إسبانيا تطواف عصري على إيقاع «التاريخ»

إسبانيا تطواف عصري على إيقاع «التاريخ»

التاريخ مر من هنا... بل تواريخ عديدة مرت، واستقرت في أجندة الدهر فلا تفارق صفحاته، كما يبدو، إلى أبد الأبد. وسنابك الخيل عبرت من هناك... إلى هنا. بل كم من فرسان كانوا على ظهور الجياد، عادوا إلى هناك، فقوارب العودة لم تحرقها نار ابن زياد جميعها، وتأتي صيحته جمرًا يتصاعد من تحت رماد التاريخ: «البحر من ورائكم والعدو من أمامكم»... فلا أرى إلا البحر، وتغيم صورة جيش الفتح العربي يتبع قائده طارق، يخطب فيهم، والنار تأكل خشب سفنه.. كما هو الجمر، تغطيه جبال من رماد لم تذروه القرون، ولا قدرت عليه العواصف.

 

فعلها ابن زياد أو لم يفعلها، قال ذلك أو لم يقله، فالتاريخ بقي شاهدًا دون «عيان»... مضى من ورائنا ومن أمامنا، ومن كل الجهات... يصوب سهامه. 
أقف، كحفيد لغزاة قدامى... أو حاملي مشاعل حضارة... سادت مئات السنين، ثم بادت كشأن الحضارات دومًا؟!
وأصيح، كسائح ليست بضاعته سوى الكلمة: يا أندلس... يا منارتنا العتيقة، «فيرجع الصدى كأنه النشيج» على ما أخذته، وأحدثته «حروب الاسترداد» كما سميت، لكن حق لمن فقد مجدًا، يشبه الحلم، عاش فيه 800 عام... أن يبكي مجده الضائع.
أسير إلى الزمن الأندلسي، كحلم قديم، وكأنه سبق مولدي بمئات السنين، أنا ذلك الطفل العربي الذي عاش على مقولة «الأندلس المفقود»، وعرف أن أندلسًا هناك «ضاع»، كأنما تعلم لاحقًا من دروس الخيبات العربية بأن أخرى في طريقها للفقدان والضياع.
أتبع التاريخ أكثر، وأسائله عن تلك البلاد التي لاحقنا طيفها منذ مقاعد الدراسة، وفي القصائد المنتحبة، وفي المسلسلات الراعفة ببكائيات على ذلك المفقود، قصص كالخيال، والدراما تصنع وقائعها من حكايات القصور وصيحات القادة... ومن دماء الجنود، ما تناثر من كل ذلك، وما تبقى، بعد أن جفت الصحف، ورفعت الأقلام. 
وأراها لا تكثرث إلا بيومياتها الراهنة، لا تأبه المدن كثيرًا بتوصيف من عبروها، جاءها العرب كما جاءها آخرون، وكتب المؤرخون ما شاء لهم تأريخه بين أحداث جسام مرت على صفحات كتابها كجزء من حركة الدهر على هذه الأرض، فالحياة بين قاتل ومقتول، وبين منتصر ومهزوم... منذ بدء الخليقة الأولى، وحيث لا يبقى بعد كل ذلك التدافع البشري إلا... وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
هذا الـ«هنا» ارتقى، وبقي الـ«هناك» شغوفًا باجتياز أمواج البحر، حتى وإن حملته القوارب من موت محتمل... إلى موت مؤكد.
 
مالقا.. ضوء الليل
أعبر أول فواصل التاريخ الأندلسي، من حيث الجنوب، هذه هي الحسناء الفينيقية مالاغا، أو ملقا، أو مالقا، أو مالقة، كل التفاصيل الصغيرة في نطق اسمها ممكنة، حتى ما فعله قبطان الطائرة وهو يهبط إلى أرضها، وقد منينا النفس بانتهاء الرحلة الطويلة، فإذا به يغادر المدرج ويرتفع مرة أخرى ليأخذنا في جولة «جوية» على ساحل «كوستا ديل سول»... أو «الشاطئ المشمس»، فاردًا جناحي الكائن المعدني يحملنا قريبًا من جبل متاخم للبحر الأبيض المتوسط، حتى حسبت أن جناح الطائرة الأيسر سيوقظ حتمًا شجرة خضراء من دعتها فيجفل سكون تأملها لتلك الزرقة الساكنة تحت لحاف الخريف.
إذًا هذه مالقة، وقد اشتهرت بهذا الاسم خلال فترة الحكم الإسلامي لإسبانيا، كما تأخذني موسوعة «ويكيبيديا»، لكن مؤسسيها الفينيق أسموها «مالاكا» أو «ملكة»، ويقال إنه مشتق من كلمة ملح باللغة الفينيقية، وكما وصفوها بأنها «ضوء الليل» حيث ينعكس القمر على مياه «البحر المتوسط» الذي عرفته حركتهم التجارية وبنوا قلعتها الشهيرة منذ تأسيسهم لها قبل نحو 2770 عامًا، تشتهر بمينائها، وبالجبال التي تحيط بها، ويسير فيها نهران، وفي اسميها دلالة تكاد تقولها الحروف، غوادالمدينا، وغواداهورس، لكن الفنانين التشكيليين يعرفونها برمزها الذي يسير بشهرتها أينما ذهب اسمه، بابلو بيكاسو، وفي زوايا كثيرة تحتفي به المدينة، إذ عرض فيما يشبه البيت التاريخي نحو 200 عمل فني لهذا العبقري الذي يشار إليه كواحد من أهم الرسامين الذين تركوا بصمة مختلفة في تاريخ الفنون المعاصرة.
