الخيط في يدي مائدة محاطة بسياج من الشجن

الخيط في يدي مائدة محاطة بسياج من الشجن

ربما تُلصق بي تهمة ارتكاب الخطيئة، حين أفشي سر عدم تحبيذي لكتابات كثيرة تُنشر تحت مسمى «قصيدة نثر»، وذلك، بالطبع - وهذا رأيي - لا يرجع إلى عطب في ذوقي أو ذائقتي، بل يرجع، حقيقةً، إلى نصوص يبدو أن مهمتها اليتيمة في عالمنا هذا هي إحداث قطيعة سرمدية بين فضائين، الأول يعيش فيه أصحاب تلك النصوص، وهو كرم مفرط أن يُنعت هذا النوع من الكتابة بكلمة نص، والثاني يسبح فيه المتلقي الذي أصبح في حالة لا يُحسد عليها، خاصة وقد أضحى، المتلقي، متهمًا بالغباء أو بضحالة الثقافة، لعدم قدرته على شق طريق يتواصل من خلاله مع تلك النصوص!

 

 وحتى لا أتجنى على أحد، بوضعي البيض في سلة واحدة، عليَّ أن أؤكد أن هناك نصوصًا تنتمي إلى فضاء قصيدة النثر تبهر قارئها وتجعله يقف أمامها مشدوهًا لشدة طزاجتها، وشعريتها الفائقة التي تكمن بعيدًا عن بساطة مبتذلة، وغموض ليس مرغوبًا في حضوره وغير مبرر كذلك، وأنا كذلك كنت أنبهر ببعض هذه النصوص، رغم أنني لم أكن قد فكرت في تجريب هذا النوع من الكتابة، لأنني على قناعة تامة بتجاور الأجناس الأدبية التي تحتوي على قدر من الإبداع يجعلها تقف جنبًا إلى جنب.
بالفعل هناك قصائد نثر تأخذ قارئها من نفسه إلى عالم إبداعي ساحر، حتى أنه لا يعثر على نفسه إلا وهو يصفق لها، وإن كان وحيدًا، مُبديًا إعجابه بالنص، شاكرًا له متعةً خاصة أهداها إياه، وما دام الإبداع قد وُجد فلا مجال لحديث عن نوع، أو عن مسمًى أدبي.

مفتتح دال 
في ديوانه «الخيط في يدي» يجعل الشاعر فتحي عبدالسميع الذات الشاعرة تبدأ وتنتهي من وإلى نفسها، في قصائد تميل في معظمها إلى استخدام أسلوب سردي، يتجلى ذلك فيها إلى حد كبير، غير أنها لا تغض الطرف عن ذات الجماعة التي تقوم مقامها في كثير من الأحيان.
إذن لا تتخذ الذات الشاعرة هنا من ذاتها مركزًا تتحرك من خلاله، بل هي تستمد مركزيتها من ذات الجماعة، وإضافة إلى هذا تتعدد الحالات التي تتلبسها، حتى يصعب أن نقبض عليها وهي في حالة بعينها.
يستهل فتحي عبدالسميع ديوانه هذا بمفتتح دالٍّ يعلن فيه عن خسارته التي لحقت به، في حين يلجأ إلى ربة الكتابة كي لا تكتب شهادة رحيله، بل يطلب منها أن ترمم جسده ليقوى على التحدي ومواصلة الحياة، بعدما ربحَ من خسارات:
«خذلني الوقت
وخسرت كل شيء
حائط أخير تبقى
أنت يا ربة الكتابة
فرممي جسدي
تغمدي بحنانك كل فضائحي
ولا تدقي آخر مسمار في نعشي».
هنا تحاول الذات الشاعرة أن تسمو فوق إحباطات تُولد نتيجة لمؤثر خارجي، كانت بُغيته أن يحط من شأنها، وأن يتغلب عليها في ساحة ومضمار التحدي الناشب فيما بينهما، إلا أنها للحظات ما، يصيبها قليل من وَهَن وتعود أدراجها إلى الاكتئاب والانعزال، معلنة أن ما يحيط بها من أوضاع قائمة وآنية أصبحت في حالة من التردي ولا يتبقى لها سوى أن تقاوم، ولو بتوجيه رداء لربة الكتابة وإلهتها.
كذلك نعثر على الذات الشاعرة وهي تعاني من عدد من الأوهام التي تظنها واقعًا، لكنها سرعان ما تكتشف، بفاجعة، أنها ليست سوى توهمات تبخرت مسرعة تاركة إياها في دوامة لا سبيل إلى الخروج من دهاليزها ومتاهاتها المتشابكة:
«لا أصدق
باب الزنزانة مفتوح
الحراس يهنئونني
يطلبون السماح
ويرجونني أن لا أنسى حلاوة الخروج
لا أصدق
الحرية ترقص عارية
أمام تخت شرقي
وأنا لم أمت بعد
لم أمت
أفكر في ما سيحدث للحياة
عندما أعطي ظهري للسجن».

