غواية النهايات في رواية «قبل النهاية بقليل حيث كل شيء ممكن» لسلمى الغزاوي

غواية النهايات  في رواية «قبل النهاية  بقليل حيث كل شيء ممكن»  لسلمى الغزاوي

مساهمة في حرث تربة روائية مغربية  بصيغة المؤنث ، صدر للكاتبة  سلمى الغزاوي عن فضاءات للنشر والتوزيع بالأردن،  منجز روائي جديد اختارت له من الأسماء «قبل النهاية بقليل حيث كل شيء ممكن» بعد  مراكمتها لعناوين روائية وقصصية، فضلاً عن ترجماتها الروائية والقصصية والشعرية .

 

تقع رواية «قبل النهاية بقليل حيث كل شيء ممكن» في 264 صفحة من الحجم المتوسط، يتقدمها غلاف قشيب  أثبت في أعلاه اسم المؤلفة سلمى الغزاوي بلون أبيض صغير وفي أسفله العنوان «المركزي وهامشه» بلون أبيض غليظ، وزينت ما تبقى لوحة دالة لجندي بخوذته وسلاحه الناري، مما يبرمج المتلقي لاستقبال نص روائي يتحدث عن الحرب والنهايات، وهو يعلن عنه العنوان لتعضده صورة الغلاف.

حكاية الرواية
وعليه، تحكي الرواية عن الجندي المهزوم والمعطوب «قيصر» الذي  نجا من رحى الحرب بأعجوبة، يعود إلى مدينته ليفاجأ بقتل والديه وانهيار المنزل فوق رأسيهما جراء زلزال ضرب البلاد والعباد، ولينقذه  «يعقوب» من تيهه وشروده فيأويه ويعامله كابنه الذي ابتلعته ظروف الحرب، وإثر كذبة بلقاء ادعى من خلالها «قيصر»  أنه رأى في حلمه والده الذي يوحي إليه بأنه المنقذ من هذا الوضع المفعم بلغة الموت.
وبذلك يترسخ في ذهن  «يعقوب» أن «قيصر»  هو المخلص  والمنقذ من هذا الخراب والعتمة، وهو ما فتح له الباب على مصراعيه ليصبح أميرًا ويتخذ له قلعة ملجأ لتصريف وتجسيد كذبته البلقاء، وتحت شعار «هنا كل شيء ممكن»، مما يغري كل المتضررين والحالمين بالخروج من هذا الدمار والالتحاق بالقلعة الحلم تحت شعار «كل شيء ممكن». بيد أن أفق انتظارهم ريثما سيتكسر، حيث يتحول  «قيصر» إلى حاكم مستبد والقلعة إلى  مسرح لاغتيال واغتصاب واعتقال المعارضين في السراديب الحالكة، إلى أن تنتهي الرواية بمقتله، تساوقا مع إشراقة تعم الكون، ومن ثم عودة الحياة إلى لحظتها السعيدة.

