ذاكرتنا الجمعية وترهات مواقع التواصل

تموج في ذاكرة الفرد أحداث كثيرة مرتبطة بأمور شخصية بسيطة وأخرى لها ارتباطات متشعبة وأكثر تعقيدًا وقد تكون هذه المكتنزات في الذاكرة اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، لكنها حتمًا من الأمور التي كان لها أثر بالغ في تشكيل لبنات حياة الفرد، كما تزخر الذاكرة بأحداث متفاوتة في درجات السعادة والفرح والحزن والألم، كل هذه الأمور وغيرها تشكل الإرث الراسخ في تلافيف الذاكرة، وهذه الحصيلة التي تحدد سلوكيات الفرد وطرق تعامله مع الأحداث، إضافة إلى سبل تشكيل بنى ثقافية لدى الفرد، وبالتالي لدى الجماعة.
وللولوج إلى الموضوع بدقة أكبر يتوجب الحديث عن نشوء مفهوم الذاكرة الجمعية، ومتى بدأ تداوله؟ وأين؟ وكيف؟ وباختصار شديد وللإجابة على هذه الأسئلة المستحقة، الفضل يعود إلى عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس المتوفى في العام 1945م، حيث ركّز في دراساته وبحوثه على هذا المفهوم الذي يعمد على استيعاب الروابط والتمثيلات المشتركة في كيان المجتمع، ثم رصد طرق وسبل استعادة الأفراد بعض الأحداث المرحلية التي عاشوها أو سمعوا عنها.
ويرى هالبفاكس أن الذاكرة الجمعية تشترك إلى حد بعيد مع صفات الكائن الحي، فهي بحاجة إلى عناية خاصة للصمود والبقاء في وجه التحديات التي تتقاذفها، وربما ما يفسر ذلك منظومة العادات والتقاليد الاجتماعية والأعراف المكتسبة ومظاهرنا الاحتفالية التي تستقر في الذاكرة الجمعية، فهي كسباق الجري مَن يصمد أطول وستكون لديه القدرة على التحمل إضافة إلى توافر القوة البدنية والثبات الذهني وأمور أخرى تتعلق باللياقة والتكتيك، سيكتب له الظفر بالمركز الأول ثم الذي يليه وهكذا، لكن السباق في مواقع التواصل لا يخضع لقيم الجودة والاستحقاق والرصانة والقوة بل ستكون الغلبة للأكثر تأثيرًا بغض النظر عن المحتوى، كما أن العالم الفرنسي يشير إلى الدور الكبير الذي تلعبه الذاكرة في تجانس أعضاء المجتمع وتوحدهم على أحداث معينة يتآلف حولها أفراد المجتمع.
واتساقًا مع هذا المفهوم الذي نحن بصدد الحديث عنه فإن ذاكرة الفرد تتشكّل وتنمو ضمن أطر اجتماعية لا يمكن تجاهلها أو إغفالها، كما أن الإنسان بمفرده لا يستطيع أن يبني ذاكرةً أو ماضيًا خاصين به، فالذاكرة لن تبنى بمعزل عن الزمان الاجتماعي وأمكنة إقامة الفرد وطرق التعايش مع الآخرين، سواء عبر اللغة المستخدمة أو منظومة القيم وسجل التاريخ والأحداث التي تدور من حوله، وإلى ذلك من أمور لها تأثير كبير أيضًا في تشييد هذه الذاكرة وهي ما يسمعه الفرد من الآخرين يشكل حيزًا مهمًا في هذا الإطار، وليس ضروريًا أن يكون الفرد شاهدًا على حدث معين بشكل مباشر.
وفي نظرة فاحصة لكيفية تشكّل الذاكرة الجمعية يرى الخبراء أنها مكونة من تآزر بين مجموعة ذاكرات فردية وتشمل الأفكار والقيم والأنماط المسيطرة على مجتمع ما خلال فترة بحد ذاتها، فتشكل الذاكرة الجمعية طريقة متجانسة للإلمام بمجموعة كبيرة من التفاصيل التي يتعذر على الذاكرة الفردية تشكيلها بمفردها.
