قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------

من بين الأربع وعشرين قصة المقدمة لمجلة «العربي» يمكننا أن نختار هذه القصص الخمس للنشر لتوفرها على الحد الأدنى من العناصر الفنية والتقنية اللازمة للقصة القصيرة، وتوفرها كذلك على المهارات الأسلوبية التي باتت تسم القصة القصيرة المعاصرة بعد التطورات التاريخية التي لحقت بها، مثل: العنوان، بناء الحدث الأساسي للقصة، وتقديم الشخصية داخل السياق، والبنى التكوينية للأسلوب الفني، ومستوى اللغة السردية، وإدارة الحوار، وترتيب الحبكة السردية داخل المبنى العام للحدث، وتوافق الخاتمة مع التقديم، والمغزى الدلالي للقصة، لا أقول إن هذه القصص الخمس قد توفرت بالفعل على جميع اشتراطات القصة القصيرة المبينة سلفا ولكنها تعد - على الرغم من غلالة شفيفة من الأخطاء ومن الهنات الأسلوبية واللغوية - بمهارات كتابية واعدة، يمكنها بالمراس والكتابة والتشجيع أن تقدم عطاء متميزا في المستقبل.

القصة الأولى لأحمد إبراهيم زهدي «اثنان من الموتى»، وهي قصة ذكية جدا، اعتمد فيها كاتبها على ما يطلق عليه المفارقة السياقية، ذلك أن السارد هو ميت، غير أننا لا نكتشف ذلك إلا في نهاية القصة، مع أنه كشف عن هذا الموت في العنوان «اثنان من الموتى»، واعتمد في كتابتها على التكثيف اللغوي وعلى تأجيل المعنى، فكانت قصة من الناحية الفنية ناجحة جدًا.

القصة الثانية لعباس هادي زوين «رجل غريب»، وهي قصة مبنية بشكل جيد، وفيها مهارات أسلوبية وتقنيات واضحة لولا بعض الهنات اللغوية، وقد نظم حدثين متقابلين بطريقة طباقية ناجحة بين شخص يتعرف على السارد غير أنه ينكر معرفته به، وفي الحدث الثاني السارد يتعرف على الرجل الغريب غير أن الأخير ينكر معرفته، وبين هذا الغموض والاشتباه والألغاز تتدفق الحبكة بشكل سلس جدا حتى تصل نهايتها.

القصة الثالثة لأيمن قشوشي وهي «شهرزاد»، وعلى الرغم من أنها استعادة تاريخية للمبنى الأساسي للحكايات العباسية القديمة، أو الليالي العربية، إلا أن كاتبها قد اختار وبشكل بارع أن تروى أحداث القصة عن طريق الديك، حيث يسرد الديك في المقطع الأول صورة شهرزاد المعاصرة بربطها مع شهرزاد الواردة في ألف ليلة وليلة، وفي المقطع الثاني الذي يسرده الشخص الأول يتحول الديك إلى الضحية بعد أن نجت شهرزاد من الموت، وعلى الرغم من أن التنفيذ الفني للمقطع الأول من القصة كان أفضل من المقطع الثاني، إلا أن القصة توفرت على لغة شعرية مكثفة، ودقة في الاستخدامات اللسانية والأسلوبية. كما أن القصة بمجملها تشي بموهبة واعدة في كتابة القصة القصيرة.

القصة الرابعة هي «دفء المعطفين» لسريعة سليم حديد، وتقوم الحبكة على لعبة بين عاشقين يتبادلان معطفيهما، وفي الوقت الذي يشعر كل واحد منهما بدفء جسد الآخر ويتحسس أنفاسه يتطور نقاش بينهما عن الحب، والقصة مغرقة بلغة شعرية، واستعارات مكنية كثيرة، ولغة مجازية جعلت تطور الحدث داخل القصة ثقيلا.

القصة الخامسة «كابوس لا أستغربه» لسمر عبدالرحمن الجيار قصة سريالية بامتياز وقد أفادت كثيرا من أساليب الكتابة السريالية في تداعي الصور، وغرائبية الحدث، وبناء الحكايات الخيالية الفنطازية، وعلى الرغم من قصرها إلا أنها استطاعت أن تقدم مشهدا مكثفا لكابوس يحدث بين الحلم واليقظة يقوم على مفارقات صورية متعددة.

