الوقف العلمي أهميته ووظيفته

الوقف العلمي  أهميته ووظيفته

العمل الصالح مفهوم مركزي في الثقافة الإسلامية، وهو رديف الإيمان في آيات القرآن، وله امتداد علائقي واسع وفسيح، في علاقة الإنسان أولاً بربه ثم في علاقته مع نفسه وفي علاقته مع بني جنسه ثم في علاقته مع المحيط الحي والجامد، وبهذا العمل يمتد عمر الإنسان سنوات بل قرونًا ودهورًا، فالإنسان يموت جسدًا ولا يموت عملاً، وهذه ميزة الإنسان في الإسلام أن يموت بعد عيش كادح لتخلد أعماله حسنات عند الله ومصالح في خدمة خلقه.

 

على هذه الغاية ارتكز مبدأ الوقف في التشريع الإسلامي، فهو موضوع لاستدامة المنافع للموقف له ولاستدامة الأجر للموقف، لكي تتداول المنافع وتتحقق المراتب وتتعمق الوشائج.
أنواع الوقف كثيرة ومتعددة بحسب الغرض منه وبحسب مادته، فقد يؤول إلى الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة فتتعدد أغراضه، وقد يكون موضوعه أرضًا أو بيتًا أو نهرًا أو زرعًا أو أي شيء يصلح للوقف فيتعدد بتعدد مواده.
وسوف نلقي الضوء هنا على نوع يتعلق بالوقف العلمي وما يدور في فلكه، فالعلم هو أعز ما يطلب على نحو عبارة المهدي ابن تومرت، ويذكر المحدثون وشراح الحديث أن فقه البخاري في تراجمه، وقد عنون إحدى أبواب صحيحه «باب العلم قبل القول والعمل»، فأي عمل ذي بال لا يتأسس على علم متبصر يفضي إلى إساءة التصرف، فالعلم إذن فريضة عبادية قبل أن تكون حاجة إنسانية، ولهذا جاء الخطاب في القرآن بنداء اقرأ، دلالة على أهمية فعل القراءة في الكتاب المسطور والكتاب المنظور.

الوقف من منظور تاريخي عام
شهد الوقف العلمي في تاريخنا ازدهارًا كبقية الأنواع الأخرى من الوقف، نظرًا لصلة العلم بالعمل كما أسلفنا، ولشمول التنمية المجتمعية لكل ما يسهم في ترقية وضع الإنسان حتى يكون قادرًا على أداء رسالته في الإيجاد، وقد أولى الناس خاصتهم وعامتهم هذا الوقف العلمي أهمية بالغة، بحيث صارت للعلم مدارس ومؤسسات ومكتبات ودُور تقوم على رعاية العلم وأهله.
وفي هذا الصدد، ترِد المساعي الحميدة التي دشنها الوزير السلجوقي نظام الملك، حيث أسس المدرسة النظامية التي تحمل اسمه في بغداد تحت رئاسة الإمام الغزالي، وأسس لها فروعًا في الموصل وشيراز وأصفهان ونيسابور والرّي، وكانت هذه المدارس تشيع العلم والمعرفة في ربوع العالم في وقت تسوده القلاقل والحروب، حيث تضعضعت الجماعة السُّنية بفعل الزحف الباطني الذي انبرى له الغزالي في دعوته وكتبه، لاسيما في مصنفه «فضائح الباطنية» المسمى بالمستظهري، نسبة إلى الخليفة المستظهر بالله الذي كتب له الكتاب، فهذه المدرسة لم تتوقف عند نشر العلم فقط بل وتعدى دورها تحصين الجماعة والعمل على استتباب الأمن الروحي والسياسي.
وإلى جانب المدارس والجامعات انتشرت بيوت العلم الأخرى كالمكتبات في العالم الإسلامي، وقد ساهم الوقف في ازدهارها من خلال تعميم تجربتها من آسيا إلى إفريقيا، فكانت مكتبة بيت الحكمة التي أنشأها الخليفة هارون الرشيد في مقدمة هذه المكتبات العامرة في القرن الثالث الهجري، ولها أخوات في مناطق أخرى كمكتبة الحَكَم بالأندلس ومكتبة بني عمار في طرابلس الشام، ومكتبة الحكمة في القاهرة زمن الحاكم بأمر الله.
وجدير بالذكر أن هذه الأوقاف العلمية لها دور حضاري بارز يوم كانت الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى موطن العلم والعلماء، حيث تفد الوفود والبعثات إلى حواضر العالم الإسلامي، في بغداد وأصفهان وشيراز والقاهرة ودمشق وقرطبة وفاس والقيروان، وفيها كانت الجامعات والمدارس الإسلامية في أوج عطائها، إذ ضمت العلوم المختلفة أو ما يسمى الآن بالعلوم الاجتماعية والإنسانية وكذا العلوم الحقة إلى جانب العلوم الشرعية وعلوم العربية.
وظلت هذه الفكرة مفخرة العرب والمسلمين قبل أن ينبلج عصر التنوير الأوربي، لأن الوقف على العلم كان وراء ازدهار المدارس وانتشار المعرفة ورواج الكتب والمخطوطات، بما جعل اللغة العربية لغة العصر ولغة العلوم والفنون، فتفد أفواج الباحثين والطلبة لتعلمها ثم أخذ المعارف التي كتبت بها، لأن العلم في بلاد المسلمين كانت بضاعة نافقة تتنافس طبقات المجتمع للإنفاق عليها، من السلاطين والوزراء والولاة والفلاحين وأصحاب المهن والرجال والنساء.
وعلى ذلك النساء وربطًا للماضي بالحاضر، يذكر في تأسيس وبناء أول جامعة عربية في العصر الحالي أن ممن ساهموا في إنشاء ورعاية الجامعة المصرية سنة 1908 امرأة مصرية وهي الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل، وقد أوقفت وتبرعت بالأراضي الزراعية والذهب والمال لفائدة بناء أول نواة جامعية في الوطن العربي، وهنا يبرز الدور النسائي في تنمية الوقف وتشجيع العلم ومؤسساته ورجالاته، مما يظهر أن الوقف والعلم قد أحدثا شيئًا من التطور في الذهنيات وفي تأهيل المرأة للريادة، وفي إخراج هذه الأمة من سباتها ودفعها إلى مقارعة الأمم الأخرى، وطرح فِرية القول بأن الإسلام قد عطّل المرأة كفاعل في المجتمع وحرمها من التنوير والعلم.

