دورات تطوير الذات ما لن يقوله لك «المدربون المعتمدون»

دورات تطوير الذات ما لن يقوله لك «المدربون المعتمدون»

التنمية لا تشترى؛ إنها تركّب تركيبًا (دراسات مقارنة/ابتداع/استخلاص/تصميم)، وأحد أهم عوامل التنمية هو العامل البشري، والذي يتطلب حدًا أدنى من المهارة والقيمة معًا. لذلك، تجد أن المجتمعات الفتية تقوم فيها سوقٌ حقيقيةٌ ورائجةٌ «لمنتجات» التنمية البشرية (دورات تطوير الذات، محاضرات صنع القادة، إلخ). صار هذا القطاع - من فرط نشاطه - يكاد يتحول  إلى قطاعٌ اقتصادي معتبر من حيث الحجم، مثله مثل قطاعات الإنشاءات أو التأمين أو الفندقة.

 

في الحالة الكويتية تحديدًا، يمثل «قطاع» التنمية البشرية وجهًا من أوجه الطفرة المالية المتمثلة في الاقتصاد الطفيلي وغير التشغيلي الناتج عن ارتفاع أسعار البترول، وما ترتب عليها من وفرة مالية غير مسبوقة. 
أكثر المتصدّين لمجال دورات التنمية البشرية في الكويت ليسوا روادًا لعلم الإدارة والتنمية البشرية، ولا حتى باحثين فيه، بل هم مجرد ناقلين ومترجمين نشطين، ويحسب لهم ذلك. ولكن حتى هم لم يدّعوا لتلك الدورات دورًا أكبر من حجمها، ولذلك فهم صادقون مع أنفسهم فيطرحونها على شكل منتجات تجارية، تمامًا كما يطرح القطاع المصرفي منتجاتٍ تمويلية، لا أكثر. من هنا، يتم الانخراط بهذه الدورات مقابل رسمٍ هو عبارة عن أرباح للشركات التجارية القائمة بهذا النشاط، وهي ممارسة لا بأس فيها على أية حال. 
ولكن ما يهم هنا هو كثير من هذه الدورات التي يعرضونها كبضاعة هي في مجملها عرض لأطروحات تجد مصدرها في الفكر الإداري الأمريكي، وهي - في أحسن الأحوال - لا تعدو أن تكون سبلًا للإدارة الرشيدة، سواء على المستوى الذاتي أو المؤسسي (من المثير للاهتمام أن هذه الصرعات الإدارية صار لها ما يقابلها في الفكر القانوني، في فكرة «الحوكمة» أو «الإدارة الرشيدة» للشركات أو ما يعرف بـGovernance، ولكن، على الأقل، هي أعمق بكثير على الجبهة القانونية).
الأب الروحي لكثير من المادة العلمية المتضمنة في دورات فن الإدارة، مثلًا، هو النمساوي/ الأمريكي بيتر دركر Peter Drucker (أنصح بقراءة كتبه مباشرة، لأن أغلب ما لدينا من كتب في مجال تطوير الذات - الكتب ذات العناوين الطريفة والأغلفة الملونة والأوراق المصقولة التي تملأ مكتبة جرير - هي في أغلبها عبارة عن اشتقاقات مباشرة أو غير مباشرة لأفكاره، سواء كان كتــّابها أمريكيون أو كويتيون). 
أما بقية الدورات، لا سيما تلك المعنية بموضوعات الذكاء الاجتماعي social intelligence، فهي تستقي مادتها من كتابات ديل كارنيجي Dale Carnegie، الكاتب الأمريكي الذي عاش في النصف الأول من القرن الماضي، والذي وضع كتبًا كثيرة، مثل «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر بالناس» (How to Win Friends and Influence People) و«دع القلق وابدأ الحياة» (Stop Worrying and Start Living) وعداها. 
أعد قراءة ما تقدم؛ هذا الكلام لن يقوله لك «المدربون المعتَمَدون».