----------------------------
اثنان من الموتى
أحمد إبراهيم زهدي - مصر

يأتيني الخبر في أول يومي قبل أن أذهب إلى عملي، أو حتى أنفض عني آثار النوم فقررت أن أمكث في البيت هذا اليوم، ذهبت إلى الهاتف كالميت ولم أستطع أن أعطي جملة واحدة كاملة لمن يحدثني ولكني أفهمتهم أني لن أتمكن من الحضور إلى العمل اليوم.

وجدت النعاس يهجم علي فذهبت إلى السرير من فوري ونمت، استغرقت في النوم ولبثت يوما أو بعض يوم لم أستيقظ فيه قط، كانت الأحلام رفيقتي في هذا الوقت، أحلام أذكرها جيدًا، فقد عشت فيها بكل ما فيّ من أحاسيس ووجدان.

كنت تارة أرى «مجدي» وقد تلونت جبهته بالدماء قبل الحادث، قبل أن أصدمه .. أي أنني لم أتسبب في موته فقد كان ميتًا أصلًا.

وتارة أخرى أجدني أتفاداه بسيارتي فلا يصاب بأذى، ومرة أجدني أطعنه بسكين في رقبته حتى يموت والغل يملأ قلبي ناحية هذا الوغد الذي دمر حياتي.

ظل الذنب جاثما على صدري فلم أستطع القيام، والحق أني لم أكن أريد القيام، فهناك في اليقظة لا ينتظرني إلا الشعور بالذنب، لا ينتظرني إلا أهل الفقيد الذي قتلته بسيارتي، لا ينتظرني إلا النيابة والشهود والتحقيقات لا ينتظرني إلا «مجدي» نفسه بنظرة المغدور التي لا تفارق مخيلتي.

قررت ألا أقوم أبدًا، ألا أذهب بقدمي إلى التهلكة ألا أترك حلما جميلا سيطر على كياني فصرت أحياه بعقلي وجسدي وكل قلبي، صرت أحياه وأعدّل منه حتى يصير أجمل، حتى يصير أكثر بهاء ونشوة، كان حلما خاليا من «مجدي»، كان خاليا من كل البشر، والسيارات والشوارع والعمل، كان خاليا من كل شيء وهذا كان أجمل ما فيه.

ظللت خاليًا من الذكريات، خاليًا من الإحساس بالذنب، من المسئولية، ظللت نائما إلى الأبد، ولم يأت أحد ليوقظني.

----------------------------
«رجل غريب»
عباس هادي عباس زوين - العراق

لا أشك مطلقا أن هذا القادم نحوي قد رأيته في مكان ما ولكن ذاكرتني في بعض الأحيان تخونني مع أنني أتمتع بذاكرة تكاد تكون خارقة وبشهادة الجميع،نفس الوجه المستطيل ذو البشرة الحنطية ونفس الانف المتجه صوب الفم بمنخرين شديدي الاتساع، وذلك الفم الضاحك الذي لا يعرف كيف ينغلق.. فمن كثرة الضحك ارتسم على جانبيه قوسان.. فإن اغلق الرجل فمه يبدو ضاحكا بتأثير ذلك الرسم، ونفس ذلك الشعر المجعد الاسود الذي تنتشر بسطحه تموجات تشبه تموجات بحيرة ماء عذب عندما يقبّل مائها ريح متوسطة آتية من مكان قريب، وتلك الرقبة المتميزة الطويلة بحنجرتها المتدلية والتي تكاد تنخلع من مكانها عندما يتكلم أو يضحك، وتلكما العينان صاحبتا الرموش الطويلة وبحدقتيهما الواسعتين النرجسيتي اللون تكاد من سعتهما أن تتلاقيا عند بداية الأنف من جهة الجبهة، وحتى طريقته بالمشي التي يتميز بها أتذكرها جيدا فهي أقرب للرقص منها للمشي فبكل خطوة ترتفع تلك القامة الطويلة للأعلى ثم تنخفض وكأنه لاعب يرقص بعد إحرازه المرتبة الأولى .

