الترجمة خيانة بطعم الوفاء

الترجمة خيانة بطعم الوفاء

ما هي وظائف الترجمة وأدوارها عبر التاريخ؟ وما الذي سوف يخسره العالم إذا فقد قدراته على نقل دراسات وإبداعات وتقارير من لغة إلى لغة أخرى، أو إلى لغات أخرى؟

 

بقراءتنا للافتتاحية التي وضعها رئيس تحرير مجلة العربي الأستاذ إبراهيم المليفي للعدد 773 (أبريل 2023) من مجلة العربي، تُصادفنا تأكيدات مثيرة بخصوص عالم الترجمة وظلاله وإجابات غير متوقعة عن التساؤلين المثارين أعلاه، إذ لم يتردد رئيس التحرير في تبني العبارة الشهيرة «أيها المترجم... أيها الخائن»، والتي تأخذ في صيغتها اللاتينية «Traductore…traidore» شكل جناس بين، وأرجعها إلى «زمن الامبراطورية الرومانية التي كانت تحكم أجزاءً كثيرة من العالم متباينة الثقافات ومتعددة الألسنة»، وقام بتشريح  للعبارة المذكورة ليمنحها بعدًا شاسعًا ومركبًا، يتجاوز المستوى اللغوي والدلالي، ويقرنها بمجال الحروب والفتوحات، وهو مجال يكون المترجم فيه «عميلاً» و«مستكشفًا» يُسَهل للأعداء مأمورية التسلل، ويجعل القلاع تهوى من الداخل «ففي زمن الاضطرابات وسقوط المدن، يؤكد كاتب الافتتاحية، يظهر دائمًا من يعشق المحتل ويسعى إلى خدمته». وقد يكون المترجمون معرضين بشكل أكبر لهذا «الانحراف»، ويصابون بسهولة بما يعرف بمتلازمة استوكهولم. ويبدو أن الترجمة كانت، في عصور سابقة، قوة ناعمة فعالة وحاسمة، كما أنها اعتبرت  فعالية «سيئة السمعة»، مُلحقة بمجال الاستخبارات والتجسس، ما يدفعنا إلى أن نتخيل أنه كان هنالك من لم يتردد في قطع رأس رسول/مترجم أتى متأبطًا معطيات ثمينة، ارتأى حاكم ما أن  تبقى متاحة له وحده. 
وإذا ما غضضنا الطرف عن «شبهة النشأة»، سنتفق بيسر، وتلك هي الفكرة الثانية التي دافعت عنها الافتتاحية، على أن عملية الترجمة قد أصبحت أساسية لتطور مختلف المعارف والعلوم، وتزايد دورها كوسيط بين الثقافات للتقريب بين الشعوب والحضارات، وتأمين التلاقح والاغتناء المتبادل، وتبين بما لا يقبل أي شك أنه لا يمكن الاستغناء عنها للتعرف على ذهنيات المجتمعات وطبيعة استجاباتها ومكامن قوتها وتوتراتها. وهذا ما أكده الأستاذ إبراهيم المليفي حينما اعتبر أن «الترجمة عمل نبيل يقوم على نقل الثقافات بين الشعوب المختلفة ويقرب بين العقول المتباعدة»، ما جعل الثقافات تنصت إلى بعضها البعض، تلك إذن هي المهمة المركزية لعملية الترجمة، وإن كان لها أيضًا، حسب الأستاذ إبراهيم  المليفي،  دائمًا، وظائف أخرى عابرة أو استثنائية كأن تحفظ من الضياع كتابًا ما، كما كان الأمر مع كتاب بعينه، هو كتاب «كليلة ودمنة»؛ إذ إن «(...) الكتاب الأصلي اختفى، ولم يبق لدينا إلا النسخة التي ترجمها ابن المقفع، وبواسطتها انتشر الكتاب في كل أنحاء العالم وتُرجم من العربية إلى كل اللغات. المترجم هنا ليس خائنًا، ولا تنطبق عليه تلك العبارة الشهيرة، فهو لم يحافظ على النص من الزوال فقط ولكن بعث فيه حياة جديدة جعلته خالدًا». وفي هذه الحالة، يتوجب بالطبع أن نرفع قبعتنا للمترجم ابن المقفع بدل أن ننظر إليه نظرات ارتياب وتوجس.
 وهذا المنحى نفسه، أشار إليه عبدالفتاح كيليطو في كتابه «التخلي عن الأدب» (دار المتوسط، ميلانو 2022)، بذكر حالات كتب أخرى قيدت لها حياة جديدة وممتدة عبر الترجمة التي جعلتها «تبعث» من جديد،  ويتم تداولها والاعتراف بقيمتها، مثل حالة مؤَلف أبي العلاء المعري «رسالة الغفران»، التي يقول عنها عبدالفتاح كيليطو: «غرقت «رسالة الغفران» في بحر اللامبالاة لعدة قرون، إلى أن أهَل القرن العشرون، فاكتشفها البريطاني رينولد نيكولوسون وترجمها، لكنه، في تقديمه لها، ربط بينها وبين الكوميديا الإلهية، ومنذ ذلك الوقت بدأت قصتها، قصة جميلة تُروى وتتناقلها الألسن» (ص42). مصادفة أخرى جميلة مماثلة حددت مصير ديوان «رباعيات الخيام» الذي قال  بورخيس عن إدوارد فيتسجيرالد مترجم الرباعيات إلى الإنجليزية: «إنه مترجم بارز ويكاد يكون مخترع عمر الخيام». (ص43).