وكلما أردت أن أعيش زمني، بالتجوال في ملقا القرن الحادي والعشرين يعيدني التاريخ قرونًا إلى الوراء، إلى زمنها العربي العتيد، حيث القرن الثامن الميلادي، فتشير المصادر التاريخية إلى أن الفتح الإسلامي تم على مرتين، الأول على يد طارق بن زياد، لكن أهل المدينة استعادوها، وجرى الفتح الحقيقي لاحقًا، لتدخل مالقا في زمن مختلف، بلغت فيه مجدها في عصر الموحدين، وارتقت أكثر في فترة حكم النصريين، ووصولًا إلى صراعات «فترة حكم أمراء الطوائف»، وقبل أن يكتمل القرن التاسع الهجري كان الزمن العربي يطوي أشرعته تحت زحف القشتاليين المستفيدين من تفرق حكامها العرب والمسلمين، طوائف تقاتل بعضها البعض، وتنتصر بمن يريد انطفاء نجمهم إلى الأبد.
ومع تداخل الأزمنة، وزحف سنابك التاريخ، بين نصر وهزيمة، وبين معركة ومعركة، تستريح مالقا إلى زمنها الإسباني المعاصر، فالمدينة تعيش على وقع حركة السفن التجارية العابرة لمينائها الذي يعد ثاني أكبر موانئ إسبانيا، وتدافع السياح إليها طلبًا لرؤية معالمها، وزيارة متحف فنانها الأشهر بابلو بيكاسو.
إلا أنني لم آتِ إلى «عاصمة الشاطئ المشمس» من بلاد تمتد شواطئها المشمسة آلاف الكيلومترات، إلا بحثًا عن آثار الزمن الإسلامي/ العربي هنا، وكان لا بد من البحث في خرائط جوجل عن ذلك التاريخ الأندلسي، وما أجمله أن يبدأ بزيارة «القصبة»، المطلة على البحر، حضارة يقولها جمال المعمار وهيبته، الأقواس التي نعبرها، والالتفاتات التي تعبرنا، بين جدول ماء أو شجرة برتقال، نصعد الدرج إلى هيبة القلعة السخية بالجمال، وبالمهابة التي يكاد ينطقها كل حجر في زواياها، حضارات تتراص بجوار بعضها فتروي للعابرين ما رشح عبر «مرشحات» المؤرخين، وما تبقى من ذكر لهكذا إشكاليات بشرية ترتفع فيه راية منتصر على وقع سقوط راية مهزوم، وهكذا الأيام دواليك «نداولها بين الناس». 
أسمع كلمة «العرب» تتهادى على ألسنة المترجمين، كعابرين ضمن من عبروا حكامًا على هذه البلاد، جاءوا، وذهبوا كما جاء غيرهم وذهب، جميعهم مجرد فواصل صغيرة في أجندة تاريخية حافلة بالصراعات، وعبر حيطان القصبة أنظر للبحر، هل هذا هو الساحل الذي هبط عليه ابن زياد، فشكَّل لحظة مفصلية في حركة التاريخ العربي/ الإسلامي، امتدت نحو ثمانية قرون؟ وأستعيد أبيات عبدالرحمن الداخل كلما شاهدت نخلة، أكاد أشعر أنها غريبة هنا، كأنما ألبس هذا الأمير الأموي الهارب من مقصلة بني العباس كل نخيل الأندلس غربه: 
فقلتُ شبيهي في التغرب والنوى 
وطولِ الـتنائي عن بَنِي وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ 
فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي
هبوطًا من القصبة، أقف على مدرجات المسرح الروماني، والذي يعد من أهم الأماكن السياحية في المدينة، اكتشف عام 1951م، بعد أن بقي مدفونًا في باطن الأرض مئات السنين، واستعاد حيويته ليستقبل الحفلات الفنية والموسيقية، فيرتفع صوت الجيتار فوق صوت كل حسام، وتلتمع أضواء المؤثرات أكثر من التماع «اليماني» في يد فارس على صهوة جواده، فالمدينة استراحت إلى «السلام» وتستقبل «السياح» زرافات ووحدانا، لكي يروا فنونها، ويتفرجوا على شواهد أزمنة الحروب من حيث كونها... فرجة.
تشدني المدينة المعاصرة أكثر، حيويتها، المشي في حدائقها ومتنزهاتها، السير بجوار البحر، والمعالم الفنية التي تقولها سائر التفاصيل من حولنا، السفن الخشبية الواقفة على الزرقة الهادئة، هانئة بفسح الجمال حولها، لكنها تُعيدك رغمًا عنك إلى مفاصل الأمس العتيد، فتتناغم الأزمنة أمام عينيك، مكتملة بزهو الألوان على واجهات المباني.
آخذ الدرب إلى متحف السيارات والموضة، كل سيارة تستحق التأمل، الوقوف أمامها كلوحة، لا تشدني المفردة الثانية في اسم المتحف كثيرًا، لكن المعروض من «المركبات» قادر على حبس الأنفاس دهشة... سيارات قديمة، منذ بدايات القرن الماضي، فخمة فوق حدود الكلمة، منها ما عُرف به مشاهير العالم، من سياسيين وفنانين، ماركات دالة على قيمة المعروض، رولزس رايس وبنتلي ومرسيدي وبي إم دبليو... وشبيهاتها في الفخامة، وفيما يدعو بعضها لتأمل مقدار الجمال فيها، إلا أن هناك ما تشبه مركبات فضائية، الأشكال (أجساد السيارات) مثيرة، كأنها حقًا تُجسد فعل الموضة على هذه المركبات الأرضية، العشرات تتأنق كأنهن صبايا يسرن في صالة عرض أزياء... كل هذه الثروة تحت سقف واحد!! 