ألقى الرجل تحيته من فمه الضاحك الذي لا يعرف إلا الاتساع، نظرت بتركيز محاولا عصر ذاكرتي لعلي أجد بين ثناياها صورة ذلك الرجل، نعم تلك الصورة موجودة ولكنها تختفي خلف ستار ليس النسيان بل ستار آخر لا أعرفه...حتى بدا لي أن ذلك الرجل قد رأيته بمنامي وليس حقيقة.

بدأ الحديث بيننا يتخلله قهقهات من ذلك الفم، تركيزي يزداد على وجهه المألوف الغامض، تصرفه معي يوحي للقريب منا أنه يعرفني ولكن أين ذهبت تلك الذاكرة التي طالما تباهيت بحدتها وشهد لها الجميع بسطوتها؟ أردت معرفة اسمه منه ولكن حيائي منعني من ذلك، فكيف لي أن أسأل شخصا عن اسمه وهو يعرفني حق المعرفة؟ بل وأنا أعرفه ولكن...

ها .... ناداه رجل مر بالجوار بكنيته مؤديا له التحية (سلام .. أبو ...) قمت باسترجاع ما تحمل الكنية من أسماء متعارف عليها اجتماعيا، فتوصلت لاسم ذاكرتي خالية تماما منه.

أليس ذلك صحيح يا ( ...) ويا (أبو...)؟ وجّه الرجل سؤاله لي فانتبهت بعد أن غرقت بأعماق ذاكرتي لعلي أجد بقعرها ما يعرفني يذلك الشخص. آه .. لقد ناداني باسمي وبكنيتي التي عرفني بها كل الناس فزادت حيرتي..فتحولت الحيرة لاضطراب.

نعم .. نعم .. مضبوط .. قلت ذلك وأنا لا أعرف مناسبة السؤال فارتجف صوتي عند الإجابة حياء منه.

كانت شخصيته تميل للامبالاة فهو لم يلاحظ ارتباكي وحيرتي حين يوجه أسئلته لي.

ما هي آخر أخبارك يا(...) فلقد مضت فترة طويلة لم نشاهدك فيها منذ أن تلاقينا في أحد المطاعم ودفعت وقتها حسابي علما بأني كنت قبلك بالمطعم ولكنك عنيد... ها ها ها..

ضحكت ضحكة صفراء ميتة.. أي مطعم هذا الذي يتكلم عنه وأي لقاء .. ياألله لقد انغلقت الصفحة من ذاكرتي المخصصة لذلك الرجل فكأن فيروسًا مدمرًا قد أصابها.

نعم .. نـ ..ع...م، أتذكر..أتذكر .. ذلك .. قلت ذلك مع أنني لا أعلم عمّ يتكلم.

وبهذه المناسبة أدعوك لوجبة الغداء بنفس ذلك المطعم شرط ألا تحاول الدفع يا(...) فأنا صاحب الدعوة. ها ها ها.

أعتذرت طويلا ولكن دون جدوى .. واعتذاري جاء من فرط خجلي وليس من عدم رغبتي لتلبية هذه الدعوة مع أنها فرصة للترفيه.. كنت بحاجة ماسة إليها.

أزدادت حيرتي عند ولوجنا المطعم فلقد اكتشفت بأني لم أدخله بحياتي قط....كنت أسمع عنه فقط.

جلس الرجل قبالتي، وبحركة منه مقصودة استدار حتى وصل قرب أذني فهمس قائلا:

- يبدو أنك كبرت ولم تعد تتذكر أصدقاءك هيه.. هيه.. هيه..

- لا ليس كما تظن فبالي مشغول بأمر..

- أنا أعرف.. أنا أعرف... فدائنوك يطالبونك بالسداد وأنت غير قادر ولكن لا بأس فبعد الغداء سنجد الحل.. ها ها .. ها ها..