دلالات تأخذنا الرواية لها
والواضح أن هذه المضامين والأحداث ليست سوى علامات لشروط سوسيوثقافية وسياسية وفكرية مختلفة، ألقت بظلالها على البناء الموضوعاتي للرواية وتشكيلها الفني،  من قبيل الحروب والثورات وما ترتب عنها من احتجاجات ومن إزاحة للأنظمة الديكتاتورية من أجل ترسيخ للقيم المنشودة ومقولات الثورة.
ومن ثم كانت الرواية مرايا للحروب والمبادئ التي بشر بها الربيع العربي، بحس نقدي متشوق إلى عالم بديل يتخلق في تضاعيف السرد والتخييل.
وعطفًا على ما سبق، تراهن الرواية  على  ثلاث أنفاس روائية:
- ما قبل النهاية. 
- تراجيديا النهاية.  
- ما بعد النهاية. 
 ويمكن تتبع هذه المحطات كما يلي:
ما قبل النهاية:  في هذا النفس من المحكي الروائي، تراهن الكاتبة على حدث اللقاء  بين «قيصر» و«نوح»، وكل هذا يحكمه إيقاع الحرب والدمار والموت، وبموجبه يرتهن «قيصر»  إلى استدراج إلى المنزع الروحي، والانصياع لعقلية الشيوخ والأولياء، أو صنع ولاية جديدة، عبر أدوات وأساليب ماكرة، بدءًا بالحلم الذي رأى فيه «قيصر»  والده «داوود»: «يالها من رؤيا عظيمة وبالها من عناية إلهية كبيرة بهذه المدينة المقدسة، الشامخة حتى نهاية الأزمان «لوميناريا ص56»، مرورًا بالدهاء وانتهاء بالتربع على كرسي السلطة داخل القلعة.
هذا الحلم باللحظة السعيدة ريثما يمسي مختلفًا، وينقلب إلى كابوس يتحكم في خيوطه «قيصر»، إذ يستفرد بالسلطة، ويعيث فسادًا واغتصابًا  وعربدة، حد تلبس السلطة بالرغبة والقمع والعنف، نقرأ على لسانه في الصفحة 169: «قبل أيام، ربطت علاقة جديدة مع ناجية الصغرى، حلت محل عشيقتي صوفيا التي بلغني أنها مريضة منذ رؤيتها لجثة ماريا المجنونة، ونقرأ أيضًا: أضرب بقبضتي على المنصة، وأصيح بكل ما أوتيت من غضب:  
«إسكندر، أيها الحراس، ألقوا القبض حالاً على الشرذمة التي تحاول إشعال فتيل الفتنة في مجتمعنا الآمن». كل هذا المناخ القاتم والخانق من شأنه  المساهمة في تأجيج الوضع بالتئام جماهير مجتمع الناجين، لتتوالى الاحتجاجات: 
- لا للاستعباد، لا للاستبداد.
- «حريتنا وكرامتنا هي الفصل الأول والأساسي في قانوننا العرفي» ص 174، هذه الوضعية الاحتجاجية التي يتزعمها  المهندس «لامي» ضدًا على دسترة «قيصر» لاستبداده وتحكمه في الرقاب، وأفرزتها وحتمتها ثقافة القمع والتصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى هوى «قيصر» وديكتاتوريته السادية: «كما سمعت أيها المختار، هؤلاء الناجون قالوا لا لميثاقكم» ص175.
تراجيديا النهاية: هاهنا، تصبح العلاقة حادة ومتوترة  بين «قيصر»  وبين محيطه  الذهبي «نوح، يعقوب»، ومجتمع الناجين، بعد أن طفح كيل الاستعباد وبعد  تفجير المسكوت عنه في الكواليس، ومن ثم، إزاحة  اللثام عن القبضة الحديدية لوجه القيصرية  القاتم والبغيض، ولا مفر سوى التخطيط لمحاربة قائدها وإزاحته للتخلص منه  وإزالته من  قبل من صنعوه «يعقوب، نوح»، وقتله من قبل الجماهير الناجية، لأن دوره المناط به قد انتهى، وفي مشهد  تراجيدي مأساوي: «يواصلون سحقه بأقدامهم، احتضاره طويل وموجع، من كان ليتصور أنه سيأتي يوم يداس فيه الأخ القائد المختار القوي «قيصر» بأقدام أتباعه» ص246 .
هذه النهاية التراجيدية صورة دالة على أن «قيصر» لم يفكر يومًا في فهم مجتمع الناجين،  لأنه كان يعول على القهر والعنف  والمكيدة ولم يخطر بباله أن كل هذه الماكينة القمعية ستنهار  في يوم من الأيام أمام إرادة الناجين.
ما بعد النهاية: في هذا النفس الأخير من الرواية  «ينخرط القارئ في فسحة جديدة من الحكي على لسان «نوح» الذي  يعلن بعد أن سكن لهيب المرحلتين السابقتين الملغومتين والمتوترتين، أن ما حدث ليس سوى رواية - شهادة، عايش أحداثها الواعدة لكنها انقلبت إلى تراجيدية مأساوية: «لم يكن تأليف هذه الرواية - الشهادة التي ستكون بين أيديكم قريبا بالأمر الهين، لأنها تحكي عن تجربتي وتجربة كل الناجين من أبناء «ماسينا» في مجتمع «نوكتورنوم»، تحت قيادة المختار قيصر هذه التجربة التي كانت جد متفردة وواعدة في البداية، لكنها للأسف انقلبت إلى تراجيديا في النهاية» ص259 .
وبرغم تبدل أحوال مجتمع الناجين وانتقالهم  إلى حياة جديدة،  يبقى هاجس «قيصر» حاضرًا في الذاكرة عبر أسطرته أو تقديسه  رغم نهايته التراجيدية فقد: «تحول إلى قديس شهيد عند البعض وأسطورة عند البعض الآخر رغم أزيد من أربع سنوات على رحيله» ص262.
ولم يكن عجيبًا أن تكون الرواية مشتلاً تجريبيًا يحتضن تقنيات التجريبية الممكنة لتجديد ماء الحكي والمضي به إلى نحو أفق الحداثة.
وعليه، لم تتبن الكاتبة شخصية رئيسية ومركزية لتحكي عن نفسها وعن شخصيات أخرى، بل منحت الحرية لكل الشخصيات البارزة «قيصر، نوح، نادرين، يعقوب» وأعطتها قيمة فوق رقعة الرواية،  لتحكي عن تجاربها بضمير الأنا، وتعبر عما شاهدته وسمعته من موت وعانته من فقر ومحن وجنون وقهر.
وبذلك تكون قد تمرد ت على السارد التقليدي، المتحكم والمستبد  بخيوط المحكي، ولعل هذا التمرد للسارد الجديد على السارد القديم والأبوي، لا يعدو أن يكون صورة للتمرد على «قيصر» المتحكم  والسادي والاستبدادي، ومن ثم، التمرد على وضعية قديمة  تعتمد ثقافة التمويه والتغليظ والعنف، من أجل وضعية جديدة لأجل الوعي والتحرر من عنق زجاجة القلعة.