نظرة على أوقاف علمية بالمغرب
وما يزال الوقف العلمي مستمرا في البوادي المغربية إلى الآن، حيث ما تزال المدارس العتيقة (مدارس شبه نظامية ممحَّضة للعلوم الشرعية والعربية) تسير بأوقاف المغاربة، وما تزال المحاصيل الزراعية (الشعير ومختلف الحبوب) والأشجار المثمرة (الزيتون والأركان) تقوم على رعاية شؤون المساجد وبيوت العلم والطلبة المنقطعين للدراسة فيها، وكذلك أجرة الإمام وفقيه المدرسة تستخلص من هذه الأوقاف.
 وهذا يدل على مكانة المجتمع المدني في التنمية، ويدل على استمرارية الأمة قبل الدولة في رعاية العلم والعلماء ودُور العلم، مع العلم بأن هذه البوادي التي تعتني بهذه المدارس يغلب عليها طابع الأمية والتهميش، ولكنها في مقدمة رعاة العلم لأنهم يعظمون الكتاب وما يمت إليه بصلة، حتى رسخت هذه التقاليد لقرون، ويؤرخ لمثل هذه التقاليد بزمن الفتوحات الأولى إلى المغرب منذ أيام عقبة بن نافع الفهري.
ومما يتصل بالمدارس والمساجد أيضًا، وجود أوقاف وأحباس فريدة جعلت لاستمرارية دورهما، من مثل تخصيص أوقاف لقراءة الحزب الراتب في المساجد بشكل جماعي، واحد بعد الصبح وآخر بعد المغرب أو العصر في رمضان، بحكم ضعف القراءة والكتابة التي يعوضها السمع الذي يرسخ الحفظ، كما يرسخ الذوق الجمالي للكتاب العزيز ومنطق اللغة العربية، وهذه العادة ظهرت منذ زمن الموحدين.
ومن الأوقاف التي جعلت أيضًا لعمارة المساجد ونشر العلم، تحبيس المصاحف وتوفيرها في جل المساجد، وتخصيص أوقاف لروادها والمتعلقين بها المحافظين على الصلوات الخمس وخصوصًا من الشيوخ تشجيعًا لهم وتكريمًا، لما يترجى منهم من دوام الحضور والاستماع إلى حلقات العلم والذكر.
وبما أن المساجد في العادة تتواجد بجانبها ملحقات أخرى تدخل في وظائف المسجد، من مثل المكتبة والكُتّاب، فقد وضعت لهما أحباس لخدمة العلم وأهله شيوخًا وطلابًا وكتبًا، ولفضل هذه المرافق المجاورة كان يسمى المسجد جامعًا، لأنه يجمع بين وظيفة الاجتماع للصلاة وظائف أخرى كالتدريس والإرشاد والإنشاد الديني والقراءة وغيرها.
وثمة وظيفة أخرى تحبس لها أوقاف بالمساجد، وهي ما يعرف «بالكراسي العلمية» التي تعرفها الجوامع الكبرى في المغرب، وهذه الكراسي أشبه ما تكون بالدراسات المتخصصة في الجامعات اليوم، كالماستر والشعب والوحدات العلمية، حيث نسمع عن كرسي الفقه وكرسي المنطق وكرسي القراءات وكرسي العربية.
ويجلس على هذه الكراسي أساتذة وشيوخ كبار لهم شهرة تجاوزت حدود المغرب، وقد استقطبت هذه المجالس الطلاب من كل ربوع المغرب، بل ووفد عليها طلاب من كل أنحاء العالم الإسلامي لأخذ العلم والسند والتجربة، وما تزال هذه الكراسي تتسلسل حلقاتها إلى اليوم بفضل الأوقاف، وبفضل جودة العلم المتخصص الذي يقدم فيها.