ياألله من أين يعرف هذا الرجل كل ذلك.. والمصيبة أنا لا أعرفه .. لا ..لا.. بل لا أتذكره.

كل لقمة تدخل جوفي تدخل معها آلاف الأفكار والتساؤلات (من هذا الرجل؟ ومن يكون ؟ وما يدريه بحياتي الخاصة ؟ ولماذا أنا لا أتذكره) فلم أتوصل لأجابة.

بعد أن شربنا الشاي أخرج الرجل صكا ودون لأمري مبلغا من المال ووضعه بجيبي بعد قهقهة طويلة ولكنها بعمق هذه المرة.

دفعت يده ولكن يده كانت الأقوى فدسها بجيبي.

يارجل خذ فأنا مدين لك وهذا جزء من ذلك الدين والبقية ستأتي ..ها ها ها.

وصلت للبيت وتفحصت الصك وأسرعت عيني لتقرأ توقيع الرجل ولكن ازدادت حيرتي عندما لم أعرف ذلك الرجل من اسمه.

تحولت عيني صوب المبلغ فشهقت عندما قرأت مقدار المبلغ المكتوب.. أذ كان بالضبط مقدار ديوني.

بعد فترة من الزمن التقيته صدفة ..صرخت مرحبا به وعانقته ولكنه..

استقبلني ليس بقهقهته المعهودة التي رأيتها سابقا بتلك الذاكرة المغلقة .. ورأيتها في المرة الأخيرة..ولكن بتوجيه سؤاله مستغربا:

من أنت يا رجل؟ فأنا لا أعرفك.

----------------------------
«شهرزاد»
أيمن قشوشي - المغرب

ما روى الديك:

جلست تحت مظلة زهرية، تضع قدميها على كرسي مقابل، وتشرب عصيرا باردا، تلبس تنورة قصيرة أو سروالا ضيقا أو هما معا. تضع مكياجا خفيفا وعطرا غاليا، ولا تنسى الخاتم الذي تنظر إليه فتعاودها رعشة اللسان الذي لا يهدأ الليل بطوله.

تأخذني معها وتغادر شهرزاد بسرعة خوفا من أن تصل متأخرة عن العمل. تركن سيارتها المستديرة، وتشعل أول سيجارة في الصباح، فهي لا تدخن أمام أبنائها.هكذا هم وهن الحداثيون والحداثيات!

تنزوي في مكتبها والعيون تلاحقها. فهي شهرزاد الحكاية والغواية، أجلس مراقبا لسانها وشمس الأفق. لا أهتم بحبوب القمح التي يغريني بها زملاؤها، علهم يبعدون العرف عن الثغر. قدموا لي دجاجة ممتلئة كشهرزاد. فيتوقف الزمن ما بين اقتراب قائمتها اليمنى وابتعاد اليسرى عن الأرض. انتفش ريشي إلا أن شهرزاد عاتبتني بنظرة باهتة. غضبت فصحت صوتا مفهوما في الآذان: أنا الديك، أنا ديك بالعرف وبشهرزاد.

لم يجرؤ أحد أن يسألها عن معين سرها الدفين. قد تكون جنية من حكاياتها، فلسانها لا يتعب ولم تستجدني ليلة لأستبق صياحي.

نخرج ونتجه نحو المطعم القريب، أجلس مقابلا لها: أختار دوما صدر دجاج مشوي وتهديني عصير توت وتتمنى بصوت مرتفع لو أن شهريار لا ينام نهارا.

تحملني بين ذراعيها البضين وتمشط ريشي اللامع، تحب أن تضع يدها تحت جناحي الأيمن وقائمتي في جيب سروالها.

لا زلنا نشتري لبعضنا الهدايا، إلا أننا لم نعد نتكلم كثيرا منذ أن رقص لها ذلك الآدمي واقتحم الحكاية.

كان يقول: ربما الديك من يحكي وعندما يتعب يصيح، ففيه النهاية والبداية وبه اكتمال الرواية وما شهرزاد سوى غواية الديك الذي لا يشيخ. لا أعرف لم كانت تمنعني من أن أفقأ عينيه رغم شدة اشتياقي لبريقهما البشري ولفوائدهما الايروسية.

