الرحيل إلى كوكب آخر

الرحيل إلى كوكب آخر

- لا يزاحم بعضكم بعضًا! إن من شروط الرحلة الانتظام!

هكذا سرى بينهم.. الصوت، الصدى. كانوا شيوخًا، ليس بينهم مَن لم يتجاوز السبعين، فهذا شرط أول، كانت قد تصاعدت منهم احتجاجات متواصلة، كيف يدركنا الفناء ونحن في عز العطاء؟ صرخة توافقوا على أن يطلقوها عاليًا، تلقّوا بعدها صدى يفيد بأن معجزة سوف تتحقق لهم، أن يعودوا إلى عهد الشباب الجميل!

بعد أن استقرّوا في مقاعدهم، وتأهبت المركبة للإقلاع، تعاظم عندهم التساؤل، إلى أي مجهول نحن ذاهبون؟ فقالوا: الشيخوخة شقاء، والموت القادم فناء، وأيّ ضير في أن نصدّق ما وعدوا!

لحظة تحرّكت بهم المركبة، شعروا وهم في مقاعدهم الوثيرة، بأن شيئًا ما بدأ يسري في عروقهم، في أجسادهم، تبادلوا النظرات، والملاحظات، الوعد يصدق، التغضّنات في الجباه تختفي، البياض، الذي يجلل الهامات، ينقلب إلى لون الليل، العيون تلتمع، وتنتصب القامات، وقبل أن يغادروا، كانوا قد استووا شبابًا ينضح عبيرًا أخّاذًا، ثم سمعت قرقعة العكاكيز وهي تُرمى، تتساقط، على أرض المطار!

حافلات فارهة، تتهادى في شوارع عريضة، انتهت بهم إلى ما يشبه الضاحية، قد نُثرت في حدائقها الدارات، ويدخل كل منهم دارة قد خصصت له:

- هنا، يتوافر لكم كل شيء، عند الضرورة اطلبوا الرقم (9) نستجب!

الحلم العظيم يتحقق، شباب يستعاد، وخبرة عمر تستفاد.

لم يستطيعوا البقاء حيث أخلدوا إلى الراحة، أطلوا من الشرفات، تهاتفوا، ثم نزلوا للاجتماع في فضاء الكوكب الجديد، يتعانقون من فرح.

- إهاب الشيخوخة طرحناه، وعلى أرض ذلك الكوكب ألقيناه!

- لسوف نعيش، هنا، مدى الدهر، سعداء!

-.. ولن ندع للخلاف بيننا موضعًا!

دُعوا إلى تناول الطعام، موائد مرصوفة، ومآكل موصوفة.

وعند المساء التأم شملهم، ثانية، في المغاني الجميلة، واستفاضوا في الأحاديث العذاب.

عندما أفاقوا في الصباح، تنبّهوا إلى أمر كان قد غاب، العمل! ما العمل الذي يؤدّون؟ أم هي البطالة، هنا، والعطالة؟!

- يمارس كل، في هذا الكوكب، ما كان يعمل في الكوكب الأول. فإن لم يكن عمله هناك مريحًا، يسّرنا له آخر يرتضيه.

ونزلوا إلى ميادين العمل.الفلاح يفلح، العامل يعمل، الطبيب يطبّ، الكاتب يكتب، الرسّام يرسم، والفنان يعزف على الأوتار، ويغني، ويملأ القلوب طربًا.

مارسوا الرياضة، متجاوزين المشي والهرولة، إلى ألعاب القوى المختلفة، فقد عادوا شبابًا ذوي زنود مفتولة.

والتلفاز لم يغفلوه، فهم يتواصلون مع الحياة في بلدهم، وفي سائر أقطار الدنيا، وتواصلوا كذلك، عبر الهاتف والإنترنت.

وماذا بعد؟

تنبّهوا مرة أخرى

- زوجاتنا، رفيقات عمرنا، تركناهنّ هنالك!

يا للعقوق! لقد أنساهم إياهنّ فرط أشواقهم للارتداد إلى الشباب!

صرّحوا علانية:

- ولكننا نريدهن أن يأتين إلينا.. وهنّ في عزّ الصبا!

ويوم تجمّعوا في المطار، وضعوا الأيدي على القلوب وهم ينتظرون بروزهن في باب المركبة، أطلّت الأولى، بوجه قد جلّله الشعر الأشقر، فما عرفوا، أهي شقرة من صنع الخالق، أم صبغ حنّاء؟ فلما تقدّمت، رأوها ترفع عكّازها، ثم ترميه على الأرض، وتلاحق رمي العكاكيز.

صفّقوا لزوجاتهم «الشابّات»، ها هنّ أولاء يخطرن مختالات كأنهن في موكب أمام محكّمين لاختيار ملكة جمال الوطن، أو القارة، أو الكون!

وعمّ العناق، بعد فراق خاله الجميع دهرًا.

في هذا الكوكب عاشوا أزواجًا سعداء، ولكن دون أن يمكنهم أن يصبحوا آباء لأطفال ينجبونهم ههنا، فإن العجوز - قالوا - التي اختزل من عمرها النصف، يستحيل عليها أن تحمل أو تلد.. لولا أن سرى بينهم يومًا، أنّ زوجة من الزوجات قد حملت، ثم آن لها أن تضع صبيّا.

وقال أهل العلم في ذلك؟

- إنها «البويضة الهاربة»!

وما تكرّر هرب البويضات.

وكنّوا الوليد بـ «ابن الكوكب». وتساءلوا: عندما يبلغ الولد سنّ الزواج من أين له أن يحظى بـ«بنت كوكب» تناسبه!

سعداء عاشوا..

عام يهل، وعام يمضي. يعملون، يبدعون، مستفيدين من تجاربهم المختزنة ومعارفهم المكتنزة.

أمرٌ ما، بات ينغص عليهم وجودهم في هذا الكوكب الجميل.

إنهم، في انقضاء كل عام، يكبرون عامًا!

إنها الشيخوخة، تلوح، وتتدانى.

يوم يبلغون السبعين، هل لهم أن يحلموا بالذهاب إلى كوكب آخر، يختزلون، عند الوصول إليه، نصف العمر الذي تقضّى؟!

ذلك ما بات يؤرقهم.

 

 

فاضل السباعي