تأرجح الذات
أما عن تعطّشها لعدة أشياء هي بحاجة إليها، تعلن الذات الشاعرة أنها تسعى إلى أن تصل إلى تلك الأشياء، وأن تتشبع بها، لكن ليس كل ما تتمناه الذات الشاعرة تجده أمامها ملفوفًا في ورق فخم، يعلو طبقًا من فضة:
«ينبغي أن أرتب حياتي دونها
يكفي أنني خربت أكثر من ثلاثين عامًا
ينبغي أن أحافظ على لقمة عيشي
وأن أكون مرنًا بعض الشيء
لا بد وأن أتزوج بفتاة طيبة
وأنجب أطفالًا
أحلم بنبوغهم
بينما أزرع بضعة أشجار حول البيت».
كذلك نلمس هنا تأرجح الذات الشاعرة بين ما تراه واقعًا وبين ما تتوقع حدوثه:
«ينبغي أن أرتب حياتي دونها
غير أني على يقين
من أنها ستباغتني
في لحظة ملعونة
وقبل أن أغفر لها
ستقول لي: سامحتك
سأشعر لحظتها
أنني ارتكبت في حقها جرمًا
دون أن أدري
سوف أقبض على يدها بقوة
وأمشي نحو البعيد
دون أن أفكر لحظة
في بيتي
أو أولادي
أو شيخوختي».

أبجدية أخرى 
ملمح آخر يتبدى من خلال قصائد هذا الديوان الجميل الذي يضم بين غلافيه عددًا من القصائد التي تفوح إبداعًا، ألا وهو أن الشاعر فتحي عبدالسميع يحاول، قدْر ما يمتلك من أدوات وموهبة، أن ينقش فوق جدران مملكة الشعر لغة خاصة به، وأبجدية أخرى لا تشبه أبجديات سابقة، متكئًا على ثقافة شعرية كافية، ومنطلقًا من ذائقة تحاول أن يكون لها حضورها وخصوصيتها، بعيدًا عن أعمال النسخ، طبق الأصل، ومحاولات الاقتراب من نصوص الآخرين:
«البحر خاشع أمامي
ماذا ينقصني كي أكون صيادًا؟
صنارتي جيدة
وقاربي متين
لماذا إذن أعود إلى عتمتي
بلا سمكة؟
الصبر؟
من يخبر الصبر مثلي؟
أنا الذي وقفت أكثر من ربع قرن
أمام أفران الجنوب
دون زفرة واحدة؟
الحظ؟
ربما
غير أنهم يصطادون
بلا حظ
وبلا صبر
وبلا صنارة
وبلا بحر».
هنا أيضًا تبدو الذات الشاعرة وهي تحاول أن تقارن بين حالتها وظروفها وبين حالة الآخرين وظروفهم، متسائلة ما الفرق بينها وبينهم، الذي يجعلهم ينالون ما يريدون، وتظل هي واقفة تنتظر ما قد لا يجيء!

لغة الإنسان العادي
ثمة ملمح آخر نلاحظه، دون أن نبذل أي مجهود، في الخيط في يدي، وهو أن الشاعر يستخدم مفردات / لغة بسيطة تقترب، إلى حد ما، إلى لغة الإنسان العادي، ولا أقول لغة الشارع، غير أن اقترابها منه أو تماسها معه لا يعني سطحيتها أو سوقيّتها، مما يحولها إلى لغة ساذجة ومنفرة، إذ أنها رغم بساطتها، أعني لغة الديوان، فهي تحافظ على (بريستيجها) أو رونقها، وجذالتها:
«تقدم يا فتى
لست بحاجة إلى جنزير
أو زجاجة مولوتوف
لست بحاجة إلى ذراع مفتول
أو صدر يخلو من الدرن
تلك المطارح أجبن مما تتخيل
يكفي أن تسترجع بعض أوجاعك
وأن تملأ صدرك بشهقة سوداء
وتمضي صامتًا
نحو أي شارب تريد
فقط
بخطوات منتظمة
وعينين لا تطرفان».

حياة الصومعة
أما عن لغة «الخيط في يدي»، فهي لغة سلسة تنساب انسيابًا رائقًا ورائعًا، في الوقت نفسه، عبر أسطر الديوان الشعرية، فيما يحاول الشاعر، بواسطة ما يمتلكه من أدوات فنية، ألا يعزف كثيرًا على أوتار المجاز، مبتعدًا بنصه الشعري / النثري عما يُسمى بمجانية اللغة والتناول والصورة التي لا تضيف إلى العمل قدر ما تنقص منه وتصيبه بازدحام لا داعي له.
هنا أيضًا يمكنني أن أقول إن الشاعر المصري فتحي عبدالسميع، الذي نال جائزة التفوق في الآداب هذا العام 2023، بعد أن لملم خيوط الإبداع الجميل، في ديوانه «الخيط في يدي» وفي دواوينه الأخرى، ونسج منها أيقونة شعرية كفيلة بأن تجعله واحدًا من كبار الشعراء الذين ينقشون أسماءهم بحروف من ذهب فوق خرائط العالم الشعري، يشعرنا وكأننا نجلس حول مائدة محاطة بسياج من الشجن والوحدة وحياة الصومعة، التي اختارها صاحبها هروبًا ورفضًا لكل ما يحدث في محيطه.
هذه العزلة التي قد توحي بفشل ما في اتجاه ما، ما هي إلا مقاومة ضد عدة أشياء، وصراع في طريق يسير عكس اتجاه الريح، أو هكذا قد يكون، وبعد أن قرأ الواقع بكل مفرداته الآنية أدرك أنه لا فائدة لما يصنعه، وماذا سيضيف هو بعد أن عجز آخرون عن تحقيق أي شيء؟! ■