ما رويت أنا:

شهرزاد البداية والنهاية. التقينا على حافة السطر تحت جناحي جني. التقينا رمادا تحت نبيذ هلامي. كانت سماء وكنت الشريد. حكت بلسان غريب، عن المستقبل، عن ضياع الساعات ما بين صياح الديك وجناحي الجني.

قلت: أأنت شهرزاد؟، مسيح العذارى، صوت الصور، انحسار الروح في بوثقة من نار، انكسار القلب على القمم وفي أخاديد الغيب، انتصاب المجانيق أيام الهدن، نار بروميتيوس التي سرقت مني والتي أنتظر في كل قطرة ندى أن تعود إلي، نفسي الأول كل صباح والذي أصبح يصل متعبا ولاهثا الى جوفي.

قالت: نعم فمن تكون؟

قلت: أنا لا أنا الآن. لست سوى ظل يبحث عن ظله الذي ضاع مع الغمام في قضمات الأفواه. ولا أتمنى سوى أن ترقصي عارية حافية على جسدي الشاحب، أو نرقص كيفما اتفق، وحيدين تحت القمر.

قالت: ماذا تريد؟

قلت: لا أدري

قالت: فما السعادة؟

قلت : لا أدري

قالت: وما الحياة؟

قلت: لا أدري

قالت: فإذن ما الممات؟

قلت: أن أحيا وأنت في الحياة بعيدة، نفسي إذ تغادرها شهرزاد.

تذوي الشمس ببطء ويحس الديك بامتداد السواد وضياع الظلال في الحكاية وعجز الكليم عن الانتظار، ينشل اللسان ويختنق الجسد وتحلق الريشات مع الهواء السحري فتلتصق إحداها بشفتي وتأمرهما بالانغلاق.

فيعي الديك أن الأمر بدأ وبأن الوسائد تنتظر وأن فتيل البخور الأول قد احترق. تمسكه شهرزاد بقوة وتطير به عاليا إلى حيث أنتظرها على أعلى الهضبة، قرب سريرها المفتوح على السماء بقوائمه الأربع المدفونة عميقا والتي التفت حولها أغصان الأشجار.

كنت جالسا أراقب تبعثر القمر وغياب الظلال. وصلت مع السواد، كما تخيلتها صغيرا، في نفس عمري، رعشة الرعشات، حنين الأزل، مثيرة كألم إبرة، متوسدة المدى، ترى المدينة تحت ساجدة لها، عينان إلى الأفق ولا أفق إلا الذي ينمو بين حلمتيها، خصلات الريح تحرك شعرها المنسدل في هذا السديم الشبحي والقمر حليب مضيء كعنق شهرزاد.

كانت ترتدي سروالا فضفاضا قصيرا ينتهي على منتصف ساق عاجية، تضع خلخالا في قدمها اليسرى يضيء ويغني مع صياح الديك الذي كنت أستلذ برؤيته يرافقها فشهريار نائم نهارا، وليلا لا تفارقه لذة الإنصات. كان يغار كلما اقتربت من السرير فيحرك قائمتيه بانتشاء عسكري أيام احتفالات الأعياد. مرة غضب وزعق كما المارد ومد جناحيه فوليت هاربا.

أصبحت أترك مسافة بيني وبينهما حاولت أن أفهم ما يدور في خلد شهرزاد كلما تفرست في ملامحها إلا أني لا أعثر إلا على الفراغ فترسم لي ابتسامتها الباهتة وكأنها هي من يسبر أفكاري.

أما الديك الديك، العرف، العرف أحمر، الديك/ شهرزاد/شهريار. الديك العرف وكرونوس/ شهرزاد الغواية والكلام/ الديك العرف والجناح/ شهريار الفحولة والانتظار/ الديك يروي ويروى والرواية/الديك شهرزاد وشهريار- فكم تمنيت أن يكون على مائدتي الليلة.

والليلة أحسست برهبة كبيرة ربما من الرياح القوية التي كانت تدفعني إلى الخلف والتي بالكاد استطعت فيها أن أحافظ على توازني. سرعة مجيء شهرزاد هي الأخرى أدخلتني في ريبة غريبة عن المكان. كانت متوترة، أشعلت سيجارة بصعوبة بالغة.

