الحجّ الأوربي إلى فلسطين في القرون الوسطى

الحجّ الأوربي إلى فلسطين  في القرون الوسطى

بدأ‭ ‬الحجّاج‭ ‬الأوربيّون‭ ‬يتوافدون‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الميلادي‭. ‬وقد‭ ‬أخذت‭ ‬أعدادهم‭ ‬تزداد‭ ‬مع‭ ‬تشييد‭ ‬هيلانة،‭ ‬والدة‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الروماني‭ ‬قسطنطين‭ (‬حكم‭ ‬بين‭ ‬سنتي‭ ‬306‭ ‬و337م‭)‬،‭ ‬كنيسة‭ ‬القيامة‭ ‬واكتشاف‭ ‬مكان‭ ‬الصليب‭ ‬المقدّس‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬والأشياء‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالسيّد‭ ‬المسيح‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أُسّس‭ ‬الكرسي‭ ‬البطريركي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الميلادي،‭ ‬جرى‭ ‬تفعيل‭ ‬الحجّ‭ ‬وتشجيع‭ ‬الحجّاج‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬القدس‭. ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السادس،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الحجّ‭ ‬مقتصرًا‭ ‬على‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدّسة‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬شمل‭ ‬المدن‭ ‬الواقعة‭ ‬شمالًا،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬أنطاكية،‭ ‬حيث‭ ‬تمّ‭ ‬بناء‭ ‬مزارات‭ ‬لتكريم‭ ‬القدّيسين‭.‬

 

سنة‭ ‬636م،‭ ‬صارت‭ ‬فلسطين‭ ‬تحت‭ ‬حكم‭ ‬المسلمين،‭ ‬وبسبب‭ ‬التغييرات‭ ‬السياسيّة‭ ‬والعسكريّة‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬الشرق،‭ ‬عرف‭ ‬الحجّ‭ ‬الأوربي‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬تراجعًا،‭ ‬فخفّ‭ ‬عدد‭ ‬الحجّاج‭ ‬بشكل‭ ‬تدريجي‭. ‬وتضاعفت‭ ‬مصاعب‭ ‬الحجّاج‭ ‬وازداد‭ ‬الخطر‭ ‬عليهم‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬بخاصّةٍ‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬الميلادي‭ ‬بسبب‭ ‬ضعف‭ ‬الخلافة‭ ‬العبّاسيّة‭ ‬وتفكّكها‭ ‬إلى‭ ‬دويلات‭ ‬تتنافس‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها،‭ ‬وظهور‭ ‬الفاطميّين‭ ‬وتأسيسهم‭ ‬خلافة،‭ ‬ونجاحهم‭ ‬بالسيطرة‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬وفلسطين‭ ‬وأقسام‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الشام،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬فلسطين‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬المحيطة‭ ‬بها‭ ‬مسرحًا‭ ‬للقتال‭ ‬والحروب‭ ‬بين‭ ‬السلالات‭ ‬الحاكمة‭ ‬المتخاصمة‭.‬‭ ‬فالخليفة‭ ‬الفاطمي‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬هدم‭ ‬كنيسة‭ ‬القيامة‭ ‬سنة‭ ‬1009م،‭ ‬والفوضى‭ ‬عمّت‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬ومناطق‭ ‬داخليّة‭ ‬كثيرة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬مدينة‭ ‬القدس،‭ ‬سقطت‭ ‬بأيدي‭ ‬السلاجقة‭ ‬سنة‭ ‬1071م،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬وبسبب‭ ‬غياب‭ ‬الأمن‭ ‬وفقدان‭ ‬سلطة‭ ‬مركزيّة،‭ ‬ازدادت‭ ‬هجمات‭ ‬البدو‭ ‬على‭ ‬القوافل‭ ‬والمسافرين‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الطرق‭ ‬والسهول‭. ‬هذه‭ ‬الحروب‭ ‬وأعمال‭ ‬الشغب‭ ‬والنهب‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬بعض‭ ‬مناطق‭ ‬بلاد‭ ‬الشام،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجّهة‭ ‬ضدّ‭ ‬المسيحييّن‭ ‬سكّان‭ ‬البلاد،‭ ‬ولكنّها‭ ‬تسببّت‭ ‬باجتياح‭ ‬بعض‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدّسة‭ ‬وتدمير‭ ‬بعض‭ ‬المزارات‭ ‬المسيحيّة،‭ ‬وأهّمها‭ ‬كان‭ ‬دير‭ ‬مار‭ ‬سابا‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬يهوذا،‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬كيلومترات‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬بيت‭ ‬لحم،‭ ‬الذي‭ ‬أحرقه‭ ‬البدو‭. ‬لكلّ‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬صار‭ ‬الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬محفوفًا‭ ‬بالأخطار،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يجرؤ‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬السفر‭ ‬بمفرده،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬الحجّاج‭ ‬يسافرون‭ ‬ضمن‭ ‬جماعات‭. ‬

