مدنية الثقافة أم ثقافة المدنية؟

مدنية الثقافة  أم ثقافة المدنية؟

تطورت الثقافة العربية عبر القرون الماضية لتؤسس حضارة مدنية متنوعة على مستوى المضمون والفكرة والوعي؛ حيث امتلك أهلها وأصحابها المبدعون والمفكرون خبرات وتجارب استطاعت أن تساهم في خلق مناخ من التعبير والتفكير العلمي والأدبي والفني بوأها مكانتها اللائقة بين حضارات العالم وثقافاته. ولقد أوجدت هذه الثقافة لنفسها طرقها الخاصة في التعامل مع القضايا الإنسانية والعلمية وأشكال الوجود الإنساني، حيث تعاملت بأسلوب التروي والتفكير المعمق في التعاطي معها لكيلا تخرج عن السياق وعن الحقيقة الوجودية التي يؤمن بها الإنسان العربي عامة. 

 

إن التأمل في الثقافة العربية وتطورها عبر القرون، وتشكل روافدها العلمية والأدبية والفنية، يجعلنا نؤكد على أنها ثقافة مستمدة من ذهنيات وعقليات مبدعة استطاعت أن تبني منظومة ثقافية مدنية بالشكل الصحيح، دون السقوط في أيديولوجيات وأفكار تدميرية تقضي على التماسك الفكري والثقافي الذي عرفته الأمة العربية منذ البداية. وهذا ما يحيلنا إلى القول إن الثقافة العربية تأصلت في المدينة، مدينة العرب وحاضرتهم، وفيها أقيمت ندواتهم ومنتدياتهم وأسواقهم الأدبية والفكرية، وفيها تكوّن لديهم الوعي النقدي والعلمي الذي من خلاله تركوا لنا مدونة تراثية عظيمة على جميع المستويات وفي كل مجالات الحياة الخاصة والعامة. 
وتساعد الثقافة المدنية عمومًا الفرد العربي في مجتمعه على فهم نوعية الحياة التي يعيشها، وإدراك نوعية الأفكار والمعارف التي يستطيع التعامل معها سواء بالاستقبال أم بالتصدير. فالمدنية عمومًا هي واحدة من مجموعة من التجارب الإنسانية التي تؤسس لمجتمع متماسك وفق منظومة فكرية وعلمية وثقافية واضحة، تحقق لأفراده جميعهم الوعي الأسمى بالعالم وبالأشياء؛ وفي هذا الإطار، نستدعي تراثنا العربي العظيم، من خلال الإفادة منه في تشكيل منظومتنا المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تضبط حياتنا وتحركاتنا ومواقفنا وتشكّل ثقافتنا المتنوعة والمتجددة في شكلها الحضاري المتعدد. 