الخيانة العظمى
الفكرة المحورية الثالثة التي انبنت عليها افتتاحية الأستاذ المليفي، التي نسعى لإضاءتها، تجزم  بأنه «من المستحيل أن ينقل أي مترجم النص الأصلي بما فيه من سحر وتوهج (...) والمؤلف الأصلي يجيء دائمًا بالمرتبة الأولى بينما لا يتجاوز المترجم المرتبة الثانية وربما هبط عنها»، ويضيف في فقرة موالية: «في الأوساط الأدبية يُعد المترجم خائنًا على سبيل المجاز لأنه لا يفلح أبدًا في نقل المحتوى الأصلي لأي نص إلا بتحريف وزيادة ونقصان وتبديل في المعاني أحيانًا»، وهذا ما يدفعنا إلى أن نعتبر الترجمة عملية تصطبغها بعض المأساوية والكثير من الحسرة. وأنها تمثل مجهودًا غالبًا ما لا يمنح حقه، ويتم تبخيسيه أحيانًا ويعامل بجحود، لذا يقال إن المترجم الجيد هو المترجم غير المرئي.
هناك مستحيل آخر يعترض طريق المترجم بشكل فظ، هو ترجمة الشعر، وقد التقت الافتتاحية في تسجيل ذلك مع مفكرين كبار، ذكرت اثنين منهم، هما: الجاحظ وأدونيس، لتصل إلى الخلاصة التالية، وهي أن ترجمة الشعر هي الخيانة العظمى، وهي خلاصة تقترب من فكرة لناقد أمريكي هو هارولد بْلوم، تقول: «يخسر الشعر العظيم أثناء الترجمة دومًا».
ويختم الكاتب افتتاحيته بالتأكيد على أن «الترجمة هي حقا مهنة نبيلة»، وهي بالفعل كذلك، إنها لقاء وصراع متواصل مع الذات واللغة والمحيط، وهي تملك واقتسام، وعبرها نرتاد آفاقًا لم نكن نعلمها ونتزود بمعارف ضرورية لمواكبة احتياجات عصرنا. هي نمط متفرد من أنماط القراءة ترفع إلى الضوء سعيًا دؤوبًا نحو الاقتراب مما نجهله وتفضح شغفًا دفينًا، وفضولاً ورغبة جامحين في التعلم والتعرف على عوالم جديدة ومختلفة. الترجمة هي وعد وتفاوض بين أفقين، واعتراف ولقاء بالآخر واستضافة له وإقرار بأن وجودنا لا يكتمل إلا بوجوده. وتعبر اللغة الإسبانية بشكل جميل وأنيق عن هذا التداخل الجوهري والعميق بين مفهومي «الذات» و«الآخر»، فكلمة  Nosotros، أي نحن، هي في الأصل جمع بين كلمتين  مستقلتين  هما  nos أي  نحن و otros  أي الآخرين، مما يؤكد أن التلاقح والهجنة هما الأصل في وجودنا. 
وقد تكون الكتابة، أي كتابة، هي في جوهرها بمنزلة سعي لـ«ترجمة» أفكار وعواطف وذكريات وتمنيات إلى كلمات وتعابير، غالبًا ما تظل قاصرة عن إيصال جوهر تلك الأحاسيس والأفكار والحدوس، فنشعر بحسرة أن اللغة تخون، تخوننا ■