قلت لها: أين الديك يا شهرزاد؟

لم تنتظر أن أنهي كلامي وركضت مدبرة لتتوقف عند صخرة جوار البحر. كانت البشارة والبشارات لا تتغير أبدا. حملته بين ذراعيها وعادت، نزعت خاتمها ووضعته في إحدى قائمتيه، كان وهنا ومصفرا.

نظرت إلى عيني مباشرة وقالت مستجدية: إنها الليلة الأخيرة، خذ الديك ولا تفزع إن غاب عن الوعي، من تذكر العذراء لما نطق المسيح. أنت الآن الحكاية وآخر ذرة يكتمل بها البدر. وغابت عن الوجود.

كان لذيذا خصوصا صدره الممتلئ.

روت شهرزاد فقالت........

----------------------------
«دفء المعطفين»
سريعة سليم حديد - سورية

بكل ما يملكه صوته من حبٍّ وحنان.. ناداها.

توقَّفت, التفتت, ابتسمت.

سار كل منهما نحو الآخر, على الرغم من بطء الخطوات فقد كانت تمثِّل ما يختزن قلب كل منهما تجاه الآخر .

همس: ما رأيك لو نمارس لعبة جديدة تفتح قلبينا على نوافذ نجهلها؟

ـ سوَّرتَ قلبي بلهيب الشوق لمعرفتها.

ـ اللعبة بسيطة جدَّاً, تتلخَّص بأن نتبادل لبس المعطفين.

ـ لكنَّ القياس مختلف تماماً, وقد يخجل الجسد مما ارتدى, فيبدو الأمر مضحكا .ً

ـ التجربة جميلة, لا ضير فيها.

بعدما تبادلا لبس المعطفين, انداحت ابتسامات ملوَّنة, وغمزات مشوبة بفهم نوايا الآخر.

ضمَّ ياقة معطفها حول عنقه, رفع رأسه بنشوة قائلاً:

ـ معطفك مثقل بالحجارة البيضاء, تحضنها أعشاب نديَّة, أكاد أسمع صدى زفير الأقحوان بين ثناياها, وكأنَّ شذى العالم تجمَّع حول تويجاته.

دارتْ بمعطفه الفضفاض دورات عدَّة, وهي تضمُّ طرفيه إلى صدرها, هزَّتْ رأسها مُبعدةً شعرها عن وجهها مبتسمة موحية أنها فهمت خيوط اللعبة:

ـ في معطفكَ حجارة سوداء مكحَّلة بالأخضر, وطيور تحبسها عن التَّغريد.

تنهَّد, فرد يديه, ثم ضمَّهما إلى صدره, وهو يداري ابتسامته:

ـ الكُمَّان ساقيتان من حنان, والصدر خرائط فنجان قهوة تجيب عن ماهيّة الحبيب.

دارت بالمعطف دورة أخرى, توقَّفتْ. تحسَّستْ قماشه قائلة:

ـ جوخ معطفكِ مبلل بعواطف مضطربة, بعض خيوطه مغزولة بصنَّارة التلاعب والاحتيال, أما أزراره فهي موشكة على السقوط, وبعضها مختفٍ كأقمار خلف الغيوم.

أطبق معطفها على صدره بعدما غمر رأسه في ثناياه, وعبَّ دفعة من عطره, رفع جبينه قائلاً:

ـ في جيوبك رائحة تخاذل وخيبة, وأزهار توت كاذبة, ورسائل مكتوبة على أوراق هشَّة تتطاير نحو طرقات معتمة .

ردَّت بنبرة قاسية: في جيوبك وجوه لعملات غريبة تصكها لهذا الزمان, وأزرار مقطوعة من ثياب مات زيُّها, وقطع محارم مطرَّزة بلهاث الحبِّ مدفونة في العتمة كرأس نعامة خائفة.

