شعريّة التشظي وكتابةُ الذَات

شعريّة التشظي وكتابةُ الذَات

  الشعر من حيث هو إبداع وهجس واختراق و«معبر لتنمية الإنسان والسمو بذوقه والتعبير عن أحاسيسه وإصغاء لهسهسته. فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان. فمهما كان الرهان مركزًا على تمهيره وتسليحه بأدوات إنتاج عيشه، وتمكينه من آليات تجاوز هشاشته الاجتماعية، فإن الهشاشة الرمزية التي يمثلها فراغه الروحي والوجداني وعجزه على تمثل جوانب الخلق الفني في العوالم التي تحيط به وتحتويه هو من أشد الإعاقات الخطيرة التي قد تفضي به إلى أي تطرف محتمل»، فإنه مُطالب دائمًا بالإنصات لنبض الإنسان فينا، والنهوض بأعباء الوجود والحياة والتدبر في أسئلته الحارقة والمتعددة، خصوصًا أن في ظل «الجدل الدائر حول تفوق الرواية على الشعر أو العكس في وقتنا الراهن جدلاً عاطفيًا ينحاز فيه المرء لموقعه الأدبي أو ميوله القرائية». 

 

إننا نُقرُّ بـ«نخبوية الشعر» في الوقت الراهن قياسًا بالرواية، لذلك، فإن جمهور الشعر بدأ في الانحسار وانكفائه على الشعراء والشغوفين بالقراءة فحسب. مناسبة هذه الغطسات السريعة في شجون الكتابة الشعرية، هو هذه الهوة الآخذة في الاتساع بين الشعر وجمهوره، خاصةً أن كل المعطيات تشير إلى تراجع مهولٍ بين قُرَّاءِ الشعر والمهتمين به، ومع ذلك، نحن في حاجة إلى الشعر. 
أليس الشعر رئة ثانية يَتَنَفَّسُ بها الإنسان العربي منذ العصور الغابرة؟ أليس الشعر «توقيعًا شخصيًا» لثقافتنا العربية كما ذهب إلى ذلك الناقد صلاح بوسريف؟ صحيح، أن الشعر، في وقتنا الراهن يعيش حالة جمودٍ وانكفاءٍ وعزلةٍ، خصوصًا مع «الاستسهال» في الكتابة الشعرية، خاصة مع ظهور ما بات يُعرف بـ«قصيدة النثر»، لكن، ما يزال في النهر صيرورات تؤسس لمستقبل الشعر العربي، وهذا الوضع يقتضي منا، كلُّ واحدٍ من موقعه الخاص مواكبته بالنقد والمساءلة، فهي «مطالبة اليوم قبل أي وقت مضى بضرورة البحث عن آمادٍ أخرى تحتضنها، وتحتضن رؤاها الجديدة، لكن، يجب أن نعترف من باب الإنصاف على الأقل، أنها أحدثت خلخلة في الشعرية العربية، بفعل طاقاتها التفجيرية التوليدية، وأظهرت مدى السعي الحثيث الذي سعى إليه روادها الحداثيون من أجل خلق دينامية جديدة في القصيدة»، إلا أن ما يُمَيِّزُ هذه التجربة الشعرية الجديدة، هو جنوحها نحو «شعرية التشظي»، حيث القلق والتذويت والتيه والتلاشي، وهذه علامات تنطوي على تحولات اجتماعية وثقافية وفكرية وسياسية شَهِدَهَا العالم خلال العشريتين الأخيرتين، فالإبداع دائمًا وأبدًا، يظلُّ في ارتباطٍ وثيقٍ مع الشروط المجتمعية والأيديولوجية التي تُوجِّهُ الإنتاج الأدبيّ، وتخلق عوالمه الخاصة وتزيد من ديناميات فورته التخييلية والدلالية والنَّصيّة، فلا بد من توفر قناعة «وجود دلالة اجتماعية - أيديولوجية في كل إنتاج أدبي مهما كانت خصوصيته الشكلية والمضمونية»، على هذا الأساس، نعتقد أن التَّجربة الشعرية الجديدة تخوض رهاناتها ومُقترباتها من خلال كتابةٍ تعتمد على الهدم وإعادة البناء. 
هدم القوالب الشعرية المألوفة وبناء نصيّات شعرية مُحايثة للذات في انشطارها وتمزقها، مما يجعلنا نلحظ تلك السمات على مستوى الكتابة، وفي هذا الصدد، يرى الناقد عبداللطيف الوراري أن أهم رهانه تنطوي عليه هذه التجربة هو «الانهمام بالذات في صوتها الخافت والحميم، وهي تواجه بهشاشتها وتصدُّعها الأشياء والعالم واختلاطات الحياة اليومية، بدلا من معضلات المجتمع وهواجسه الحرَّة. وقد ترتَّب على ذلك تذويت الملفوظ الشعري وشخصنة الموضوعات والصور والمواقف من الذات والكتابة والوجود»، إلى جانب توظيف لغة بسيطة، أقرب إلى لغة اليوميّ منها إلى لغة الشعر، ثم النزوع نحو تشذير القول الشعريّ، وهذه خصوصيات نلمسها في الكثير من التَّجارب الشعرية في اختلافاتها وتبايناتها، لكن، تبقى لكلِّ تجربةٍ شعريةٍ خصوصياتها وهواجسها، ومن المهم أن نشير هنا، إلى أنها تعتمد في بنائها الدرامي على تصدُّع الداخل والانشطار الذاتيّ، كما أنها «تنطوي على مبدأ التجريب اللا محدود في اللغة والأشكال». 