الدورات المغلفة
ولكن ما يقلقني أكثر هو دورات القيادة ذات الصبغة «الشعبية» والمقاس الواحد الذي يفترض به أن يلائم الجميع (الدورات المغلفة بأغلفة العناوين الرنانة التي تخاطب الطموح المشروع لكل شاب: «صنع القادة»، «كن قائدًا»، «القائد الصغير»... إلخ)، والتي بذرت في ضمير الجميع - دون استثناء - أنهم قياديون بالسليقة. 
من منطلق تجاري خالص، قامت هذه الصناعة - صناعة «القادة» - ببيع الوهم إلى الناس، مقنعة إياهم بأنه من الممكن جدًا تحويل الشخص البسيط إلى «قائد» خلال 5 أيام فقط بلمسة من عصا الساحر الكبير مدرب الدورة، تمامًا كما قامت عرّابة سندريلا بتحويلها إلى أميرة باستخدام الخرق القديمة لملابسها واليقطين لعربتها. يندر أن تجد كويتيًا لم يدخل دورة من هذا القبيل، تحت عدة مسميات. هكذا، أخشى أن كثير من مواطنينا الآن هم قادة «سندريلاويون» بامتياز، علمًا بأن سندريلا كانت محض أسطورة، أما ملابسها الفاخرة وعربتها الموشاة بالذهب فقد كانت محض وهمٍ تلاشى مع دقة الساعة الثانية عشر، أي مع انتهاء الليل (الغموض) وبداية تباشير الصباح (الوضوح).
وبعيدًا عن الأسطورة السعيدة وعودة إلى الواقع الحزين، أنا أعزو نجاح تلك الدورات إلى التقصير الواضح لمجتمعنا في الاطلاع الجاد، الذي كان من شأن قدر يسير منه أن يكشف ضحالة الكثير من أوجه تلك الصناعة الرائجة وفقرها.
بذلك، لا أعتقد أننا ينبغي أن نعول كثيرًا على دورات التطوير الشخصي والمساعدة الذاتية. لننتبه إلى أن هذه الصرعة الإدارية/ التطويرية ما ظهرت إلا كاستثمار ذكي - ومشروع - في القلق المجتمعي المتزايد حول ضعف الأطر القيمية (شجاعة، قرار، شفافية، احترام، صدق، إخلاص). وبذلك فهي لا تقصد إلا لملء فراغ قيمي ومعرفي صار يظهر في السنوات الأخيرة على المستويات الإدارية والتجارية، وهو فراغ يكشف عن نفسه على صور قصورٍ متعددة الأوجه (ضعف القيم/ صعوبات الاتصال/ عرقلة عمل الفريق/ الاحتكاكات العصبية بين العاملين/ ضعف الانضباط/ تناقص الوازع الضميري). 
فعلًا، لقد انخفض مؤشر القيم فارتفع مؤشر سوق دورات تطوير الذات. وهذا الفراغ القيمي - في عمقه - إنما يعود إلى ضعفٍ في التكوين الأساسي للشخصية، أعزوه إلى إغفال الجانب الإنساني ابتداء، والذي كان ينبغي أن تملؤه الدراسات الإنسانية humanities بشكل ممنهج منذ مرحلة مبكرة من حياة الفرد (أدب/ فن/ فلسفة/ تاريخ/ موسيقى/ علم اجتماع)، بحيث لا يصل الواحد منا إلى سن الرشد إلا وبنائه الشخصي قائم على أرضية صلبة ومستقرة من التوازن العقلي والنفسي معًا. إن فراغًا مثل هذا هو تمامًا ما يخلق الثغرة القيمية التي تسارع لملئها - بسطحية خطرة - الصرعات التدريبية التي ينساق لها الجموع دور تفكير، لعل منها صرعة الكتب الخاصة بالذكاء الاجتماعي social intelligence (وكأن الناس قبل ظهورها كانوا يعانون من حالة من التوحد الاجتماعي).

المجتمعات القلقة
لكل ما تقدم، تجد أن سوق هذه الدورات - على ضحالتها الواضحة (على الأقل بالشكل الذي تقدم فيه في بلادنا) - لا تروج وإلا في المجتمعات القلقة وغير المستقرة قيميًا. ليس صدفةً أنها تزدهر في كل من الولايات المتحدة والدول العربية مثلًا، التي لم يعرف عنها أبدًا إعلاء قيم الثقافة (رغم البعد الديني الواضح في الأمتين)، بينما لا تجدها بهذه الكثرة والتركيز في الدول الأوربية، فأوربا متصالحة مع نفسها ثقافيًا، كما يظهر من مخزون شعوبها القيمي من الإنسانيات (أدب/فن/فلسفة/تاريخ/موسيقى/علم اجتماع)، والذي تشهد به جامعاتها ومكتباتها وأدبياتها وأعلامها، وآثارها المعرفية المتراكمة على مدى آلاف السنوات، ابتداء من نتاج الحضارتين الإغريقية والرومانية، مرورًا بعصر النهضة، عروجًا على المؤثرات المركانتالية والتنويرية والكولونيالية، وانتهاء بالزمن الحديث.