 

الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬قبل‭ ‬الحملات‭ ‬الصليبيّة

حتّى‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬كان‭ ‬الحجّاج‭ ‬الأوربيّون‭ ‬يسافرون‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬البحر‭. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬اعتناق‭ ‬الهنغارييّن‭ ‬الديانة‭ ‬المسيحيّة‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬إيتيان‭ ‬سنة‭ ‬985‭ ‬م،‭ ‬وثبات‭ ‬واستمراريّة‭ ‬سلالته،‭ ‬صار‭ ‬الحجّاج‭ ‬يسافرون‭ ‬برًّا‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬عبر‭ ‬وادي‭ ‬الدانوب‭ ‬مرورًا‭ ‬بالبلقان‭ ‬وآسيا‭ ‬الصغرى‭ ‬ثم‭ ‬الساحل‭ ‬الشامي‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬القدس‭. ‬وكان‭ ‬الحجّاج‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬كافّة‭ ‬طبقات‭ ‬الشعب‭ ‬والمراتب‭: ‬أمراء،‭ ‬فرسان،‭ ‬أساقفة،‭ ‬كهنة،‭ ‬نبلاء،‭ ‬فلّاحون‭. ‬ولكن‭ ‬السفر‭ ‬كان‭ ‬يتمّ‭ ‬ضمن‭ ‬جماعات،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬عدد‭ ‬الحجّاج‭ ‬الذين‭ ‬يشكّلونها‭ ‬إلى‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬الحال‭ ‬سنة‭ ‬1054م‭ ‬عندما‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬أسقف‭ ‬مدينة‭ ‬كامبري‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬يرافقه‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬حاجّ‭ ‬من‭ ‬مقاطعتي‭ ‬بيكاريا‭ ‬والفلاندر،‭ ‬وسنة‭ ‬1064‭-‬1065م‭ ‬عندما‭ ‬توجّه‭ ‬نحو‭ ‬فلسطين‭ ‬نحو‭ ‬ثمانية‭ ‬آلاف‭ ‬حاج‭ ‬ألماني‭ ‬يتقدّمهم‭ ‬رئيس‭ ‬أساقفة‭ ‬مدينة‭ ‬ماينس،‭ ‬وأساقفة‭ ‬مدن‭ ‬راتيسبون،‭ ‬وبامبرغ،‭ ‬وأوترخت‭. ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬سفر‭ ‬الحجّاج‭ ‬الجماعي‭ ‬مواجهة‭ ‬أي‭ ‬خطر‭ ‬وصدّ‭ ‬أي‭ ‬اعتداء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتعرّضوا‭ ‬له،‭ ‬فشهد‭ ‬الحجّ‭ ‬تحوّلًا‭ ‬مثيرًا‭ ‬للاهتمام‭ ‬باتّخاذه‭ ‬شكل‭ ‬حملة‭ ‬عسكريّة،‭ ‬وهذا‭ ‬التحّول‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬مهّد‭ ‬للحملات‭ ‬الصليبيّة‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭.‬

 

الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬إبّان‭ ‬وجود‭ ‬الصليبيّين‭ ‬