مدنية الثقافة... رؤية فكرية
فمسألة المدنية عمومًا ليست مجرد أنساق ثقافية وعلمية تنظمها عقولنا المفكرة والمبدعة، وليست مفاتيح تمنحنا الحق في التعبير وممارسة الحياة وفق أهوائنا، بل هي منظومة ثقافية وقيمية أخلاقية وفكرية وعلمية تطورها العقول المفكرة بيننا لتأسيس نهج حياتي نعيش عليه وبه من أجل الحفاظ على وجودنا الحتمي في هذا العالم المتعدد الأقطاب والمواقف والأفكار. وفي هذا الصدد، تبرز الثقافة المدنية كخليط من القيم والتوجهات والمواقف والقناعات الفكرية والسياسية التي تتعايش مع بعضها البعض في مجتمع مدني متحضر ينتج التسامح والاستقرار والازدهار؛ حيث إن هذه القيم، حسب لوسيان باي الذي يقول «إن التسامح والتعايش وثقة المواطن بسياسات ومؤسسات حكومته هي من أهم مكونات الثقافة المدنية والحكم الديمقراطي الرشيد».
تمثل الثقافة المدنية وحضورها الأساس في التركيبة المجتمعية وتنوعها الثقافي والعرقي والجنسي، ذلك الفضاء الآمن الذي يمنع المشاكل الاجتماعية والمنغصات الفكرية والقيمية، مثل: الفكر المتطرف والفكر التكفيري والتخويني والإقصائي والطائفي المزعزع لاستقرار المجتمع ، بل إن الأمر يتعدى، حسب عبدالحميد إسماعيل الأنصاري، في مقاله المنشور بمجلة عمون تحت عنوان «الثقافة المدنية في عالم متأزم»، إلى كونها تمثل بشكل أو بآخر «خير عاصم للأوطان من الزوال أو الانهيار في أوقات الكوارث والحروب والتفكك، فغياب هذه الثقافة هو ما يفسر تفكك مجتمعات الاتحاد السوفييتي القائمة على النظام الشمولي، ونجاح مجتمعات مثل بولندا وتشيكوسلوفيا والبرتغال واليونان وأسبانيا في التماسك والعبور إلى بر الأمان والديمقراطية، بسبب وجود بنيتها التحتية ،ممثلة في قيم ومؤسسات المجتمع المدني، كونها تشكل الشرايين الرئيسية التي يجري فيها السائل الحيوي للديمقراطية. ومجتمع بلا ثقافة مدنية مجتمع ميت، معرض للانعزال والانكماش، ومصيره للزوال. ومن ناحية أخرى فإن الثقافة المدنية هي الحصن المنيع للمجتمع تجاه تسلط واستبداد النظام السياسي وابتلاعه للمجتمع».
فغياب التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، معناه أن الأمر من الصعب بمكان الحديث عن المدنية، وعن ثقافة المدنية؛ حيث يستحيل النظر إلى بناء المجتمع مادامت كل الجهود والأعمال والأفكار لا تصب في صالح التنمية البشرية عمومًا. ومن هنا يغيب الإبداع والابتكار والاكتشاف العلمي التطويري؛ وكأن كل الجهود السابقة تذهب سدًى وتضيع هباء منثورًا، والأمثلة كثيرة على ذلك في بلداننا العربية التي تعاني العديد من المشاكل على مستوى التنمية البشرية رغم وفرة الموارد الطبيعية والبشرية، لكن تنقصها إرادة التغيير والإصلاح والتطوير. فالثقافة في هذا الصدد ترتبط بالمحيط الديني والثقافي والاجتماعي كما يرى محمد إسماعيلي علوي الذي يعتبر أن نمط التفكير لدى الفرد العربي وأسلوبه في الحياة وكل التقاليد والعادات والمعتقدات الدينية والسياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية هي التي تحدد طريقة حياته الخاصة وكيفية تعاطيه مع محيطه ومع أفراد مجتمعه الآخرين.  
إن مساهمة الفرد العربي في إنتاج الثقافة وتأصيلها وفق رؤية فكرية وعلمية تتحدد معالمها وأسسها ومبادئها انطلاقًا من القيم العربية الأصيلة وتنبني على الوعي الفردي والجماعي بها وبأهميتها في تكريس قاعدة التعاون والتواصل الإيجابي والتعايش السلمي بين مختلف الأعراق والأجناس والثقافات الفئوية داخل المجتمع الواحد، هي مساهمة حقيقية قادرة على تكريس السلم الاجتماعي والبناء الاقتصادي والإبداع العلمي والفكري والثقافي. من أجل كل هذا ينبغي اتخاذ الممارسات التواصلية والتربوية على اختلافها وتعددها المنهجي والفكري للارتقاء بثقافة المجتمع ومعاييرها ومميزاتها التي توجه حياة الفرد والجماعة داخله. 
لا تهدف مدنية الثقافة في المجتمع العربي عامة إلى خلق شكل جديد للثقافة العربية السائدة، بقدر ما تهدف إلى تبني معالم متجددة للوعي المجتمعي والنظرة الإيجابية إلى الأشياء والمواقف المتعارف عليها والمسموح بها وفق قيمنا الأصيلة. وفي هذه الحالة، تشكل الثقافة مجالًا شاسعًا للتعبير عن الرأي والموقف وفق الممكن والمتاح؛ حيث نجد في البنيات الاجتماعية والثقافية العربية أشكالًا متعددة من التفكير والتعبير والتواصل تكشف عن العمق الثقافي للمجموعات والفئات المكونة لهذا المجتمع.  