عكـَّر التجهُّم وجهه. افتعل ابتسامة قال:

ـ بين ثنايا معطفكِ: تعاويذ وحجب أدعيات ونذور وشفاه محترقة, أيد عابثة , وأغانٍ راقصة, مشاوير طيور حالمة, وأزاهير بلا عطور وألوان .

طفح وجهها بحمرة شقائق النعمان, فلم تتمكـَّن من امتصاص غضبها, أو التوقُّّّف عن متابعة الردِّ, انتفضتْ كطير أفلت من يدي طفل عنيد:

ـ في حنايا معطفكَ أباريق مترعة بالأكاذيب لعيد الحبِّ, وابتسامات ملوَّنة تتقن فن الإغراء بحذق, ومرايا امتصَّت عيونها صوراً غير لائقة.

مسح جبينه الرطب بكمِّ معطفها قائلاً:

ـ تجول في بطانة الصدر ورود لا تعرفين قيمتها, كما أنها غير قادرة على حبس أنفاسها, لأنها تلهث خلف أرقام تغيَّرت لغة خطوطها.

تأوَّهتْ. رفعتْ ياقة المعطف إلى وجهها, ثم جذبتها نحو الأسفل بغيظ , اغرورقتْ عيناها بدمعات لم تتمكـَّن من حبسها قائلة:

ـ في معطفك دفء أنفاس الصبايا, وخمور قطرتَها من زهر الصبَّار, وعناقيد تخضَّبت قسوة, ومرارة. طيَّاته المعتمة تتوسَّدها نوايا شائكة. فمن تراها ستكون رقم النهاية؟

شعر أن اللعبة تحوَّلت إلى ورطة ليس من السهل ترميم جراحها.

داعب وجهها بحنان: يبدو أننا حين تناوبتنا حركة الفصول لم نحسن اختيار ملابسنا.

ـ ربما لأن الفصل كان يطرح فصولا جديدة وغريبة لا نعرف أوانها, وأيها المثمر, أو الكاذب منها.

أخفى وجهه بكمِّه, انداح صوته ضحكة عالية, محاولاً أن يستغلَّها لتخفيف حدَّة النقاش الذي تطوَّر وارتفعت وتيرته إلى حدٍّ خاف على ضياع نكهة الحبِّ بينهما, فالنوافذ التي انفتحت, عبرتها رياح أقضَّت سكون الحبِّ, فحملته, وهي تصفر بخوف.

فسحة من الصمت ارتفعت حاجزاً بينهما, مرَّت أصابعه فوق خدَّيها, ضمَّ وجهها بيديه قائلاً:

وددتُ من تبادل المعطفين أنْ يرتدي كلّ منا الآخر ليستمتع بدفئه, رائحته، حرارة أنفاسه, وحلاوة روحه, وليعيش لحظات ممتعة مميَّزة, فيعبر بذلك أبواب الارتقاء, حتى لو هبَّت رياح قارصة لا مانع من التجربة, والخوض في بحار غريبة .

ـ لا أنكر حين ارتديت معطفك. شعرت أنني بجعة تطير بثوب حريري طرزته ساحرة ماهرة من عهد بعيد, فحلَّقتُ في شذى فضاء جديد, وعندما تهافتت عليَّ الظنون, أخذت البجعة تهوي نحو الخيبة بأسى.

ـ عندما ارتديت معطفكِ, تلبَّسني حبُّك نعاساً أغرق روحي.

أمسك يديها بحنان, ابتسم مدارياً نظرة الندم, قال مبدياً لهفة عطرة:

أنت غبار طلع الحياة, فاجعليني موطناً للربيع, وانفرشي على مساحات تويجات روحي.

ـ أطفأتَ ناراً ما كنتُ أظنُّ أنَّ بحار العالم سترويها, أنتَ فؤادي فانسكب عطراً على جروحي.

ـ كلُّ الكواكب تدور حولها أقمار عدة, إلا كوكبنا الأزرق فله قمر واحد, فهل لكِ أن تكوني كوكبي السماوي؟

ـ قبَّلته بنظرة حبٍّ غامرة, تنهَّدت: شرط أن تبعد شمسكَ المحرقة عن جوانحي.