في‭ ‬الشرق

مع‭ ‬نجاح‭ ‬الحملة‭ ‬الصليبيّة‭ ‬الأولى‭ ‬بالاستيلاء‭ ‬على‭ ‬فلسطين،‭ ‬وبخاصّة‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬سنة‭ ‬1099م،‭ ‬عرف‭ ‬الحجّ‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬التالية‭ ‬لهذا‭ ‬الانتصار‭ ‬حركة‭ ‬مزدهرة،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الحاجّ‮»‬‭ ‬و«الصليبي‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬صار‭ ‬الفرق‭ ‬واضحًا‭ ‬بين‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يغادرون‭ ‬أوربا‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭: ‬فالصليبيّون‭ ‬ركّزوا‭ ‬اهتمامهم‭ ‬على‭ ‬محاربة‭ ‬المسلمين‭ ‬وتنظيم‭ ‬أوضاعهم‭ ‬السياسيّة‭ ‬والإداريّة‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬احتلّوها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬الحجّاج،‭ ‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬يتمتّعون‭ ‬بالحماية‭ ‬لدى‭ ‬تنقّلهم‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬كرّسوا‭ ‬رحلتهم‭ ‬لممارسة‭ ‬عقائدهم‭ ‬الدينيّة‭ ‬وزيارة‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدّسة‭ ‬لإيفاء‭ ‬نذورهم‭. ‬ومع‭ ‬تأسيس‭ ‬الكنيسة‭ ‬اللاتينيّة‭ ‬في‭ ‬الشرق،‭ ‬وتعيين‭ ‬بطاركة‭ ‬وأساقفة‭ ‬لاتين‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬وجود‭ ‬الإكليروس‭ ‬اللاتيني‭ ‬ويشرفون‭ ‬على‭ ‬الكنائس‭ ‬والمزارات‭ ‬الدينيّة‭ ‬المشيّدة‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدّسة،‭ ‬صار‭ ‬الحجّاج‭ ‬الأوربيّون‭ ‬ينضمّون‭ ‬إلى‭ ‬الزياحات‭ ‬والاحتفالات‭ ‬الليتورجيّة‭ ‬التي‭ ‬تُقام‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدّسة‭.‬

سنة‭ ‬1187م،‭ ‬انتصر‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الأيّوبي‭ ‬على‭ ‬الصليبيّين،‭ ‬واسترجع‭ ‬معظم‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بحوزتهم‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬مدينة‭ ‬القدس،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬للصليبيّين‭ ‬إلّا‭ ‬مدينة‭ ‬صور‭ ‬يحتمون‭ ‬فيها‭. ‬انقطع‭ ‬الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬الحملة‭ ‬الصليبيّة‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬الملك‭ ‬ريتشارد‭ ‬قلب‭ ‬الأسد‭ ‬والتي‭ ‬انتهت‭ ‬بتوقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬الرملة‭ ‬سنة‭ ‬1192م‭ ‬مع‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الأيّوبي،‭ ‬تمّ‭ ‬الاتفاق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬القدس‭ ‬بأيدي‭ ‬المسلمين‭ ‬ولكن‭ ‬يمكن‭ ‬للأوربيّين‭ ‬أن‭ ‬يحجّوا‭ ‬إليها‭ ‬بحريّة‭. ‬وعرفت‭ ‬حركة‭ ‬الحجّ‭ ‬الأوربي‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تولّى‭ ‬المدينة‭ ‬المسيحيّون‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1229م‭ ‬إلى‭ ‬1244م‭ ‬بموجب‭ ‬المعاهدة‭ ‬التي‭ ‬عقدها‭ ‬الإمبراطور‭ ‬فريديريك‭ ‬الثاني‭ ‬مع‭ ‬السلطان‭ ‬الكامل‭ ‬الأيّوبي‭.‬

سنة‭ ‬1260م،‭ ‬ضمّ‭ ‬المماليك‭ ‬فلسطين‭ ‬إلى‭ ‬دولتهم‭. ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1276م،‭ ‬أصبح‭ ‬لمدينة‭ ‬القدس‭ ‬نظام‭ ‬إداري‭ ‬مستقلّ‭ ‬وعُيّن‭ ‬عليها‭ ‬مندوب‭ ‬يتبع‭ ‬مباشرةً‭ ‬السلطان‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭. ‬رغم‭ ‬أنّ‭ ‬المدينة‭ ‬تتمتّع‭ ‬بمركز‭ ‬ديني‭ ‬مهمّ‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المسلمين،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مهمّة‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الإدارية،‭ ‬وكانت‭ ‬تشكّل‭ ‬مكانًا‭ ‬لإقامة‭ ‬الأمراء‭ ‬المماليك‭ ‬غير‭ ‬الحائزين‭ ‬رضا‭ ‬السلطان‭. ‬