ثقافة المدنية
ورغم عدم وجود تعارض أو تنافر بين الثقافة والمدنية في إطار المعنى الذي تؤكده كل منهما في المجتمع، وفي تفاعل الواحدة مع الأخرى في التعاطي مع الأفكار والمواقف والحياة بكل مستوياتها وأشكال التفاعل الإنساني فيها، فإن الغاية الأسمى هي أن تكون كل الأفكار والإبداعات والإنتاجات الثقافية والفنية والفكرية والعلمي تصب في خدمة هذا التفاعل بين الثقافة والمدنية. وكل ما يخرج على هذا الإطار، قد يكون سببًا في تدهور الحضارة بصفة عامة، حضارة مجتمع وأمة في آنٍ واحد. فكل أشكال التواصل الإنساني الذي يعيشه الإنسان اليوم، هي أشكال ثقافية ومدنية بامتياز، لأنها تعيد إنتاج الوعي الفردي والجماعي لدى أفراد كل مجتمع؛ وهذا عن دلّ على شيء إنما يدل على أن الوعي الإيجابي سبيل لبناء المجتمع وتربية أفراده على التفكير الجيد والإيجابي والتعبير النفعي والتطويري لمستوى الفكر والمعرفة. 
فثقافة المدنية تتأطر من خلال الحفاظ على الحد الأدنى من السلوك الإيجابي داخل المجتمع، ومحاولة تحسينه يوميًا، سواء كان هذا السلوك فرديًا أم جماعيًا، من أجل خلق مدنية تؤسس لمجتمع واعٍ بحقوقه وواجباته في الوقت نفسه دونما حاجة إلى واسطة لمعرفة ذلك أو فرضها عليه بشكل من الأشكال. ويمكننا هنا أن نتحدث في شكل نسبي عن وجود ثقافة مدنية في حدها الأدنى، نظرًا لتواجد العديد من المدن المحترمة على الصعيد العربي، حيث احترام القانون والواجبات وتكريس الوعي بالوطنية والمواطنة الحقة في أشكالها العامة؛ لكن، في بعض الأحيان نشعر وكأن الأمور بدأت تفقد السيطرة، حيث يبرز في الأفق بين لحظة وأخرى سلوك أو أكثر ينافي كل ما قلناه سابقًا. 
وترتبط الثقافة المدنية الجديدة التي ينبغي التفكير فيها وتحديد معالمها والعمل على تكريسها واقعيًا، بمدى تجاوز عراقيل الثقافة القديمة وما يرتبط بها من قيم لا تمت للواقع والحياة المعاصرة بصلة، مع إمكانية الحفاظ على الحد الأدنى من القيم والأخلاق والمعايير الممثلة لثقافتنا العريقة التي تقوم أساسًا على القيم الإنسانية المشتركة مع باقي الشعوب في العالم. فتجاوز الثقافة باعتبارها تفكيرًا فرديًا وجماعيًا في  وقت واحد، يخرجها من كونها ترفًا أو شيئًا عاديًا في المجتمع المديني الذي يستدعي توافر العلاقات الإنسانية والاجتماعية لتصريفها إيجابيًا. 

صيغ جديدة
وفي هذا الصدد، يجب التفكير في صيغ جديدة لبناء ثقافة عربية مدنية مختلفة عما كان سائدًا بشكل شامل، لكنها تحافظ على كل ما هو إيجابي ومبدع على كافة المستويات. إننا بحاجة إلى وعي جديد ومتجدد يرفض الانصياع إلى ثقافة التشدد والتطرف الفكري والعلمي ويدفع بالمنظومة الثقافية العربية إلى الانغلاق على نفسها والإبقاء على أشكال ثقافية قديمة لا تبرح مكانها إبداعيًا وعلميًا. وفي هذا الصدد يقول الكاتب سامر خير أحمد في مقاله «الثقافة المدنية المقدسة»: «لكن، وما دامت الثقافة المدنيّة لم تمثل بعد مجالاً لتحقيق المصالح الفردية، فتتكرّس في حياتنا بالضرورة، فإن ثمّة من يلجأون إلى مداخل أخرى، سوى «المصلحة»، لتكريس تلك الثقافة، وأبرز تلك المداخل هي الإيمان الديني، فيقولون إن تلك الثقافة هي ما يريده الإسلام، بدليل أن المسلمين سمّوا دولتهم الأولى باسم «المدينة». وهكذا، فبدل أن يقبل الناس الثقافة المدنيّة، لأن فيها مصلحتهم الحقيقية، يريد أصحاب تلك الفكرة من الناس أن يقبلوها لأنها «ثقافة مقدسة»!
تستهدف الثقافة المدنية القدرة على الإنجاز، إنجاز الأفكار وإنتاجها بشكل أو بآخر، من خلالها يمكننا أن نصل إلى واقع اجتماعي تفاعلي يرتبط بعلاقات إنسانية مفيدة للمجتمع، منتجة للاختلاف الفكري الإيجابي الذي ينبني على أسس معرفية وثقافية مستمدة من تراث المجتمع وثقافته الأصيلة والمستقبلية تربط بين مختلف مكونات المجتمع. كل هذا وفق وظيفة تفاعلية وتواصلية تؤدي دور التوعية والتربية على القيم المدنية والحضارية التي يؤمن بها الجميع، فالأثر الذي يحدث أثناء تلقي ثقافة ما، خاصة إذا كانت هذه الثقافة مرتبطة بكل ما هو مدني حضاري، هو أثر يأتي وفق الظروف التاريخية والسياقات الفكرية التي يحملها المشروع الثقافي المجتمعي ■