حزمة قرارات
الحل؟ الثقافة، من منابعها المباشرة والطازجة (فكر، أدب، فلسفة، رواية، مسرح، موسيقي، علوم إنسانية، اجتماعيات)، والتي لم تمر بأي معالجات كيميائية أو صناعية (دورات). هذه هي الجبهة المكشوفة - وفق المنطق العسكري - والتي لا أعرف كيف لم يتم الالتفات إليها حتى الآن في حرب الكويت و(العرب) المستمرة ضد الضحالة الفكرية.
في السنوات العشر الأخيرة ثار الحديث باستمرار عن الحاجة لحزمة قرارات اقتصادية أو حزمة تشريعات قانونية للمرحلة. استفادةً من هذه الموجة الواعدة، يروج قطاع التنمية البشرية - بطموحاته المادية المشروعة ولكن الفجّة - لفكرة أن تعديل المسار يتطلب خلق «القادة»، ومن ثم يسوّق، بذكاء لدورات القيادة وبرامجها. 
ولكنني أظن أن الأولوية هي لأمرٍ آخر، تم إغفاله وتغييبه تمامًا لأنه لا يعود بالمصلحة المادية لهذا القطاع. ما نحتاجه هو حزمة أخلاقية للمرحلة. نحن نختزل الأخلاق في الفضيلة والعفة فقط، ولكن الأخلاق اللازمة لنهضة الشعوب هي أخلاق من نوع آخر، هي أخلاق الانضباط (discipline) أو «القيم البروسية» إن شئت (التعبير يعود إلى بروسيـا، تلك الدولة التي نهضت وبرزت كقوة عظمى لتختفي من الخارطة بعد ذلك كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الأولى ليتبقى من اسمها دلالاته الثقافية فقط. لقد خرجت بروسيا من الجغرافيا ولكنها دخلت التاريخ من بابه الكبير). ما أتحدث عنه هو منظومة الصبر والعزيمة والهمة والولاء والإخلاص والشهامة والأمانة والتنظيم والتدبير والتواضع والخضوع للسلطة والتضحية بالنفس في سبيل الغاية والعمل واحترام القانون. الجميل في هذه الحزمة من الأخلاق أنها بعيدة عن التجاذبات الأيديولوجية (الليبرالية، الإسلامية، إلخ). كما أننا قد نختلف على مفاهيم متباينة كالحشمة والفضيلة والكرم وغيرها من مفاهيم تختلف باختلاف الثقافة والمجتمع، ولكن من سيناقش قيمًا عالميةً كالصدق والصبر والأمانة؟ 
في كتابه «السنن النفسية لتطور الأمم»، كتب المؤرخ الفرنسي الشهير جوستاف لوبون Gustave Le Bon: «أن الرومان في زمن إنحطاطهم كانوا أشد ذكاءً من أجدادهم الأشداء، ولكنهم فقدوا الخواص الأخلاقية كالصبر والعزيمة والثبات والإستعداد للتضحية بالنفس في سبيل الغاية واحترام القانون. تلك الخواص الأخلاقية كانت هي سر عظمة آبائهم الأولين».

إملاءات خارجية
إن المسألة أكبر من القوانين أو القرارات أو اللوائح أو الضوابط أو أخلاقيات المهن أو الحوكمة، هذه جميعها إملاءات خارجية على النفس البشرية. ما أنادي به هو إحياء ما فقدناه، نحن فقدنا شيئًا داخليًا لا بد من زرعه مرة أخرى. إنها الأخلاق العالمية.
هذا ليس تعبيرًا إنشائيًا ولا تنظيرًا مثاليًا؛ إنه البراغماتية عينها: نبحث دائمًا عن «القادة»، ولكننا ننسى أن القادة لا ينزلون من السماء وإنما يخرجون من رحم الجماعة. لن يتصف القادة بالعظمة ما لم تكن شعوبهم عظيمة قبلهم. 
بعد أكثر من عشر سنواتٍ تقريبًا من الدورات والمحاضرات وورش العمل التي يدور موضوعها حول «كيف تصبح قائدًا» التي مرّ بها - بشكل أو بآخر - جيل الشباب قاطبةً، والتي قبض من ورائها «المدربون المعتمدون» ملايين الدنانير من دون أن نقبض منها كشعبٍ سوى أوهام العظمة المقلقة وما استتبعها من اتصاف الكثير منا بصفات التسلّط، الثقة، الافتاء، الغرور، الجدل، وعدم الخضوع للقانون، أنا الآن أطالب «مدربينا المعتمدين» - الذين لا أعرف من اعتمد الكثير منهم، أو من اعتمد الجهات التي اعتمدتهم، حقيقةً - أطالبهم بأن يكفّروا عن دوراتهم هذه، وأن يخرجوا زكاة ما قبضوه من مبالغ خيالية، بأن يقدموا لنا دورات مجانية في فنون «التواضع المجتمعي» كالانضباط، قيم العمل، روح الفريق واحترام القانون.
القيادة هندسة، والهندسة تعني المهندس المحاط بالعمال؛ لا العامل المحاط بالمهندسين. لنعمل على ضخ قيم الانضباط والعمل في أنفسنا، وبعدها لن نحتاج إلى أن نكون «شعبًا بروح قادة»، بل سيكفينا أن يخرج منا «قادةٌ بروح شعب».
حتى ثقافتنا الشعبية العميقة تعرف هذا المبدأ الأساسي في التنظيم المجتمعي: يقول المثل الكويتي القديم «نوخذاوين طبّعوا مركب»، فما بالك لو كان الشعب بأكمله من النواخذة؟ ■