 

الحجّ‭ ‬الأوربي‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬إبّان‭ ‬حكم‭ ‬المماليك

سنة‭ ‬1291م،‭ ‬سقطت‭ ‬عكّا،‭ ‬آخر‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تخضع‭ ‬للحكم‭ ‬الصليبي‭ ‬بأيدي‭ ‬المماليك،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬زال‭ ‬الحكم‭ ‬الصليبي‭ ‬في‭ ‬الشرق‭. ‬رغم‭ ‬أنّ‭ ‬فكرة‭ ‬تنظيم‭ ‬حملة‭ ‬صليبيّة‭ ‬جديدة‭ ‬لاستعادة‭ ‬القدس‭ ‬بقيت‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬بابا‭ ‬روما‭ ‬وملوك‭ ‬الغرب،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬المصالح‭ ‬التجاريّة‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق‭ ‬كانت‭ ‬أقوى‭. ‬ولم‭ ‬يمضِ‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬حتّى‭ ‬عاودت‭ ‬المدن‭ ‬التجاريّة‭ ‬الأوربيّة‭ ‬اتصالاتها‭ ‬مع‭ ‬سلطان‭ ‬مصر‭ ‬وأرسلت‭ ‬السفراء‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬لعقد‭ ‬معاهدات‭ ‬صلح‭ ‬تسهيلًا‭ ‬للتبادل‭ ‬التجاري‭. ‬

وقام‭ ‬ملك‭ ‬أراغون‭ ‬خايمي‭ ‬الثاني‭ ‬وبابا‭ ‬روما‭ ‬بسلسلة‭ ‬من‭ ‬الاتّصالات‭ ‬مع‭ ‬السلطان‭ ‬الناصر‭ ‬محمّد‭ ‬بن‭ ‬قلاوون،‭ ‬ودخل‭ ‬أيضًا‭ ‬ملك‭ ‬نابولي‭ ‬روبير‭ ‬دنجو‭ ‬وزوجته‭ ‬سانشيا‭ ‬دو‭ ‬مايوركا‭ ‬على‭ ‬خطّ‭ ‬المفاوضات‭ ‬مع‭ ‬السلطان،‭ ‬وطالبوا‭ ‬بالسماح‭ ‬للرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬بالإقامة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬وإعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬حركة‭ ‬الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭. ‬ومنذ‭ ‬سنة‭ ‬1316م،‭ ‬طلب‭ ‬ملك‭ ‬نابولي‭ ‬روبير‭ ‬دنجو‭ ‬من‭ ‬الراهب‭ ‬الفرنسيسكاني‭ ‬روجيه‭ ‬غيران‭ ‬مباشرة‭ ‬مفاوضات‭ ‬مع‭ ‬السلطان‭ ‬الناصر‭ ‬محمّد‭ ‬بن‭ ‬قلاوون‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬امتياز‭ ‬يمكّن‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬من‭ ‬الإقامة‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬وشراء‭ ‬الأراضي‭. ‬وحوالى‭ ‬سنة‭ ‬1333م،‭ ‬كانت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬قد‭ ‬استقرّت‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬لخدمة‭ ‬كنيسة‭ ‬القيامة‭ ‬وكنيسة‭ ‬المهد‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬لحم‭. ‬وسنة‭ ‬1342م،‭ ‬عيّن‭ ‬البابا‭ ‬كليمنضوس‭ ‬السادس‭ ‬رسميًا‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬الممثّلين‭ ‬الوحيدين‭ ‬للإكليروس‭ ‬اللاتيني‭ ‬في‭ ‬السلطنة‭ ‬المملوكيّة‭. ‬وكانت‭ ‬أبرز‭ ‬المهام‭ ‬الموكلة‭ ‬إليهم،‭ ‬خدمة‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدّسة،‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالحجّاج‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬وتقديم‭ ‬المأوى‭ ‬لهم،‭ ‬ومرافقتهم‭ ‬وإرشادهم‭.‬