ولأن بيكاسو رمز من رموز مالقا فكان لابد من زيارة متحفه، هناك يعرض نحو 200 عمل فني لهذا الفنان العظيم، كل لوحة تستحق التوقف عندها بما يمكن إدراك المعنى وراء لغة هذا الفن، والثيمة التي اتبعها بيكاسو في أعماله، لعل الرائي يمسك بخيط معنى ما، يكاد يقترب من الروح، لكنه يؤثر الابتعاد كأنما ذلك التردد جزء حيوي في علاقة اللوحة بقارئها، فتستعيده المدينة رغم مرور ما يقارب من خمسين عامًا على وفاة مؤسس المدرسة التكعيبية، تاركًا عددًا كبيرًا من اللوحات ما زالت تحصد عشرات الملايين في المزادات العالمية، أتذكر ما قاله أحدهم عن «الفن التجريدي»، أحسست حقًا أنه «يجردني» من ثقافتي، وفي كل لوحة أكاد أصل إلى حلق المعنى، لكني سرعان ما أسقط في زجاجة «اللافهم»، وأبقى بين مد وجذب، إنما في ذلك متعة، الشعور بثمة عمق تراه في «المحيط»، تشعر بجماله، وإن لم تصله.
وحقيبة مالقا ملأى بالأوراق المحفزة لاستكشاف المدينة أكثر، لولا أن حركة الأيام في أجندة المسافر سريعة، فهناك ما يحفز أكثر للمغادرة إليه... فهناك غرناطة، وقصر الحمراء.
 
إلى رمانة... بنو الأحمر
لا أنظر إلى أسماء المدن في لافتات الشوارع إلا من حيث دلالاتها التاريخية، أفتش عن غرناطة وإشبيلية وقرطبة وما يمكن أن يُعيدني إلى تلك الأندلس، حينما كانت عروش «إيبريا» تتحدث اللغة العربية.
والمقصد غرناطة، عاصمة النصريين في الزمن الأندلسي العربي، خلال القرن الثالث عشر للميلاد، وهي آخر ولاية حكمها المسلمون في شبه الجزيرة الإيبرية، المدينة المتكئة على سفح جبال سييرا نيفادا (جبال الثلج)، والجالسة على عرشها بارتفاع نحو 738 مترًا، مع التقاء أربعة أنهار، دارو وشنيل وموناتشيل وبييرو.
لاسم غرناطة رنين مختلف، يكاد يصعد من الصفحات العتيقة، ينهمر عبر بوابات الزمن الممتد قرونًا تندس خلف حيطان أشعر أن لديها ما تقوله أكثر من آلاف الكتب التي أرخت تلك المرحلة الضبابية لما بتنا نعرفه اختزالًا بـ: «ضياع الأندلس».
كأني أقف في ذلك اليوم، الثالث من يناير، من عام 1492م، أرى أبو عبدالله الصغير باكيًا تحت برد الشتاء، يولي ظهره مبتعدًا عن قصر الحمراء، مجد آبائه وأجداده، مفارقًا غرناطة إلى الأبد، ومعه صوت أمه «ابك مثل النساء ملكا مضاعا، لم تحافظ عليه مثل الرجال»، لتهبط ستارة ثقيلة على خشبة مجد جال المسلمون فيها حكامًا وقادة ما يقارب ثمانمائة عام، إنه النصف الأخير من القرن الخامس عشر، وكأن تلك النهاية أطلقت شرارة البداية لعصر إسباني أقام إمبراطورية ممتدة، عززتها استكشافات كريستوفر كولومبس لعالم جديد قبل أن يطوي ذلك القرن عشريته الأخيرة، فكان اكتشاف الأمريكتين بمنزلة منجم هائل أغنى الدولة الجديدة على يدي فرديناند الثاني وإيزابيلا فوسعا ملكهما، ونشأت إمبراطورية إسبانيا العُظمى.
تشدني هذه «الرمانة»، وقد سميت باسمه حسب اللغة الإسبانية (جرانادا)، لما تشتهر به من حدائق ملأى بأشجار الرمان، أو أنها أنشأت أول مرة في بقعة مزروعة بهذه الشجرة فحملت اسمها، وقد أينع الكثير من ثمارها، لولا خشيتي كسائح من عاقبة قطافها، وأقرأ معلومة أن المدينة لا تشتهر بهذه الثمرة الحمراء فقط، بل بكونها أيضًا مدينة واحدة من أكبر الجامعات الإسبانية فيها، حيث يدرس بين جنبات جامعة غرناطة نحو 82 ألف شخص.
شعرت أن كل ما في هذه المدينة يشير إلى بقعة بلغ بها من العلو مبلغه، علو التاريخ، أو علو المكان: قصر الحمراء، فألاحق القصيدة على شرفات التاريخ، لكني لا أجد تلك السمراء التي التقاها نزار قباني على مدخل الحمراء، مع أن كل الزركشات باقية «على السفوح تنادي»، وما زال الصوت النزاري يرن في أذني: 
هنا الحمراء زهو جدودنا
فاقرأ على تاريخها أمجادي
ولذلك سرت في تلك الشوارع الضيقة صعودًا مع السيارة التي أكاد أسابقها ببصري أمده إلى تلك الهضاب المتكئة على سفوح جبل الثلج، عبر هذه المنحدرات ربما اتخذ أبو عبدالله الصغير طريقه هبوطًا من قصره المنيف، ومجده العربي السامق، وأنظر في الخارطة، أستحث الركب لتبلغ بي تلك الربى، والتي بقيت آثارًا، سجلتها اليونسكو عام 1984 لتكون ضمن نسيج مواقع التراث العالمي، إنه محض تراث يا سيدي التاريخ، تراثهم... لا تراثنا.
