سيمياء الماء على مر التاريخ

سيمياء الماء  على مر التاريخ

ارتبط الماء بالكائنات الحية منذ نشأة الكون، ونظرًا لأهميته القصوى في الوجود، فقد اتخذ مظاهر متعددة، منها ما يتصل بالتمثلات الأسطورية، ومنها ما هو مستوحى من المعتقدات الدينية لمختلف الأديان خاصة السماوية، ومنها ما هو نتاج التأملات الفلسفية.

 

الملاحظ أن تجليات الماء صبّت في معانٍ متعارضة: الحياة/ الموت، الرحمة/ الانتقام، العطاء/ الحرمان... وهلم جرا. كما أنه التصق بالإنسان بحكم الحاجة إليه، إلى درجة التقديس أحيانًا، وألهم المبدعين أفكارًا خلاقة في نصوصهم الأدبية والفنية المختلفة على مر العصور والحضارات.   
اكتسب الماء رمزيات متعددة على امتداد التاريخ، وتعتبر المياه مستودعًا لكل إمكانيات الوجود، إذ تشير إلى نشأة الكون، فكثيرة هي النصوص الدينية التي تتحدث عن انبثاق الحياة من الماء، ويشكل الطوفان حدثًا رئيسيًا يؤرخ لنشأة ثانية للحياة في العديد من الديانات، ويمكن مقارنته بالتعميد والإراقة الجنائزية وتطهيرات المواليد الجدد، أو الاستحمامات الطقوسية الربيعية التي تنتج صحة وخصبًا. ويفسر التعميد المسيحي كأنه تكرار طقوسي لحدث الطوفان الذي كان حدًا فاصلًا بين الإيمان ممثلًا بأصحاب نوح، والكفر ممثلًا بالذين امتنعوا عن الركوب في السفينة في الخطيئة الأولى؛ كما يفسر أيضًا بأنه تحقيق لولادة جديدة على غرار أبطال الحكايات والأساطير الذين يواجهون الغيلان المائية. 
ولكلمة «الماء» دلالات أخرى متعددة، مثلما يوضح باحث غربي، إذ يمكن أن يجسد الحكمة والمعرفة غير المحدودة؛ كما أنه رمز لمرور الوقت، ولكنه أيضًا رمز للأبدية، ويكون أحيانًا رمزًا للحرية، وأحيانًا أخرى للعزلة.
ويحتل الماء مكانة مركزية في معظم الأساطير الكونية وفي الحكايات التي تسعى إلى تفسير تكوّن العالم. إن سبب وجود العديد من الأساطير هو أن الماء كان دائمًا شرطًا لا غنى عنه لجميع أشكال الحياة على الأرض.
في كتاب «معجم الأساطير الأدبية» الذي نُشر عام 1988 تحت إشراف بيير برونيل، يلاحظ أن فكرة المياه الأم موجودة على مرّ القرون والحضارات، كالحضارة الفرعونية والبابلية، حيث تحتل مكانة مرموقة. ومن الواضح أن الماء يظهر في العديد من الأساطير الأخرى غير تلك التي تحكي عن خلق العالم. يستحضر أحد الباحثين الأساطير المتعلقة بالتطهير وعلاج الأمراض والأساطير الأخرى التي تتحدث عن انتقام إلهي على شكل طوفان، وكذلك الأساطير التي تشرح كيف اكتسبت مياه البحر ملوحتها، أو تلك التي تخبرنا كيف سيختفي العالم يومًا ما بواسطة الماء.

في الكتاب المقدس
إن وظيفة الماء في «الكتاب المقدس» لدى اليهود والمسيحيين هي، بالطبع، مجال يغري بالدراسة، فالماء موجود أولًا وقبل كل شيء. غالبًا ما يرمز البحر في «العهد القديم» إلى الشر، وهو شر استطاع الله التغلب عليه، فالمحيط يبدو «كائنًا مُعاديًا» وقد أخضعه الله لجبروته.
كما أن البحر، في «العهد القديم» هو سلاح يستخدمه الله لإظهار قوته، فهو أداة لمساعدة البشر الذين اصطافهم ومعاقبة المسيئين. في «تكوين» (7:11، 17، 19-23)، يرسل الله الطوفان الذي يقتل كل الناس ما عدا «نوح وعائلته». يخبرنا «الخروج» (14: 16، 21، 26-30) كيف جعل الله الفراعنة وأتباعهم يتعرضون لسلسلة من العذاب الذي يتعلق بالعنصر المائي: تحول السمكة إلى دماء فتخرج الضفادع من مياه النيل. عندما حرر موسى شعبه من السجن في مصر، قام بشقّ مياه البحر للسماح لليهود بالهروب من مُطارديهم الذين غرقوا فيما بعد. وحين شعر اليهود بالعطش أثناء سيرهم في البرية، أظهر الله إحسانه بإحضار الماء من صخرة حوريب («الخروج» 17: 6).
يستمر «العهد الجديد» في الرمزية التي تربط الماء بالشر، ولكن أيضًا بالخير. عندما يسير يسوع على الماء («مرقس» 48: 6-51)، يمكن تفسير ذلك على أنه انتصار على الشر والموت. وبالمثل، فإن «الدينونة الأخيرة» تعني نهاية البحر: «ثم رأيت سماء جديدة وأرضًا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض زلتا والبحر لم يعد» («رؤيا» 21: 1). «تنقلب رمزية الشر بعد بضعة أسطر، عندما يتعلق الأمر بالمياه العذبة والمنعشة: وليأتي العطشان؛ فليأخذ ماء الحياة مجانًا». («رؤيا» 17:22).
ويحتوي سر «المعمودية» على فكرة التدمير بالإضافة إلى فكرة إعادة الميلاد، لأنه يهدف إلى غسل الخطيئة الأصلية، وأن يولد ثانية ويعتمد في المسيح. لذلك، يوجد في هذا الطقس رمز للموت يليه قيامة: «ألستم تعلمون أننا جميعًا الذين اعتمدنا ليسوع المسيح، اعتمدنا حتى موته؟ فدفننا معه بالمعمودية حتى موته، حتى أنه كما قام المسيح من بين الأموات بمجد الأب، كذلك يمكننا نحن أيضًا أن نسير في جادة الحياة» («رسالة إلى أهل رومية 6: 3-4). «بعد أن دفنت معه في المعمودية، قمت أيضًا فيه ومعه بالإيمان بقوة الله الذي أقامه من بين الأموات» («رسالة إلى أهل كولوسي» 2:12).
وفق هذه الرؤية، يغرق المذنب أثناء غمره، أما الإنسان الجديد ــ المسيحي ــ فيتم إحياؤه في الماء نفسه. موت المذنب وولادة المخلَّص من جديد كعضو جديد في الكنيسة المسيحية: هذا هو معنى المعمودية. نرى أن الموت في الماء، في هذه الحالة، هو رمزي، لأنه يسمح بخلاص الإنسان. 