 

المماليك‭ ‬والحجّاج‭ ‬الأوربيّون

فرض‭ ‬المماليك‭ ‬على‭ ‬الحجّاج‭ ‬الأوربيّين‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الضرائب‭ ‬والرسوم‭ ‬أمّنت‭ ‬لهم‭ ‬مداخيل‭ ‬ماليّة‭ ‬مهمّة‭. ‬أيضًا،‭ ‬يأتي‭ ‬الحجّاج‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬خلال‭ ‬مدّة‭ ‬قصيرة‭ ‬ثمّ‭ ‬يعودون‭ ‬إلى‭ ‬بلادهم،‭ ‬فلا‭ ‬يشكّلون‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬المسلمين،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬المدن‭ ‬الأوربيّة‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬توجيه‭ ‬أساطيلها‭ ‬لمحاربة‭ ‬المسلمين،‭ ‬كانت‭ ‬توظّفها‭ ‬لنقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬ثمّ‭ ‬تعيدهم‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭.‬

كانت‭ ‬مدينة‭ ‬البندقيّة‭ ‬الإيطاليّة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬المدن‭ ‬الأوربيّة‭ ‬التي‭ ‬خصصّت‭ ‬سفن‭ ‬أسطولها‭ ‬التجاري‭ ‬لنقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬نظرًا‭ ‬للمكاسب‭ ‬الماليّة‭ ‬والأرباح‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجنيها‭ ‬من‭ ‬الحجّاج‭. ‬حتّى‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬السابقة‭ ‬للحملات‭ ‬الصليبيّة،‭ ‬كانت‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬الموانئ‭ ‬الأوربيّة‭ ‬لنقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭. ‬ومع‭ ‬تطوّر‭ ‬العلاقات‭ ‬التجاريّة‭ ‬بين‭ ‬مدينة‭ ‬البندقيّة‭ ‬والسلطنة‭ ‬المملوكيّة‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬1370م‭ ‬مع‭ ‬توقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬صلح‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الأوربيّة‭ (‬البندقيّة،‭ ‬جنوى،‭ ‬قبرص،‭ ‬مملكة‭ ‬أرغون‭ ‬في‭ ‬إسبانيا،‭ ‬فرسان‭ ‬الإسبتاريّة‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬رودوس‭) ‬والسلطنة‭ ‬المملوكيّة،‭ ‬ما‭ ‬سمح‭ ‬بمعاودة‭ ‬الحركة‭ ‬التجاريّة‭ ‬بعد‭ ‬انقطاع‭ ‬دام‭ ‬نحو‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬نتيجة‭ ‬الحملة‭ ‬العسكريّة‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬بيار‭ ‬الأوّل،‭ ‬ملك‭ ‬قبرص،‭ ‬ضدّ‭ ‬الإسكندريّة‭ ‬سنة‭ ‬1365م،‭ ‬تمّ‭ ‬تنظيم‭ ‬خطّي‭ ‬ملاحة‭ ‬بحريّين‭ ‬يصلان‭ ‬البندقيّة‭ ‬بمدينتي‭ ‬بيروت‭ ‬والإسكندريّة،‭ ‬لذلك،‭ ‬أصبح‭ ‬ملزمًا‭ ‬على‭ ‬الحجّاج‭ ‬الإختيار‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الخطّين‭. ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬نظّمت‭ ‬البندقيّة‭ ‬خطًّا‭ ‬ملاحيًّا‭ ‬إضافيًّا‭ ‬لنقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭. ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬نسّق‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬مع‭ ‬البنادقة‭ ‬لتنظيم‭ ‬الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭.‬