لم تركن الثقافة يومًا إلى السكون لأنها ترفض التقييد بمكان أو زمان فهي في حركة دائمة وفقًا لبراهين الإنثروبولوجيين على أن ماهية الثقافة تتكون من مزيج شخصي نابع من الفرد وعناصر أخرى تأتي بتفاعل الثقافات الأخرى، لذلك تكون القوى الناعمة هي الحلقة الأقوى في إحداث أي تغيير ربما يتحقق، كما أن للتواصل الثقافي مفعول السحر في تقريب وجهات النظر وتوحيد الشعوب.
ووفقًا لهذا الاتجاه، يتوجس الخبراء خيفة من تلاشي بعض ملامح الهوية وسقوط بعض الثوابت الثقافية من تلافيف الذاكرة وامتلاء الذاكرة الجمعية ببعض الأمور التي لا تمثلنا أو نمثلها ولا تعنينا ولا نعنيها، هنا يطبق القلق بفكيه على المصير المجهول، وربما ليس القلق بل الهلع والفزع مما ستكون عليه الحال... فالنذر ليست مشجعة.
منصات التواصل الاجتماعي
لم يعد مخفيًا على العالم أن منصات التواصل الاجتماعي باتت الأكثر تأثيرًا في حياة الفرد والمجتمع وتأكيدًا على ذلك تصريح مايكل زوكربيرغ: «100 مليون شخص مؤثر في عالم الشبكة العنكبوتية بشكل كبير، كما أن هناك أعدادًا أخرى تتفاوت درجات تفاعلها ضمن الشبكة، فمنهم من يكتفي بالمشاهدة وغيرهم نادرًا ما يعلق أو يبدي إعجابه».
هذا العدد الضخم يشير إلى مدى تأثير هذه المنصات على الفرد وعلى المجتمع، حيث يمتد هذا التأثير على الأشخاص الآخرين الذين يتواصلون مع هؤلاء المؤثرين، فيبدو أن العدد ربما يفوق ذلك. هذا الانغماس عبر شبكات التواصل الاجتماعي له آثاره السلبية على البنية الثقافية، حيث إن المشكلة الأولى التي تطل برأسها هي المعاناة من التسطيح الثقافي، فالكل يريد أن يتصدر المشهد ولو كان على حساب دقة المعلومة وحقيقتها، فيدور الصراع بين كل من يملك أي معلومة حول الموضوع المثار ليدلو بدلوه، ولا يقف الأمر عند هذا الحد فتجد من يعرف ومن لا يعرف يضع وجهة نظره سواء كانت صائبة أم خاطئة، وفي خضم هذا السباق المحموم تضيع الحقائق ويقل التركيز على الظواهر المهمة وينحرف الحوار أو الحديث عن جادة الصواب.
والمشكلة الثانية تتمثل في تلاشي الثقافة المحلية وذوبانها وسط الثقافات الأخرى، فيخفت أي صوت أمام جلبة المد الهادر من الثقافات الأخرى والأكثر تأثيرًا. أما المعضلة الثالثة فتتمحور حول الفرد وطريقة تعاطيه مع هذه المنصات، فيشعر بالغربة في وسط هذه الشبكة، لاسيما حينما يتملكه شعور أن ثقافته عاجزة عن مسايرة العصر، وما هو مسيطر على المشهد من الصعب تطبيقه لاعتبارات كثيرة. ومن المشكلات المهمة التي تحتاج إلى تدخل سريع من قبل الكيان الأسري، حيث إن سلطة الوالدين لم تعد سارية المفعول على أولادهم ولم تعد التربية حصرًا لهما، بل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تساهم وبشكل كبير جدًا في تربية الأولاد، لكن ما نوع هذه التربية؟ وما معاييرها؟ وما هي القيم والأخلاق والسمات التي تغرسها في نفوس النشء؟ طبعًا الحديث هنا لا يعني التعميم على كل الأسر والنسيج الاجتماعي، بل هناك استثناءات كبيرة، وهناك روابط أسرية متينة موجودة في كثير من العائلات تغرس القيم النبيلة في نفوس فلذات أكبادهم، وتحيط كياناتهم بمنظومة أخلاقية يصعب اختراقها وثوابت اجتماعية صلبة لا يمكن تجاوزها.