الحجز لدخول القصر لا بد أن يكون قبل أيام، فالتذاكر تنفد، وجموع السياح تأتي فرادى وجماعات، والمكان ماكينة ذهب تعطي لخزينة البلاد كل حين، فقصدت المكان قبل موعد دخولي بساعتين، مخافة أن يعطلني أمر يحرمني من تحقيق أمنية قديمة، أن أسير في قصر الحمراء، والذي بناه بنو الأحمر، قصبة أندلسية تطل على الحدود الجنوبية الشرقية، وفي القرن الحادي عشر أصبح مدينة محصنة، له الكلمة الطولى على ما حوله من مكان، فمع وصول محمد بن نصر، أول خلفاء بني الأحمر، إلى سدة الحكم، قام بوضع أسس حكمه في هذا القصر المنيع، ومعه كبار مسؤولي الدولة وجنوده من النخبة، أو ما يمكن تسميته اليوم بالحرس الخاص.
ومع دوران التاريخ، وسقوط الإمارات الإسلامية في الأندلس، وآخرها غرناطة، قام الملوك المسيحيون، وبعد استيلائهم على القصر عام 1492م بتغيير بعض الغرف فيه، وهدم الإمبراطور الروماني شارل الخامس في عام 1527م جزءًا منه ليبني قصره الخاص، قصر شارل الخامس، وبنى لزوجته غرفة ملابس على أحد أبراجه، حتى توقفت حركة الزمن في القصر في القرن الثامن عشر نحو مائة عام، فلم يعتنِ المحتلون الفرنسيون بأمره، لكنه نهض من جديد في القرن التالي بعملية ترميم وإصلاح.
يأخذني الطريق إلى درب آخر، ما أجمله من تسمية، جنة العريف، تُرى كيف تبدو هذه الجنة الأرضية على هذه الهضبة السامقة في سماوات أحسب أنها سترفع صوت الآذان من جديد فيهب أبو عبدالله (محمد بن علي بن سعد بن علي بن يوسف المستغني بالله) يرمي وثيقة التنازل في وجه فرناندو، فيعود الزمن إلى ما قبل نهاية نوفمبر من عام 1491م، لولا أن الزمن لا يستدير إلى الوراء... وإن كرر نفسه!
لقبه الإسبان بالصغير... ربما لأنه تصاغر أمامهم، ووصفه العرب بالزغبي... أي المشؤوم، وبقي لدى البعض ذلك المظلوم الذي لم ينصفه المؤرخون، فالتاريخ يكتبه... المنتصر!
ما أجملها الممرات تنهض على جوانبها تلك الحيطان الخضراء، هذه الشجرة التي تعرش فتبدو حائطًا دفاعيًا ينهض بجمالية تكاد تخفف من وطء تلك السوامق الحجرية التي بناها البشر، فمشت على أجسادهم سنابك خيول الغالبين، مع أن حيطان قصر الحمراء ترفع زخارفها في أمكنة شتى بحقيقة مطلقة: لا غالب إلا الله.
هذه جنة العريف إذًا، حدائق القصر، حيث يستجم الأمراء الغرناطيون والأميرات اللاتي يختلن حسنًا على حسن، كم من حكايات سردتها الشفاه على مسامع الورد، وسارت موسيقى الليل مع حسناوات يتماوج ليل شعرهن مع ضوء الشعر على شفاه القمر، وتساقطت قبلات خفية مرت كحفيف النسائم على ما تناثر من قدرات مطر.
بين حقول ورد وجداول ماء أسير، تحفني الأشجار الدانية قطوفها، أستكشف جنة أرضية تركها بنو الأحمر لكل الألوان التي جاءت بعدهم، من مالكين أو مملوكين، مقيمين أو عابرين.
تسير بنا شوارع غرناطة، ونختار قطارًا صغيرًا أشبه بما نراه في مدن الألعاب والمجمعات التجارية، وسيلة نقل تتسع لها الزواريب والمنعطفات الصاعدة أو الهابطة على هضبات المدينة، كان لافتًا أنهم اختاروا حرف القاف باللغة العربية ليكمل بقية الاسم اللاتيني لغرناطة، قال لنا بائع التذاكر إنه يمكن اختيار لغة الضاد من بين القنوات لسماع الشرح بلغتنا الأم... كان صوت الإسبانية والإنجليزية هادرًا... لم نجد سوى الصمت تحت بند «العربية»!
تلوح من على بعد كاتدرائية غرناطة، والتي نهضت مكان مسجد غرناطة الشهير الذي بناه بنو الأحمر في وسط المدينة، واختاروا أن تكون على غرار كاتدرائية طليطلة، بذلك الطراز القوطي، المعمار السائد في إسبانيا مع بدء القرن السادس عشر، ومع بدء النصف الثاني من القرن السادس عشر أدخلت بعض الإضافات عليها وفق الطرازين الباروكي وعصر النهضة، وهو ما جرى به بناء الكاتدرائية الملكية المقامة مكان شرفة مسجد غرناطة، عام 1505م.
وإلى حي البيازين، أحد المواقع الأثرية التي أدرجتها اليونسكو في قائمة التراث العالمي، هنا كان يعيش أرستقراطيو المدينة وأرباب الصناعة والحرف فيها، شوارع ضيقة تمضي على شكل شبكة تمتد من أعالي غرناطة نحو النهر أسفلها، حصنه بنو زيري عام 1013م بجدران دفاعية، وطوره بنو الأحمر، لكنه بقي شوكة في خاصرة الخلفاء لما عُرف عنه من ثوراته المتعددة، وكأي شيء في الأندلس، تنازل عن سطوته مع استيلاء المسيحيين، وفي عهد فيليب الثاني، ومع طرد المسلمين من الأندلس قاطبة، أخلي حي البيازين من ساكنيه.. وتحول مسجده إلى... كنيسة!
إذًا ماذا تبقى من نحو 137 مسجدًا نهضت مآذنها بصوت التوحيد خلال فترة حكم بني الأحمر؟!