في‭ ‬القرنين‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬والخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلاديين‭ ‬نجحت‭ ‬مدينة‭ ‬البندقيّة‭ ‬في‭ ‬احتلال‭ ‬مركز‭ ‬الصدارة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تنظيم‭ ‬الحجّ‭ ‬ونقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬قطاعًا‭ ‬اقتصاديًّا‭ ‬مربحًا‭ ‬جدًّا‭. ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬300‭ ‬حاج‭ ‬يقصدون‭ ‬سنويًّا‭ ‬فلسطين‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬السفن‭ ‬البندقيّة،‭ ‬ويمكن‭ ‬لهذا‭ ‬العدد‭ ‬أن‭ ‬يرتفع‭ ‬ليتخطّى‭ ‬600‭ ‬حاج‭ ‬سنويًّا‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬بمنزلة‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬لنقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬الأوربيّين‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬مقارنةً‭ ‬مع‭ ‬الحِقَب‭ ‬السابقة‭. ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬تكاليف‭ ‬السفر‭ ‬للشخص‭ ‬الواحد‭ ‬كانت‭ ‬تراوح‭ ‬بين‭ ‬30‭ ‬و60‭ ‬دوكة‭ ‬ذهبيّة،‭ ‬ما‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬الأهميّة‭ ‬والمكانة‭ ‬اللتين‭ ‬احتلّهما‭ ‬نقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬البندقي‭. ‬

‭ ‬وخلال‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬أدت‭ ‬العائلة‭ ‬البندقيّة‭ ‬‮«‬كونتاريني‮»‬‭ ‬دورًا‭ ‬بارزًا‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬السفن‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬تحت‭ ‬إدارتها،‭ ‬حتّى‭ ‬إنّ‭ ‬أحد‭ ‬أفرادها،‭ ‬أندريا‭ ‬كونتاريني،‭ ‬الذي‭ ‬سطع‭ ‬اسمه‭ ‬بين‭ ‬سنتي‭ ‬1455م‭ ‬و1475م،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬أغوستينو‭ ‬كونتاريني‭ ‬بين‭ ‬سنتي‭ ‬1479م‭ ‬و1496م،‭ ‬أُطلِقَ‭ ‬عليهما‭ ‬لقب‭ ‬dal Zaffo‭ ‬أي‭ ‬‮«‬اليافي‮»‬‭ (‬نسبةً‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬يافا‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭) ‬بسبب‭ ‬شهرتهما‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬الميناء‭ ‬الرئيسي‭ ‬لسفن‭ ‬الحجّ‭.‬

‭ ‬

العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬والسلطات‭ ‬المملوكيّة‭ ‬

حصل‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬منذ‭ ‬عودتهم‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬نحو‭ ‬سنة‭ ‬1333م،‭ ‬نتيجة‭ ‬المفاوضات‭ ‬والعلاقات‭ ‬الحسنة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بين‭ ‬السلطان‭ ‬الناصر‭ ‬محمّد‭ ‬بن‭ ‬قلاوون‭ ‬والحكّام‭ ‬الأوربيّين،‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الامتيازات‭ ‬تجيز‭ ‬لهم‭ ‬تملّك‭ ‬الأراضي‭ ‬وإعادة‭ ‬ترميم‭ ‬أديرتهم‭ ‬والكنائس‭ ‬المنوطة‭ ‬بهم‭ ‬خدمتها‭. ‬ولكن‭ ‬يتّضح‭ ‬من‭ ‬المراسيم‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬سلاطين‭ ‬المماليك‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬والخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلاديين‭ ‬أنّ‭ ‬الوجود‭ ‬الفرنسيسكاني‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬كان‭ ‬هشًّا،‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بالتوازن‭ ‬السياسي‭ ‬والدبلوماسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قائمًا‭ ‬بين‭ ‬السلطان‭ ‬والحكّام‭ ‬الأوربيّين‭. ‬يجيز‭ ‬هذا‭ ‬التوازن‭ ‬للرهبان‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬والقيام‭ ‬بخدمة‭ ‬الحجّاج‭ ‬والمسيحيّين‭ ‬الأوربيّين‭ ‬الساكنين‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ (‬التجّار،‭ ‬الحجّاج،‭ ‬الأسرى‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬كانت‭ ‬مهمّة‭ ‬الرهبان‭ ‬صعبة‭ ‬بسبب‭ ‬تعرّضهم‭ ‬أحيانًا‭ ‬للمضايقات‭.‬

