قصر الباهية تحفة معمارية في قلب مراكش المغربية

قصر الباهية  تحفة معمارية في قلب مراكش المغربية

في صباح من صباحات مراكش الساحرة... ومن جنات الزيتون - فندق سياحي بالمدينة -، حيث كان المستقر حيث كنا ننعم بالهدوء والسكينة، مستمتعين بزقزقة العصافير وأشجار الزيتون المباركة التي تغطي مساحات شاسعة من فضاء حديقة الفندق، وكأنك في بساتين غناء وليس في منتجع سياحي. من جنات الزيتون، انطلقنا نحو وسط المدينة متوجهين لزيارة قصور المدينة التاريخية، فتوجهنا في البداية نحو القصر البديع، سافرنا معه نحو العصر الذهبي للدولة السعدية عهد المنصور الذهبي (1578-1603)، فبقاياه شاهدة على ما وصل إليه المغرب من قوة وعظمة في زمانه. 

 

بعد الوقوف على مرافق هاته المعلمة التاريخية، توجهنا غير بعيد عن المكان حيث الدكاكين والمنازل وحركة المارة، وفي زقاق تجد لوحة كتب عليها «قبور السعديين»، حيث يرقد سلاطين هاته الدولة ورجالاتها، وتبرز فيها معالم العمارة المأتمية المغربية، إلا أن المكان مازال يحتاج لنوع من الاهتمام من طرف القائمين على المحافظة وصيانة المآثر التاريخية بالمدينة. بعد جولتنا في مرافق هاته المعلمة واصلنا سيرًا على الأقدام لمدة وجيزة، لنجد أنفسنا أمام مدخل قصر الباهية، حيث لاحظنا حركة وإقبالاً غير عادي، غير الصمت والسكون وقلة السياح الذي لاحظناه في «قبور السعديين»، فالكل يخاف الموت ويرهب من رائحته ولو كان حتى بزيارة لقبور تحتفي بتاريخ دولة.
قصر الباهية... إنه سفر تاريخي لأواخر القرن التاسع عشر... امتزجت فيه العمارة المغربية بالعشق والحب والسعي لتخليده... اختلطت فيه السلطة والمال بالرقي والجمال... إنه أحد أجمل قصور مراكش التاريخية، فهو جامع لفنون العمارة المغربية بتلويناتها المختلفة.
سنحاول في هذا السفر التاريخي، التعريف بقصر الباهية الذي يعد تحفة معمارية بامتياز... فما سبب بنائه وتسميته بالباهية؟ وما مميزاته وخصائصه العمرانية؟ 

في أسباب البناء والتسمية ومراحله
يعد قصر الباهية من روائع العمارة المغربية، وتشير السجلات إلى أن والد أحمد بن موسى الملقب بـ«باحماد» الذي شغل وظيفتي الحاجب والصدر الأعظم زمن السلطانين محمد الرابع (1859-1873) والحسن الأول (1873-1894)، هو أول من أمر ببناء القصر، ثم جاء ابنه أحمد بن موسى وزير السلطان عبدالعزيز  (1894-1904)، ليتمه على مساحة تصل 22 ألف متر أي حوالي 8 هكتارات. وأشرف على بنائه المهندس محمد بن المكي المسفيوي، وفرض الصدر الأعظم على المصممين أن يتم تشييد القصر على طابق واحد، لكونه قصير القامة ولا يقوى على صعود الأدراج، واستغرق بناؤه ست سنوات كاملة. 
وسمي بالباهية، تمجيدًا لذكرى زوجته «باهية الرحمانية» التي عرفت بحبها وودها لزوجها فأراد أن يكون قصر الباهية تعبيرًا عن حبه لها وإخلاصه لها فجاء في هيئة هندسية بهية وفريدة، ما يعكس أهمية المرأة في تاريخ مدينة مراكش، فلحظة تأسيسها ارتبطت بزينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين المرابطي، وقصر الباهية كتحفة معمارية ارتبط بالوزير باحماد وزوجته المفضلة «باهية» ما يعكس دور المرأة في نشأة وتطور مراكش ومعالمها.