في شوارع غرناطة، ساحاتها، معالمها، وكل ملامحها، ما يشي بجمال تحتاجه العين، في بحثها عن تقاسيم جمالية، تنبض بها المدن الحية.
 
وقرطبة... تنادي
من غرناطة إلى قرطبة، وليس عندي «لا خيل ولا مال»، كما يقول المتنبي، بل اتخذت الحافلة مطيتي إليها، وفي خاصرة الذاكرة ما يوجع الروح إن لم تغادر سنوات المجد العربي في الأندلس، تزحف الأشياء رغمًا عني فأكابد في مدافعتها، لعلي أرى قرطبة اليوم لا قرطبة التي «يستضيء الماشي بسراجها من على بعد عشرة أميال» كما وصفها ياقوت الحموي، وكان عدد سكانها مليون نسمة حينما كانت أكبر مدن أوربا لا يسكنها أكثر من ربع هذا العدد، وكما تذكر المصادر أن عدد حماماتها العمومية ومرافقها وبيوتها بلغ في ذلك العصر العربي نحو 283000، أما قصورها فعددها يصل إلى ثمانين ألفًا، وخمسين مستشفى، وستمائة مسجد، وفيها مائة وسبعون امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي.
أتخيلني أسير في أحيائها، عل ابن زيدون انتهى من قصيدته، وأنني سأجد بعضًا من ابتهالات العشق لدى ولادة بنت المستكفي تمضي بها بين الزواريب، وأمضى إلى دار المدنيات أطرق الباب، فإذا بزرياب يتأكد من أن الوتر الخامس يبتهج به عوده، لولا أن عالمها عباس بن فرناس ينادي من يريد أن يشهد مغامرته كأول كائن بشري حاول الطيران، مستبقًا الأخوين الأمريكيين رايت بمئات السنين.
هذه إذًا «كوردوبا»... أو قرطبة التي جعلها الأمويون مقرًا لولايتهم في الأندلس حتى سقوط دولتهم على أيدي العباسيين عام 750م، وقد كانت الأندلس ولاية تتبع عاصمتهم دمشق في زمن الخليفة عمر بن عبدالعزيز، بعد أن كانت تابعة لولاية المغرب.
وبعد سنة من سقوط الحكم الأموي في دمشق، كانت قرطبة على موعد مع مجد يرتقي بها نحو سنوات لم تعتدها، يقيمه أموي جاء فارًا من ملاحقيه بني العباس، الأمير عبدالرحمن الداخل، فاستوى على عرش المدينة، لتصبح على يديه عاصمة الأندلس بأكملها، وأهم مدن شبه الجزيرة الإيبرية، وبقي خلفاؤه من بعده يلاحقون الثورات تتناسل لإخماد نيرانها، وفيما كان أمراؤها يشعرون بأن مقاليد الأمور خرجت من أيديهم، في القرن العاشر الميلادي/ الرابع الهجري، إذ بعبدالرحمن الثالث (الملقب بالناصر، ومن أحفاد الداخل) يستعيد مجد جده الأول، مخضعًا الأندلس لسلطته، وبلغ به العزم أن تلقب بخليفة المسلمين، ناقلًا كرسي الإمارة إلى مدينة جديدة أسسها، فكانت «الزهراء» نجمة مضيئة أخرى لا تبعد كثيرًا عن عاصمة ملكه، ومن قبله آباؤه وأجداده، قرطبة، وتلاه ابنه الحكم، ليأتي من بعدهما من يبقي الابن سجينًا في «الزهراء» وينشئ «الزاهرة» عاصمة لملكه... إنه الحاجب المنصور بن أبي عامر.
وتوالى الأمر بين قلاقل وفتن، حتى جمعهم يوسف بن تاشفين، لكن سرعان ما سقطت دولة المرابطين على يد الموحدين، وكانت معركة «العقاب» كحجر الدومينو، فتلاحق بسقوط قرطبة في عام 1263م على يد مملكة قشتالة المسيحية سقوط بقية إمارات الأندلس.
كم من الموجعات سارت على دروب قرطبة، كأنما كل حجر سيروي حكاية مما عبر على الأمكنة من صراعات ومآسٍ، هذه الحاضرة الأموية ارتقت عنان السماء مجدًا، وعلى وقع تكبيرات الآذان نهضت تطاول الغيوم إشراقًا، لكن ما إن استوى الملك لغيرهم تفرقوا في البلاد ينشدون الأمان على دينهم، وطاردتهم محاكم التفتيش لتجبرهم على اعتناق المسيحية، ولم يكفهم هذا، فقرر المنتصرون أن يطردوهم، ومعهم اليهود، من الأرض التي لم يعرفوا غيرها لهم وطنًا، ففروا بدينهم ينشدون أوطانًا أخرى، لكن شواهد التاريخ باقية، فالحيان الإسلامي واليهودي معروفان في وسط المدينة، ودخلا إلى قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، بجوار مدينة الزهراء التي أنشأها عبدالرحمن الناصر على اسم زوجته، ورمم جزءًا قليلًا منها بعد الحريق الذي أتى عليها خلال ثورة البربر عام 1020م.
تعد قرطبة عاصمة الجنوب الإسباني، أندلسيًا، المتمتع بحكم ذاتي، والسياحة المورد المهم في تنشيط حركة الاقتصاد داخل هذا الإقليم الثري بتاريخه العائد في أغلبه لفترة الحكم العربي، ومن معالمها السياحية الحمامات العربية، وقلعة «كالاهورا»، أو قلعة الحرية، الواقعة على طرف الجسر الروماني، العابر لنهر الوادي الكبير، وأضاف الملوك الإسبان لهذه القلعة الإسلامية ما جعلها اليوم متحفًا يعد من معالم المدينة المهمة، إضافة إلى واحد من أهم ما تشتهر به: قصر قرطبة، وبناه الحكام المسيحيون في موقع القصر القديم، بعد استيلائهم على قرطبة، ويعرف أن منه سمح لكريستوفر كولمبوس عام 1492م بالبدء في استكشاف طريق جديد إلى الهند.
