من الإقامة الدائمة في فلسطين وشراء الأراضي. وحوالى سنة 1333م، كانت مجموعة من الرهبان الفرنسيسكان قد استقرّت في القدس لخدمة كنيسة القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم. وسنة 1342م، عيّن البابا كليمنضوس السادس رسميًا الرهبان الفرنسيسكان الممثّلين الوحيدين للإكليروس اللاتيني في السلطنة المملوكيّة. وكانت أبرز المهام الموكلة إليهم، خدمة الأماكن المقدّسة، والاهتمام بالحجّاج القادمين من الغرب وتقديم المأوى لهم، ومرافقتهم وإرشادهم.
المماليك والحجّاج الأوربيّون
فرض المماليك على الحجّاج الأوربيّين مجموعة من الضرائب والرسوم أمّنت لهم مداخيل ماليّة مهمّة. أيضًا، يأتي الحجّاج إلى فلسطين خلال مدّة قصيرة ثمّ يعودون إلى بلادهم، فلا يشكّلون خطرًا على المسلمين، ذلك أنّ المدن الأوربيّة بدلًا من توجيه أساطيلها لمحاربة المسلمين، كانت توظّفها لنقل الحجّاج ثمّ تعيدهم إلى أوربا.
كانت مدينة البندقيّة الإيطاليّة من أبرز المدن الأوربيّة التي خصصّت سفن أسطولها التجاري لنقل الحجّاج إلى فلسطين، نظرًا للمكاسب الماليّة والأرباح التي كانت تجنيها من الحجّاج. حتّى في الحقبة السابقة للحملات الصليبيّة، كانت أحد أبرز الموانئ الأوربيّة لنقل الحجّاج إلى فلسطين. ومع تطوّر العلاقات التجاريّة بين مدينة البندقيّة والسلطنة المملوكيّة خلال القرن الرابع عشر الميلادي، خصوصًا بعد سنة 1370م مع توقيع معاهدة صلح بين القوى الأوربيّة (البندقيّة، جنوى، قبرص، مملكة أرغون في إسبانيا، فرسان الإسبتاريّة في جزيرة رودوس) والسلطنة المملوكيّة، ما سمح بمعاودة الحركة التجاريّة بعد انقطاع دام نحو خمس سنوات نتيجة الحملة العسكريّة التي قادها بيار الأوّل، ملك قبرص، ضدّ الإسكندريّة سنة 1365م، تمّ تنظيم خطّي ملاحة بحريّين يصلان البندقيّة بمدينتي بيروت والإسكندريّة، لذلك، أصبح ملزمًا على الحجّاج الإختيار بين هذين الخطّين. ابتداءً من منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، نظّمت البندقيّة خطًّا ملاحيًّا إضافيًّا لنقل الحجّاج إلى يافا. على هذا الأساس، نسّق الرهبان الفرنسيسكان مع البنادقة لتنظيم الحجّ إلى فلسطين.
في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين نجحت مدينة البندقيّة في احتلال مركز الصدارة في مجال تنظيم الحجّ ونقل الحجّاج الذي أصبح قطاعًا اقتصاديًّا مربحًا جدًّا. في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، كان أكثر من 300 حاج يقصدون سنويًّا فلسطين على متن السفن البندقيّة، ويمكن لهذا العدد أن يرتفع ليتخطّى 600 حاج سنويًّا. كانت هذه الحقبة بمنزلة العصر الذهبي لنقل الحجّاج الأوربيّين إلى فلسطين مقارنةً مع الحِقَب السابقة. كما أنّ تكاليف السفر للشخص الواحد كانت تراوح بين 30 و60 دوكة ذهبيّة، ما يدلّ على الأهميّة والمكانة اللتين احتلّهما نقل الحجّاج في الاقتصاد البندقي.
وخلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، أدت العائلة البندقيّة «كونتاريني» دورًا بارزًا في نقل الحجّاج على متن السفن التي كانت تعمل تحت إدارتها، حتّى إنّ أحد أفرادها، أندريا كونتاريني، الذي سطع اسمه بين سنتي 1455م و1475م، وبعد ذلك أغوستينو كونتاريني بين سنتي 1479م و1496م، أُطلِقَ عليهما لقب dal Zaffo أي «اليافي» (نسبةً إلى مدينة يافا في فلسطين) بسبب شهرتهما في نقل الحجّاج إلى يافا في فلسطين، الميناء الرئيسي لسفن الحجّ.
العلاقة بين الرهبان الفرنسيسكان في القدس والسلطات المملوكيّة
حصل الرهبان الفرنسيسكان منذ عودتهم إلى فلسطين نحو سنة 1333م، نتيجة المفاوضات والعلاقات الحسنة التي قامت بين السلطان الناصر محمّد بن قلاوون والحكّام الأوربيّين، على مجموعة من الامتيازات تجيز لهم تملّك الأراضي وإعادة ترميم أديرتهم والكنائس المنوطة بهم خدمتها. ولكن يتّضح من المراسيم الصادرة عن سلاطين المماليك في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين أنّ الوجود الفرنسيسكاني في القدس كان هشًّا، مرتبطًا بالتوازن السياسي والدبلوماسي الذي كان قائمًا بين السلطان والحكّام الأوربيّين. يجيز هذا التوازن للرهبان الإقامة في القدس والقيام بخدمة الحجّاج والمسيحيّين الأوربيّين الساكنين في المدينة (التجّار، الحجّاج، الأسرى)، ولكن في الوقت نفسه، كانت مهمّة الرهبان صعبة بسبب تعرّضهم أحيانًا للمضايقات.
إنّ ضعف الحكم وعدم استقراره، والثورات التي كان يقودها الأمراء المماليك ضدّ السلطان والحكم المركزي، وانتشار الأوبئة والأمراض والتقلّبات المناخيّة التي كانت تخلّف الضحايا، والحروب التي كانت تزرع الموت والدمار، شكّلت العوامل الرئيسيّة التي ساهمت في توسيع الهوّة بين الرهبان، والأوربيّين عمومًا، والسكان المحلييّن في مدن بلاد الشام، وأدّت إلى فقدان الأمان وخلق مصاعب ومشاكل للرهبان. فعلى سبيل المثال، نتيجة الهجوم الذي قام به ملك قبرص بيار الأوّل على الإسكندريّة سنة 1365م واحتلاله لها لمدّة ثلاثة أيام، تمّ توقيف كلّ الأوربيّين المقيمين في السلطنة المملوكيّة. وسنة 1476م، تعرّض قراصنة أوربيّون لسفينة وقبضوا على من كان على متنها من المسلمين، فجاءت ردّة الفعل قويّة من السلطان الذي أمر بتوقيف جميع الرهبان الفرنسيسكان الموجودين في القدس وبيت لحم وسجنهم في القاهرة.
إذًا، باستثناء بعض الحوادث التي لم يكن بالإمكان تجنّبها، عاش الرهبان الفرنسيسكان في فلسطين بشكل عام من دون التعرّض لكثير من الأذى.
تراجع حركة الحجّ إلى فلسطين
في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، تراجع عدد الحجّاج الأوربيّين إلى فلسطين بسبب التوسّع التركي في البحر المتوسّط وبحر إيجيه، ونتائج الحروب التي خاضها البنادقة ضدّ الأتراك التي أضعفت حركة السفن البندقيّة المخصّصة لنقل الحجّاج ما أدّى إلى اضطراب سير العمل على الخطّ البحري بين البندقيّة ويافا. بالإضافة إلى ذلك، خفّت الحماسة الدينية لدى الحجّاج الأوربيّين في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي لزيارة فلسطين بسبب ازدياد أخطار السفر في البحر وانحسار دور الرهبان الفرنسيسكان في تنظيم الحجّ والاعتناء بالحجّاج. فمع نهاية الحكم المملوكي سنة 1516-1517م، وسيطرة الأتراك على الشام ومصر، خسر الرهبان الفرنسيسكان دورهم وصار وجودهم في فلسطين مهدّدًا بسبب اختلال التوازن السياسي والاقتصادي بين البندقيّة والسلطنة العثمانيّة