تناغم لغة السرد
وعطفًا على ما سبق، تتميز رواية «قبل النهاية بقليل» بتعدد الأصوات الساردة، وبعدم وجود سارد يحتكر الحكي، لينقسم السراد  إلى ساردين، سارد خارج نصي وسارد داخل نصي، وأما الداخل نصي، فتجسده كل الشخصيات بكل اختياراتها ومواقفها، حيث تناوبت على عملية السرد بشكل ديمقراطي، ومن السراد الذين كانت لهم مساهمة فعالة في تأثيث السرد، وإخراح هذا المحكي للحياة، هناك نوح الصحافي والروائي. وما يلفت نظر القارئ لهذه الرواية  هو  شعرية  لغتها التي تنكشف من خلال إيحاءاتها والسمو بها بعيدا عن السطحية والتقريرية، ومن تجلياتها الصور الفنية المبنية على التشبيه والمجازات والكنايات من قبيل:
«ألاحظ التجاعيد الكثيرة التي جعلته يبدو كعجوز طاعن في السن» ص30.
«أحس ببوادر الإماء، أعبر نفق الذاكرة وأرى «لارا» ترتجف» ص34.
«أغرق في يم عينيها ثم أعرج على منحنيات جسدها النضر» ص115.
«كان ذنبهم الوحيد هو محاولة الهرب من هذه الجنة التي استحالت سعيرًا» ص 250.
والمتابع لهذه الشواهد النصية، يدرك مدى اتكاء الكاتبة على التشبيه والمجاز والإيحاء والتكثيف  والصور الشعرية، ومثل هذه الصياغة اللغوية من شأنها تجسيد المغزى الكامن وراء تلك العبارات التي اشاعت في كثير من مقاطعها روحا شعرية.
كما مكنت الطبيعة المركبة للرواية من استثمار عدة حقول معرفية، من قبيل الحضور البارز للشعر باعتباره واحدا من مظاهر التعدد اللغوي، نقرأ المطلع التالي من قصيدة بالصفحة 60:
«أنظر إلى الفوضى العارمة حولي وأرى
أرى الناس يتلون صلواتهم الأخيرة 
وهم ينتظرون نهايتهم المحتومة
أسمع جرس المعبد يدق دقاته الأخيرة» 
ولقد أوردت الكاتبة هذه القصيدة للتعبير عن هذه الفوضى التي أمست منظمة، والأكثر منه  تلوين الحكي وشعرنته، وهذا من شأنه اصطياد القارئ جماليًا لمتابعة المحكي واستهلاكه بنكهة شعرية.
ومجمل القول،  إن سلمى الغزاوي بدأبها على الكتابة والترجمة أثبتت أنها مبدعة أصيلة  ودؤوبة، وأن منجزها «قبل النهاية بقليل حيث كل شيء ممكن»، نص روائي خارج من جبة هذا الزمن العنيف والساخن والمسكون في عمقه بالحروب الصغيرة والكبيرة، والأعطاب الثاوية في تجاويفه التي تقتضي الاقتراب من حقائقها وأسئلتها ■