درت حول سور المسجد/ الكنيسة، أو أنه (مسجد الكاتدرائية كما أصبحت تسميته) حتى إذا دخلت عبر البوابة الرئيسية، عرفت أنه يسمى صحن النارنج، فهو محاط بذلك السور ذي الأبواب السبعة، كل شيء أقرأ فيه المجد الإسلامي من فنون قادرة على البقاء، في الجهة الشمالية ثمة مئذنة على هيئة برج ضخم له شرفتان يرفع منهما الآذان شيدها عام 951م عبدالرحمن الناصر، ما زالت تشمخ حتى يومنا هذا، ولكنها تحمل الأجراس!
ولما رأيت التذاكر في الأيدي أدركت أن الدخول ليس مجانًا، فأخذت طريقي لابتياع تذكرة تمضي بي إلى «جامع قرطبة»، وأعمدته التي تعطي للمساحة الداخلية رونقًا جماليًا تكاد لا تكفي الصورة لنقل ذلك الحسن البهي، كيف بي الإحاطة بنحو 800 عمود تصطف كأنها جموع المصلين، ولكن هناك ألق بهاء الكاتدرائية يتوهج حياة، بينما انزوى المحراب في ركن جانبي، وكأنه من غير المرغوب فيه أمر الاقتراب من ذلك الوهج الإسلامي، الساطع رغم كل العتمات.
جرى بناء الجامع، وكان يسمى جامع الحضرة، على مراحل خلال نحو قرنين ونصف قرن تقريبًا، بدأت في عام 92 للهجرة، مع اتخاذ بني أمية قرطبة لتكون عاصمة خلافتهم في الأندلس، وتشاطر المسلمون مع المسيحيين كنيستهم الكبرى ليبنوا في شطرهم مسجدًا، لكن مع ازدحام المدينة بالمسلمين، وجيوشهم، اشترى عبدالرحمن الداخل من الروم الشطر المسيحي، مقابل إعادة بناء ما هدم من كنائسهم خلال الغزو.
أقف أمام ما تبقى من آثار، علمًا بأن القساوسة اجتاحوا عام 1236م قرطبة، مساجد وقصورًا، لطمس ما يستطيعون عليه من صروح الحضارة الإسلامية، لكن يبقى أن هذا المعمار شاهد عظيم على تداخل حضارتين، المسيحية والإسلامية، وأن هذه الكاتدرائية ناطقة بالمعمار الإسلامي على نحو مشرق، غير قابل للطمس.
 
على إيقاع «الفلامنكو»
كنت أبحث عن سر الـ«فلامنكو» الذي إن جاء الحديث عن الفنون في إسبانيا تخيلت على الفور فنانها العبقري بيكاسو، ورقصتها الشهيرة «الفلامنكو»... المنافسة لرقصة التانجو الأرجنتينية، والسامبا البرازيلية، وكأنها تمتح كلها من أمريكا اللاتينينة، تلك التي تتكلم بلغة الإسبان.
يشير المختصون إلى أن الفلامنكو (أو الفلامنجو) أساسها موسيقى راقصة لغجر إسبانيا (الخيتانوس) لكنها ارتبطت بتأثيرات الموسيقى الأندلسية، وتظهر التأثيرات أنواعًا من الموسيقى الإفريقية فيها، كما يتجلى في طريقة الغناء من الحنجرة والجيتار المتأثر بآلة العود، وتتشابه كثيرًا مع موسيقى المدن الشمالية في المغرب كتطوان وشفشاون وطنجة (على سبيل المثال)، كتشابه أوجه ثقافية أخرى بين الشمال المغربي والجنوب الإسباني، ثقافة وهندسة ومعمارًا.
تعددت المصادر الباحثة في أصل الفلامنكو، فهي أحيانًا تشير إلى طائر النحام (الوردي، أو أنها «فلاح منكو/ منك»)... أو هي تعبير عن مظهر من مظاهر الألم لدى الفلاح المنكوب، كما حصل لدى الفلاحين الموريسيكيين الذين أصبحوا بلا أرض، واندمجوا مع الغجر، يروون للسهوب ما معنى أن يكون الإنسان... بلا أرض!
ومع كل ذلك الاختلاف في الأصل إلا أن الإشارات واضحة لتأثر هذا الفن الموسيقي بالطابع الشرقي من حيث اعتماده على الهارموني العربي الشائع في عزف الموسيقيين العرب على العود، وقد جلبوا معهم ألحانهم ومقاماتهم وإيقاعاتهم وآلات موسيقاهم من الشرق، وعلى رأسهم زرياب، إنما ما يجمع البشر مع الموسيقى قدرتها على بث الشكوى والنجوى، واللهو والتسلية، وكأن الإسبان وجدوا ضالتهم في هذا الفن، فمع بداية عام 1860م، خرج من إطاره الأندلسي ليكتسح حواضر إسبانيا ومدنها، وحتى إذا وصل عام 1910م اجتاح المسارح بشكل مذهل، فكان له مصانعه القادرة على إنتاج المزيد والمزيد مع تطويره، وبما يكسبه دهشة أكبر، حتى غدا رمزًا من رموز الدولة فنيًا، ومع ما يحمله من مكابدات وحزن في ثناياه، موسيقى وغناء ورقص، ما جعله بضاعة فنية عالمية قابلة للتداول، فأينما يوجد وجع، يمكن أن يمارس... الفلامنكو!