هاجس الانتماء
بهذا الوعي المُصاحب لعمليّة تشكيل المعنى، تُقايس هذه التَّجربة راهنها الشعريّ وتخوض إبدالاتها تحت هاجس الانتماء لهذا الأفق المتراحب الممتد في فضاء الشعرية العربية، فلا غرابة، أن نراها تُيَمِّمُ شطر مغامرتها نحو ابتداع طرائق مبتكرة للقول الشعري، فـ«القصيدة الحديثة نوع من الكشف والارتياد، بمقدار ما هي نوع من المعاناة والجهد المضني. إنها بالنسبة للشاعر مغامرة يحاول خلالها أن يعيد اكتشاف الوجود»، فالرهان على كتابة الآلام الوجودية، هو بمثابة إجراء يُسهم في بناء الحافزية الشعرية وفاعليتها في مجابهة قسوة العالم وفداحة الزمن وعزلة الشاعر في عوالمه الصقيعية السفلى، من هنا، تصير الكتابة تشظيًا ذاتيًا ومشيًا فوق الأشواك، بهذا المعنى تصير الكتابة كشفًا عن المعاناة الفردية، فـ«حرارة التجربة من حرارة المآل الشخصي الأليم»، وهكذا، فإن هذه التَّجربة الشعرية، مهما كانت التَّسميّة التي تُؤطِّرُها، فإن تُعبِّر عن مضايق كتابيّة جديدة، لذا، فهي تشتغل وفق استراتيجية البحث عن ملاذات آمنة للبوح الشعري، ومُحاولات تشكيل المعنى بالارتكاز على شواغل الذات والانهمام بعذابات الوجود المضاعفة، وعليه، تصير حاضنةً للوجع الإنساني في أعمق تجلِّياته، حتى تستكمل شرطها «الاشتغالي الحي على أرض المخيلة الحافلة ببذور الإنتاج الجمالي»، فعمل الشاعر هو الانتصار للجمال وللقيم الإنسانية الأثيرة، وهو في ذلك ينتصر على هذه الذات المهزومة، المكتوية بصراعات العالم، كما أنَّه دائم الاتَّصال مع العناصر الحميمة الخفيّة كنوعٍ من الكشف والارتياد، ولا شك أن هذا الدور الذي يقوم به الشاعر من شأنه أن يُسَبِّبَ نوعًا من المعاناة والإرهاق والجنوح نحو العزلة والصراع مع صمت العالم، ومع «اللاوجود لنجبره على أن يمنح وجودًا، ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى. 
إننا نأسر المساحات التي لا حد لها في قدم مربع من الورق، ونسكب طوفانًا من القلب الصغير بقدر بوصة». إن الشعر المغربي بما يُمَثِّله من حساسيات كثيرة تتوزَّع بين الكتابة التقليدية والشعر التفعيلي، ثم (قصيدة النثر)، ينشغل بهذه الأسئلة ويبحث لها عن أجوبةٍ شافيةٍ، ما يزال في حاجةٍ ماسةٍ إلى طرق جمالياته واستئناف التفكير فيه بطرقٍ جديدةٍ، فإن الرهان هو الإصغاء الجيد لنبض النَّصيّات «بعيدًا عن الإسقاطات المفاهيمية الجاهزة، والتي من شأنها خنق النص ومحاصرته بترسانتها النظرية»، فالإنصات الجيِّد للنص بإمكانه أن يُقرِّبنا مع مكامن الجمال ويقودنا إلى معرفة جديدة، والشعر المغربي بكل ألوانه وأطيافه مدعو إلى المزيد من الحفر العميق في سيروراته المتشعِّبة وإدراك كل المقتربات الشعرية، «ولكي لا ندخل في جدل حول الذوق، نرى أننا لا يمكن أن نعبر بلا قاعدة عين الأنظمة أو المعايير التي نقوم بواسطتها، بعملية التقويم النقدي، وإذا لم يكن بمقدورنا تعليل إعجابنا، ونفورنا، فإننا نكون بالتأكيد في حاجة إلى النقد ليسعفنا في ذلك، حتى نعي، أو نقدم تقييما جماليا للنتاج الفني، ونظريا للتعرف عليه. ومن خلال (النقد الفني) تظهر فعالية النظرية الجمالية». 