ويحفظ التاريخ لهذه الكراسي نوادر عجيبة، حيث استقدمت إليها حتى كبار الشخصيات العلمية والدينية، كالقصة التي تروى عن البابا «سلفستر الثاني» الذي تلقّى بعضًا من تعليمه في هذه الكراسي في جامع القرويين بفاس، وقد تولى هذا البابا كرسي البابوية فيما بعد، ومثل هذه القصة تروى عن بعض القساوسة والأساقفة الذين جلسوا للأخذ في هذه الكراسي أو شاركوا في مناظرات ضمنها مع المشايخ.
وليس غريبًا عن جامع القرويين كل هذا، فقد تحول إلى قبلة للعلماء والمتعلمين معا داخل وخارج أرض المغرب، وكانت العلوم التي تدرس فيه متنوعة بين ما هو شرعي أو تابع له من علوم العربية وما شاكلها، أو ما هو مختلف عنها كالهندسة والجبر والفيزياء والمنطق والطب.
وكل هذه الخدمات والأفضال أنجزت بفعل فاعلة خير، وهي السيدة فاطمة الفهرية التي بنت هذه الجامعة أو هذا الجامع، في أواسط القرن الثالث الهجري، وتعد أقدم جامعة في العالم حسب بعض التقديرات، مما يدل على قيمة الوقف الذي يمكن من تغيير مسار التاريخ، لاسيما وأن المنفذ في هذه الحالة امرأة كرست مالها للعلم والعلماء فصنعت مجدًا للتاريخ والحضارة.
ولهذه السيدة الفاضلة أخت فاضلة ساهمت بدورها في تحبيس مالها على بناء مسجد يسمى جامع الأندلسيين، إذ بنته أختها مريم الفهرية من مالها الخاص، وهو كذلك من أعرق مساجد فاس منذ زمن تأسيسه سنة 254هـ/859م، وفيه تلقى خطب الجمعة ويدرس الفقه المالكي، وأصبح يضم مكتبة ومأوى للطلبة. وقد لاقى هذا الجامع عناية خاصة منذ تأسيسه في حكم الموحدين، وطوره المرينيون والسعديون والعلويون وأدخلوا عليه إصلاحات جمة، وقد ألحق هذا المسجد في مرحلة حكم الملك محمد الخامس بجامعة القرويين، بعد أن أعاد تشييده وتجديده سنة 1356هـ.
والملاحظ هنا أن هاتين الأختين فاطمة ومريم قد اضطلعتا بدور مهم في بناء صرح العلم والمعرفة والدعوة بالمغرب الأقصى، والفضل في ذلك يرجع إلى ثورة أبيهما محمد الفهري القيرواني القادم من تونس، والتي تم تحبيسها من قبل السيدتين الكريمتين لفائدة العمران والإنسان والعرفان.

محرك فعال
وخلاصة القول إن مما ساهم به الوقف العلمي في المشرق والمغرب، في مسألة التحدي الحضاري والتواصل الحضاري معًا، هو أن الوقف العلمي عمل على استقدام العلوم الوافدة من خلال المؤسسات العلمية التي أنشأت بفضل الوقف، وعبر أعمال الترجمة والتعريب التي ظهرت مع بيت الحكمة في المشرق، وفي وقت لاحق مع ازدهار الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى شهد الوقف العلمي طفرة نوعية، من حيث تم تصدير المعرفة إلى الغرب عبر الأندلس والمغرب الكبير في جامعات القيروان والقرويين، لأن العلم ومؤسساته بلغت ذروة مكّنته من إعادة علوم اليونان إلى الحضارة الغربية في أوروبا من باب الترجمة مجددًا لكن هذه المرة من العربية، فكان الوقف بذلك محركًا فعالاً في التواصل الحضاري والتلاقح الثقافي بين الشعوب والأمم ■