إنّ‭ ‬ضعف‭ ‬الحكم‭ ‬وعدم‭ ‬استقراره،‭ ‬والثورات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقودها‭ ‬الأمراء‭ ‬المماليك‭ ‬ضدّ‭ ‬السلطان‭ ‬والحكم‭ ‬المركزي،‭ ‬وانتشار‭ ‬الأوبئة‭ ‬والأمراض‭ ‬والتقلّبات‭ ‬المناخيّة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تخلّف‭ ‬الضحايا،‭ ‬والحروب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تزرع‭ ‬الموت‭ ‬والدمار،‭ ‬شكّلت‭ ‬العوامل‭ ‬الرئيسيّة‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬الهوّة‭ ‬بين‭ ‬الرهبان،‭ ‬والأوربيّين‭ ‬عمومًا،‭ ‬والسكان‭ ‬المحلييّن‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬بلاد‭ ‬الشام،‭ ‬وأدّت‭ ‬إلى‭ ‬فقدان‭ ‬الأمان‭ ‬وخلق‭ ‬مصاعب‭ ‬ومشاكل‭ ‬للرهبان‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬نتيجة‭ ‬الهجوم‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬ملك‭ ‬قبرص‭ ‬بيار‭ ‬الأوّل‭ ‬على‭ ‬الإسكندريّة‭ ‬سنة‭ ‬1365م‭ ‬واحتلاله‭ ‬لها‭ ‬لمدّة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام،‭ ‬تمّ‭ ‬توقيف‭ ‬كلّ‭ ‬الأوربيّين‭ ‬المقيمين‭ ‬في‭ ‬السلطنة‭ ‬المملوكيّة‭. ‬وسنة‭ ‬1476م،‭ ‬تعرّض‭ ‬قراصنة‭ ‬أوربيّون‭ ‬لسفينة‭ ‬وقبضوا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬متنها‭ ‬من‭ ‬المسلمين،‭ ‬فجاءت‭ ‬ردّة‭ ‬الفعل‭ ‬قويّة‭ ‬من‭ ‬السلطان‭ ‬الذي‭ ‬أمر‭ ‬بتوقيف‭ ‬جميع‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬الموجودين‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬وبيت‭ ‬لحم‭ ‬وسجنهم‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭. ‬

إذًا،‭ ‬باستثناء‭ ‬بعض‭ ‬الحوادث‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بالإمكان‭ ‬تجنّبها،‭ ‬عاش‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التعرّض‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الأذى‭.‬

‭ ‬

تراجع‭ ‬حركة‭ ‬الحجّ‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين

في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬تراجع‭ ‬عدد‭ ‬الحجّاج‭ ‬الأوربيّين‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬بسبب‭ ‬التوسّع‭ ‬التركي‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬المتوسّط‭ ‬وبحر‭ ‬إيجيه،‭ ‬ونتائج‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬البنادقة‭ ‬ضدّ‭ ‬الأتراك‭ ‬التي‭ ‬أضعفت‭ ‬حركة‭ ‬السفن‭ ‬البندقيّة‭ ‬المخصّصة‭ ‬لنقل‭ ‬الحجّاج‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬اضطراب‭ ‬سير‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬الخطّ‭ ‬البحري‭ ‬بين‭ ‬البندقيّة‭ ‬ويافا‭. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬خفّت‭ ‬الحماسة‭ ‬الدينية‭ ‬لدى‭ ‬الحجّاج‭ ‬الأوربيّين‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬لزيارة‭ ‬فلسطين‭ ‬بسبب‭ ‬ازدياد‭ ‬أخطار‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬وانحسار‭ ‬دور‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬الحجّ‭ ‬والاعتناء‭ ‬بالحجّاج‭. ‬فمع‭ ‬نهاية‭ ‬الحكم‭ ‬المملوكي‭ ‬سنة‭ ‬1516‭-‬1517م،‭ ‬وسيطرة‭ ‬الأتراك‭ ‬على‭ ‬الشام‭ ‬ومصر،‭ ‬خسر‭ ‬الرهبان‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬دورهم‭ ‬وصار‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬مهدّدًا‭ ‬بسبب‭ ‬اختلال‭ ‬التوازن‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬بين‭ ‬البندقيّة‭ ‬والسلطنة‭ ‬العثمانيّة‭ ‬