البحث عن الجوهر
لقد استطاع شعراء هذه التَّجربة الجديدة أن يرتقوا بالممارسة الشعرية من خلال مقترحاتهم وحسهم الجمالي، ذلك أن «جوهر الشعر هو الجمال، فإن غايته هي بحث دائم عن هذا الجوهر، ليس من أجل محاكاته وتمجيده، ولكن، من أجل إدراكه والتماهي فيه، وهو ما يعني أن الوجود المنشود هو وجود بالجمال، وإذا كانت سلطة الشاعر هي الرؤيا، فإنه دائم البحث عن هذا الجوهر»، بهذا التَّصور تُسجِّلُ هذه التَّجربة حضورها النوعي في الأفق الشعري المغربي وتتداخل مع الحياة والذوات والأشياء والرؤى والقيم، فتكشف عن تغيُّرٍ في المعنى والمبنى، في الشكل والمضمون، في مسعى إلى اكتشاف العالم وصوغ مُقاربات جديدة، «ويحق لنا، وسط هذه الغابة وارفة الظلال التي يضوع عبقها في كلّ الأنحاء، أن نتكلَّم عن راهن شعري خصيب يعبر الأفكار ومشاريع الرؤى ومُتخيَّلات الكتابة وذواتها مع ما للزمن من استحقاقات»، فالكتابة بهذا الوعي هو ما يُحرِّكُ كشوفات المعرفة الجديدة. 
معرفة ما لا نَمْلكُ وما نَتَمَلَّك في أفق إنتاج نصيّات جديرة بالرؤيا والكشف والمساءلة، «ولهذا يَتَحَتَّمُ علينا أن نقاربها بطرق مغايرة، خصوصًا في هذا العصر الهائل من انفجار المعرفة»، ونحن إذ نضفي صفة المغايرة والاختلاف على هذه التجربة، رغم ما يعتور إبدالاتها من تشظٍ وانشطارٍ وهشاشةٍ وقلقٍ وتشذيرٍ وبساطةٍ في اللغة وانهمامٍ بالذات وانفتاح على السرد، وغيرها من الأمور التي تنم عن تحولات كبرى في شعرياتها، إلا أننا نقرُ، من جهةٍ أخرى، أنَّها تتوفر على طاقات تخييلية وبنائية غير مألوفة ■