مؤسسات التعليم
وضمن هذا الإطار ثمة قصور كبير في مؤسسات التعليم، إذ لم يعد دورها بذلك التأثير المأمول، فقد تخلت عن دورها الكبير التي كانت تقوم به، وهذا النكوص ليس وليد المصادفة أو الحظ بل جاء بسبب تأثيرات كثيرة في هذه المؤسسات وعلى مدار أعوام كثيرة فكانت النتيجة لهذا الشكل المخيف. ومن الأسباب المهمة أيضًا تزاحم شبكات التواصل الاجتماعي بآلاف الأفكار والموضوعات، ما يجعل الفرد يستغني عن البحث عن أفكار جديدة، وبذلك يكون قد قام بفعل شنيع بتعطيل التفكير حينما رأى أنه لا حاجة له في التفكير في ظل توافر كل الأفكار التي خطرت في باله أو تلك التي لم تخطر بعد، هذا يجعل الفرد مجرد ناقل للفكرة، وهنا يتعطل الفعل والعمل الذهني الذي يقوم به العقل لإنتاج أفكار جديدة تدل على كفاءة الإنسان وقيمته.
الأمراض الاجتماعية
ولا يخفى عليكم أن مساوئ مواقع التواصل الاجتماعي تتفاقم مع استمرار التجارب ومرور الزمن، حيث أصبحت حلبة لممارسة الأمراض الاجتماعية وتجاوز الخصوصية وانتهاك الحريات، إلى ما هناك من سلبيات ربما لا يستطيع الخبراء القضاء عليها، أو على أقل تقدير الحد من خطورتها على المجتمع.
لذا يجب علينا قبل حدوث الضمور في ذاكرتنا، الموازنة في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وترشيد هذا الاستهلاك المفرط في المحافظة على بقايا ذاكرتنا، ونتخلص من إدمان ارتياد هذه المواقع وتعويض القصور الذي أطبق فكيه على عقولنا، لأن العقل يجب أن يبقى في حالة اكتساب علم أو معرفة بشكل متواصل، مثلاً تعلّم لغة أو مهارة أو قراءة أو تكوين علاقات اجتماعية مفيدة كما يجب علينا إهمال بل عدم الاكتراث لترهات مواقع التواصل وعدم رؤيتها، لأنه من المخجل أن تكون بعض هذه النماذج مثل «الفاشنيستا» أو من هم على شاكلتها يحققون كل هذا الرواج والتفاعل، والأنكى من ذلك أن مضمون المنتج الذي يقدمه هؤلاء للأسف لا يتعدى كونه ترهات، وحينما تدقق في ما يجري فتلاحظ أن كل هذه الشهرة جاءت بفضل رداءة المضمون وليس لجودة ما يطرحون أو لأهمية ما يعرضون بل لتفاهة ما يقدمونه من هرطقات صبيانية لا ترتقي لتكون في مقدمة المشاهدات وتحصل على الترند، أتساءل هل وصلت بنا الحال إلى هذا السوء بأن يتصدر المشهد هذه النماذج المخجلة والضحلة ثقافيًا والفقيرة ثقافيًا فكريًا؟ في الختام، نحن نحتاج إلى انتفاضة ثقافية تحافظ على هويتنا وإرثنا وتاريخنا، في نشر ما يشرف ذاكرتنا الجمعية، فماذا ستقول عنا الأجيال القادمة حينما تكون ذاكرتنا لم تحمل إلا هذه المشاهد الرديئة؟ لذا يجب وضع الأمور في نصابها قبل أن نفقد أصالتنا وعراقتنا وحتى ذاكرتنا، فلا يعقل أن نكتفي بالتفرّج على ما يجري! ■