 
مدريد... مجرى المياه الوفيرة
عبر القطار ودعت الأندلس بغية استكشاف فضاءات العاصمة مدريد، تلك التي يقال اسمها عربي في الأصل، فهي «مجريط»، كلمة من جزأين، أولهما عربي: مجرى، والثاني لاتيني: «إيتو»، ويعني الوفرة، وذلك ما كان يميز المدينة في تلك الفترة.
وكان زحف البشر طاغيًا في تلك المحطة الأشبه بمطار كبير، خرجت منه لأصادف مجسمين جميلين لرأسي طفل، ومدينة تكثر فيها الجسور والأنفاق التي تعبر بالسيارات تحت الأرض مسافات ليست بالقصيرة.
كل ما فيها أنيق، معمار مبانيها، ألوانها، ساحاتها، تماثيل أبطالها، وحيوية وسط المدينة الضاج بحركة البشر، يغنون ويرقصون، لأجل الفرح المضيء الساهر مع المدينة حتى الصباح، والمقاهي التي تتوافد عليها الجموع جيئة وذهابًا، وكأنهم يتناوبون ليأخذ الآتي مقعد المغادر.
يشدني في المدن رحلة «الباص الكبير»، وله مسميات عدة، فأتخذ من طابقه الأعلى فرصة لرؤية المدينة بصورة أشمل، لكن مدريد لم تودع صيفها بعد كما يبدو، رغم أن الخريف يطرق الأبواب بقوة حسب جدول الفصول المعتاد، فيصبر السائح على وهج الشمس، لعل غيمة تأتي من البعيد تخفف وطء أشعتها، لكن في جنبات مدريد ما يكفي من الأقمار لتبتغي زادًا شاعريًا، فتحلق روحك في سماوات المدينة، كأنما لوركا ما يزال يكتب غنائياته الشعبية بتلك الإيقاعات العربية الأصيلة، لكنها بروح إسبانيا: 
الشاعر يفهم
كل ما لا يفهم.
ويسمي الأشياء البغيضة
بأسماء صديقة حبيبة.
إنه يعلم أن الدروب كلها
مستحيلة 
ولهذا يمضي الليل في هدوء.
يأخذني «جوجل» إلى غابة يصفها بأنها عامرة بالمتعة والإثارة، لكن سائق سيارة الأجرة يتوقف بين صفوف أشجار، وقد بلغ عداد الحساب مبلغه من اليورهات، فيقول إن الدرب مقطوع، بما يدل على أن المنطقة «مقطوعة» حسب الوصف العربي، وإذا عاد فكيف بسيارة تعيدني من هنا؟!
لكن في السفر تأتي المفاجآت بما لم يكن في الحسبان أيضًا، دلني على نقطة «تيلفريك»، وبربع ما دفعته لسائق «التاكسي» عدت للمدينة كطائر تحملني العربة الصغيرة المعلقة، فأستمتع بجمال تلك الغابة، ويحطني جناحا «التليفريك» بجانب ممشى كبير، وبجوار شارع رئيسي في المدينة، ليس بعيدًا عن مقهى أنيق.. ومتنزه يمنح إطلالة علوية لمشاهدة المساحات الخضراء بما يجعل العين تختال فرحًا بحسن ما ترى.
 
في معقل «المارينجي»
ولأن الإسبان لا يلعبون الكرة، بل يرسمونها كشأن فنانهم العظيم بيكاسو في علاقته باللوحة، يضبطون ألوان كرة القدم على مساحة إطار لوحة الملعب، فتكون تلك القدم الفاعلة أداة تخيل وإبداع، مضبوطة الأداء، هي لا تركل تلك المستديرة، بل تقبلها لتذهب طواعية إلى الزاوية الأجمل، وحين تهتز الشباك، تتصاعد شهقات الإعجاب في صدور مئات الملايين حول العالم، وهم يتوزعون بين الريال والبرشا، متابعة وإعجابًا... وتعصبًا!
كيف أكون في مدريد ولا أفكر في زيارة ريالها؟! 
مفردة الريال لها معنى مادي في ثقافتنا، وإن نقلت الشدة من الراء إلى الياء فهي، ووفق بعض اللهجات الخليجية، (رجل) المكان.
النادي، وملعبه، يرويان جانبًا مهمًا من تاريخ المدينة، قلعة أكثر بهاء من تلك القلاع التي رويت بالدماء عبر حروب تعاقبت، لا ترتفع راية إمبراطورية إلا على أجساد عشرات الآلاف من أجساد سابقتها، وتأتي أخرى لتطحن من انتصر، وهكذا دواليك!
لكن في قلعة ريال مدريد لن ترى سوى الجمال، والمجد، مرويين بالمتعة والإبهار الذي تستجيب له الروح.
كنت أظن أن ملعب سانتياغو برنابيو، ناء عن مركز المدينة، تحيطه المساحات الشاسعة حوله حتى يتسع لمواقف السيارات حين يزحف نحو 80 ألف مشجع إلى مدرجاته، ومثل هذا العدد ربما يكون قريبًا من الملعب، يتابع مباراة لهذا النادي الأسطوري الذي يعرفه العالم، ينحاز إليه الملياردير المترف كما هو شأن أي مواطن معدم في أقصى دولة فقيرة على هذه الأرض، ينتمي بشكل ما إلى هذا الريال.