بأمر الحبِّ اقتربا, غطَّى كلٌّ منهما رأسه بمعطف الآخر, التصقا, تعانقا, طحنا كل الأحرف, فتقاذفت أرغفة الكلام مواقف ودواوين وروايات تلفُّ المدن والعالم, انبرى صدى صوتيهما بالغناء يهزُّ أنهار الوديان وأعشاب السهول , أشجار الجبال وعناقيد الحبِّ.

تلاشى الجسدان, وتناوب الحلول والرحيل وجوهاً جديدة في جدليَّة الحياة المطلقة تحت دفء المعطفين.

----------------------------
«كابوس لا أستغربه»
سمر عبد الرحمن محمد الجيار - مصر

أردت أن أعزف على الهارمونيكا.. كم هي خفيفة ورخيصة، ويمكنني حملها لأي مكان.. حتى إلى مكان سكني.. بيتي المسكون، حيث تلك المرأة المطلقة ثائرة الشعر التي تصنع كعكات زفاف العرائس.. كانت مريضة.. خشينا العدوى.. كلنا.. كان ذلك الفيل مريضًا جدًا ثمة خيط رفيع محكم حول كاحله يقتله ألما ويمنعه من الأكل.. يدحرج وجهه المنتفخ أمامه فهو لا يستطيع رفعه. لم يتوقفوا عن تكليفه بالعمل الشاق. كان يجر الأثقال داخل الشقة..دافعا إياها بمؤخرته، ووجهه متساقط من علي جمجته ومتدل على الأرض لا حياة فيه. لا أعرف ماذا حل بحلم الهارمونيكا.. أتيت بمقص.. وقصصت الخيط الرفيع ،خفت أن تصيبني رفسة من الفيل.. ارتعدت وجلا .كان أخي يحذرني من غضب الفيل إن آلمته وأنا أزيل الخيط. كنت أتعذب من أجله، ولم يهمني مايصيبني..الكثيرون سقطوا مرضي بنفس أعراض المرأة المطلقة.. حتى الفيل نفسه.. كانت تذبل وتشحب كلما مرت الأيام ..كان الظلام يزداد. كنا ندخل حجرتها فنجدها سابحة في الهواء في أعلى ركن السقف.. اعتقدناها كيانًا آخر.. ومض ضوء سيارة في الحجرة، تأكدنا من شكوكنا.. كانت جثة دامية متشمعة شبه حية معلقة في الركن المعتاد.. سقط أنف الفيل وأوشك على الموت.. كنا في ذلك الحين نعد عربات خشبية لجنود حرب أكتوبر ليستقلوها في طريقهم إلى الحرب، ذات زوايا هندسية دقيقة. لم أخش المرآه قط.. لكني فطنت إلى غل المرأة المطلقة والمصابين بالعدوى.. ورغبتهم في إيذائنا. كلمني شبح الحمام ذي الجسم المتآكل..أنكرت تحذيره.. وجهه المتساقط كان يثير رعبي.. أنكرت رؤيتي لظلي وكأنه مشنوق.. لكني لم أستطع أن أنكر ذلك الدرج المحروق المغطى بمادة مطاطية الذي خرج من الحائط، حذرته من الاقتراب.. لكنه اقترب.. تشاجرنا بالأيدي، وبدا لي أن هذه يمكن أن تكون النهاية.. نهاية الكابوس. كان هناك طفل بدين، خطان أحمران بدلا من العينين.. بشرة ناصعة.. أنياب، كان يجري في الصالة.. مرتديا أجنحة الملاك.
---------------------------------
* كاتب روائي من العراق.

---------------------------

كيف أصبحتُ أغاني
كيف أصبحت شعاراتٍ على كلّ المباني
كيفَ أصبحتُ عناوين جرائِدْ
كيف أصبحتُ احتفالاتٍ على كلّ الموائدْ
كيف صاروا سُفناً خائنةً
وأنا صرتُ مواني
كيف أصبحتُ أغاني
بالأغاني حَرّروني
بالأغاني اعتقلوني
بالأغاني

راشد حسين

 

 

علي بدر*