قصر الباهية تحفة فنية معمارية 
وأنت تلج باب قصر الباهية، فإنك تلج الجمال والمنظر الطبيعي ورونق العمارة المغربية العربية الإسلامية، فقد جلب له صاحبه أمهر وأفضل الحرفيين والصناع من مختلف ربوع المغرب. فتبارت في تشكيله وتصميمه، مواهب الزلاج والجباس والزواق. فقاعة تفضي بك إلى أخرى، وبينهما فناءات ومنتزهات وحدائق وأحواض، تزيدها جمالاً وبهاء فسيفساء وألوان الزليج وأنواع الرخام الرفيع، والأسقف المزخرفة والنقوش والزخارف الفريدة والمتنوعة، والأعمدة والأفاريز الخشبية والنقوش الغائرة في الجبس متصاعدة مع الجدران حتى تقارب السقوف، يكسوها رفيع الأرز المموه بمفاتن الزخرفة المغربية الأصيلة تسطيرًا وتوريقًا وتشجيرًا، في أوضاع يشترك فيها التذهيب مع مختلف الألوان والأشكال. أما نوافذ القصر، فمفتوحة على الحديقة الداخلية، بل لكل زوجة من زوجاته الأربع غرفتها المزينة بلون خاص على مساحة كبيرة حتى لا تفكرن بمغادرتها.
يحتضن قصر الباهية على أرضيته وجدرانه وأسقفه، تطور العمارة والهندسة في بلاد المغرب. ففيه تظهر العمارة الإسلامية الأندلسية واضحة، مع مزيج من الفنون الأوربية خصوصًا الإيطالية والفرنسية، ما أضفى على القصر رونقًا خاصًا وجعله تحفة معمارية فريدة.

من سكن خاص إلى مزار سياحي
قصر الباهية، في أصله هو سكن شخصي للوزير أحمد بن موسى الذي توفي سنة 1900 قبل نهاية الأشغال به، والتي امتدت لست سنوات متتالية، ليتم نهب محتوياته من طرف عبيد القصر حيث استولوا على كل ما امتدت إليه أيديهم، كما تصارعت نساؤه حول خزائنه وأصول أملاكه الكثيرة. لكن السلطان المولى عبدالعزيز، الذي بكى في جنازة صدره الأعظم ومساعده على الوصول إلى الحكم وهو طفل صغير بعد وفاة المولى الحسن الأول، أمر بعد نهايتها بتتريكه حيث أصدر ظهير مصادرة جميع أملاكه، فتم ضم قصر الباهية للقصور الملكية. 
استقر به إلى حدود سنة 1906 باشا مراكش التهامي لكلاوي الذي بنى به طابقًا علويًا اتخذه مقرًا له، وبعده سكنه الوزيرالمقري إلى حدود سنة 1912 حيث فرضت الحماية الفرنسية على البلاد بمقتضى معاهدة 30 مارس، ليتخذه المقيم العام ليوطي مقرًا له. بعد وفاته، وضع القصر تحت تصرف الضباط الفرنسيين، وتم تصنيفه كمعلمة تاريخية وفق ظهير 4 يوليو 1922 الخاص بالمحافظة على الآثار، الذي عزز بظهير 21 يناير 1924 الذي صنفه ضمن المباني التاريخية والتحف الفنية التي يجب حمايتها.
بعد الاستقلال، سكن السلطان محمد الخامس قصر الباهية، وأصبح مقرًا لمؤسسة التعاون الوطني، والآن هو تابع لوزارة الثقافة المغربية باعتباره مزارا تاريخيًا وثقافيًا وسياحيًا، يعكس الهوية المغربية وفنون العمارة المغربية الإسلامية، كما يتم استثماره كمكان لتنظيم الملتقيات الثقافية ولاستقبال الضيوف الخاصين والشخصيات الأجنبية المميزة.
هكذا تحولت وظيفة قصر الباهية من سكن خاص لمزار سياحي، يقصده السياح سواء المغاربة أو الأجانب كفضاء تجتمع فيه مجموعة من الفنون المعمارية المغربية الأصيلة وأصالة وأناقة وإبداع الحرفيين والصناع المغاربة.
نافلة القول، يعد قصر الباهية رمزًا للعمارة المغربية العربية الإسلامية في عهد الدولة العلوية، فهو تحفة هندسية عمرانية فريدة بهية، تعكس ما وصلت إليه فنون العمارة المغربية من جبس وزخرفة ونقش على الخشب والزليج... من تطور ورقي وشأن، ويعكس خصوصياتها ومميزاتها خلال تلك الفترة. وهو اليوم يمثل متحفًا عمرانيًا مفتوحًا للتعريف بهاته الفنون، وبمهارة الحرفي والصانع التقليدي المغربي، مساهمًا في الحركة السياحية للمدينة إلى جانب باقي المعالم التاريخية الأخرى مما جعل من مراكش قبلة للسياحة العالمية■