ذهبت إليه في العاشرة صباحًا، وجدت الملعب يكاد يُلامس أرصفة الشوارع من حوله، بالكاد ترى أن هناك مواقف للسيارات، وهو الواقع في وسط العاصمة، تحده شوارع باسيو دي لا كاستيلانا وشوارع إسبينا كونشا، داميان بادري، ورافائيل سالغادو، فاتخذت طريقي حسب الوصف إلى ما يمكن تسميته بالمدخل السياحي، طابور نتبع بعضنا البعض، وفي أيدينا تذاكر الدخول، ثم نقف أمام كاميرا نلتقط صورة تذكارية مع كأس أبطال أوربا، والتي فاز الريال ببطولاتها نحو 15 مرة، ومباشرة دخلنا إلى المتجر المكتظ بالبشر، الأسعار مرتفعة، القميص بنحو مائة يور، ويقال إن هناك الأغلى بأضعاف ذلك، والحب يصنع الجنون، حتى وجدتني في ملعب أرضيته ليست خضراء تمامًا، ولا يركض في ميدانه 22 لاعبًا، بل عددًا لا يحصى من العمال يعيدون تأثيث الملعب بتلك الأعشاب الخضراء الملفوفة كسجادات تحملها رافعة صغيرة تضعها بجوار بعضها البعض، فحينما تستعيد الأرضية اخضرارها، ستنصت المدرجات لهدير أصوات عشرات الآلاف تهتف لبطلها، الراكض بلهفة نحو الألقاب، ليكون عظيم القارة الأوربية الذي يخشاه الجميع. 
يشير تاريخ الملعب إلى أنه افتتح في 14 ديسمبر من عام 1947م، أي بعد عامين من هجوع آخر رصاصة بين المتحاربين في الحرب الكونية الثانية، سعته نحو 81 ألف متفرج ليكون واحدًا من أكبر ملاعب أوربا، حمل في البداية باسم «شامارتين» الجديد، ولاحقًا باسمه الحالي تكريمًا لرئيسه الأسطوري في ذلك الوقت سانتياغو برنابيو، اللاعب ثم المدرب ثم الرئيس للنادي الملكي. وتعتبر فترة رئاسته الأطول في تاريخ الريال حيث بلغت 35 سنة، بين عامي 1943 إلى 1978م، كما أن رئاسته تعد الفترة الذهبية في تاريخ النادي، حصد فيها لقب الدوري الإسباني 16 مرة، من بين 35 لقبًا في هذه البطولة فاز بها الملكي.
بين الجماهير/ السياح جلست، أتخيل تلك الصورة بشكلها الفخم حينما يكون المكان مسرحًا لأحداث كبرى، كنهائيات دوري أبطال أوربا، وقد شهد هناك أربع مناسبات: أعوام 1957، 1969، 1980، 2010، ونهائي يور 1964، ونهائي كأس العالم 1982، كل هذا التاريخ مر من هنا، منقولًا لمن استطاع إلى ذلك من مئات الملايين من البشرية قاطبة.
مدريد عامرة بالجمال، حدائقها الواسعة، وساحاتها التي تتنقل بينها عبر محطات المترو، الزحام في وسط المدينة، وبمجرد أن تكتب على جوجل بحثًا عن مطاعم عربية تظهر لك مقترحات كثيرة، وتستقبلك عدة جنسيات، جاءت من مشرق وطننا العربي ومغربه، قد تعمل في مطعم واحد، تذوب الغربة أولئك الغرباء، بعيدًا عن الاختلافات السياسية بين أنظمة بلدانهم التي هربوا منها، طوعًا أو قسرًا، لتجمع أبناء الضاد بعيدًا عن مواطنهم، وتحت راية لغة غير لغتهم.
إسبانيا، وقد أصبحت مهجرًا للكثيرين من العرب، كأنما هي استعادات أنيقة للوجود العربي في تلك الحاضرة التاريخية التي عرفها أجدادهم، ظلمهم التاريخ أو أنصفهم، فمفردات القرن الحادي والعشرين لا تشبه أبدًا تلك التي سار بها طارق بن زياد، أحرق خشب سفنه لا يريد العودة... وأحفاده اليوم يحرقون أوراق جوازاتهم... وهم لا يريدون العودة أيضًا ■
القصبة تقاوم جريان السنوات عليها، كشاهد حي من الزمن الأندلسي العتيق.
شوارع مالقة، نظيفة وهادئة، وتكاد تلمس صور الجمال في مختلف الزوايا.
المدرج الروماني، أحد المرتكزات الفنية في الآثار القديمة لمالقة، ويقع أسفل القصبة.
مدينة مالقة كما تبدو من خلال القصبة في مشهد بانورامي
لقطات من معرض السيارات والموضة، في كل قطعة ثمة مزاج صناعي مبهر في هذا المعرض الذي يعد نافذة سياحية لمدينة مالقة
متحف بيكاسو يعرض نحو 200 عمل فني لهذا الفنان مؤسس المدرسة التكعيبية
إطلالة من محيط قصر الحمراء لمدينة غرناطة، تصغر البيوت رغم كل شيء أمام هذا العلو
ولا غالب إلا الله.. الحقيقة المطلقة التي نقشتها الأيادي على حيطان قصر الحمراء في أكثر من موضع
صورتان تدهشان العدسة قبل العين.. لا يكفّ المكان عن إهدائك لوحات الجمال فيه، فالقصر حسن أينما يممت بصرك
في قصر الحمراء يلتقي الورد بالرمان الذي تحمل غرناطة اسمه.
بين زمنين... يسير الكثير من الماء تحت جسور الدهر، فقرطبة تحتفي بأزمانها على خير ما يرام
جمال القصور الإسبانية وأناقتها ليلاً، وفي الداخل توجد صالات عرض تستقطب أكثر من معرض فني مفتوح للجمهور مجانًا
جانب من محطة قطار مدريد... عالم يتحرك على مدار الساعة
زحام البشر في وسط العاصمة... أقدام تسير بمتعة التجوال وسط حيوية... الحياة
أمام ملعب سانتياجو برنابيو تبدأ صناعة المتعة... وعليك أن تدفع لهؤلاء.