الفلاسفة الأوائل
بدأت إرهاصات الفلسفة اليونانية مع طاليس، أقدم الحكماء السبعة (625 - 547 ق.م) الذي قال إن الماء هو أصل كل أشكال الحياة. بالنسبة له، كانت هناك مادة بدائية ولد منها كل عنصر آخر، وهذه المادة هي الماء. بعده، قال هيرقليطس (حوالي 576 - 480 قبل الميلاد) إن «النفوس تزفر رطبة». ونسبت إليه أيضًا أمثال من قبيل: «كل شيء يتدفق» و«لا يمكننا أن نستحم في النهر نفسه مرتين»، وهي أمثال توضح فكرته عن التدفق الدائم لكل شيء.
وبالمثل، في نشأة الكون لدى أناكسيماندر، يلعب الماء دورًا رئيسيًا، فقد زعم هذا الفيلسوف على سبيل المثال أن الأسماك والكائنات السمكية الأخرى نشأت من خليط من الماء الدافئ والتربة.
وهكذا، تكون الارتباطات التي يثيرها الماء في التقليد «الهيليني» إيجابية إلى حد ما. إنه العنصر الجوهري الذي يولد الحياة. ومع ذلك، يمكن أن تحمل المياه أيضًا دلالات سلبية. بالتأكيد، يشرح هيرقليطس أن النفس البشرية تأتي من الماء، لكنه صاغ هذه الفكرة في شكل مفارقة: «الماء يولد من الأرض، ومن الماء تولد الروح» ويؤكد، علاوة على ذلك، أن التناقض نفسه ينطبق على البحر: البحر، أنقى المياه وأكثرها نجسًا: فهو للأسماك صالح للشرب وسببًا للحياة، وللإنسان غير صالح للشرب وسببًا للموت. في السياق نفسه، يربط أفلاطون العنصر المائي بالعالم المادي، ويعارض ماء البحر بعالم الأفكار. لذلك، لن يكون من الخطأ التأكيد على أن الماء هو أيضًا عنصر ثنائي القطب أساسًا في التقليد اليوناني.
وعليه، فإن انشطار الماء وتمظهره كعنصر توليد وعنصر مدمر يرتبط بالتقاليد القديمة جدًا، وصولا إلى الحضارة الغربية الحديثة، لأنه يستند إلى كل من الفلسفة اليونانية والديانة المسيحية وما يفرزانه من تقاليد فكرية تجسد ذلك الانشطار. 

المنظور الإسلامي
للعلاّمة المغربي الدكتور عباس الجراري كتاب قيم حول «أهمية الماء من منظور الإسلام»، أشار فيه إلى أن الماء أساس الحياة وقوام الكون، إذ يشغل نحو ثلاثة أرباع مساحة الأرض، ويشكل مثل ذلك في تكوين جسم الإنسان، ودونه قليلاً بالنسبة للحيوانات، والثدييات خاصة. أما بالنسبة للنباتات - أو بعضها - فالرقم يرتفع حتى لكأن التركيب كله من الماء. ومن أبرز خصائصه المادية أنه قابل للتفاعل مع معظم العناصر الطبيعية. وقد عمَّ - أو كاد - في جميع المعتقدات أنه سابق على الكائنات، وأنه لذلك أول ما خلق الله. 
إن الماء بهذا هو الحياة، وإن الحاجة ماسة إليه في شتى المصالح والمرافق، لاسيما: 
1- الشرب، سواء بالنسبة للإنسان أو الدواب. 
2- التطهر من مختلف النجاسات. 
3- سقي الأرض وإنبات الزرع والكلأ وأنواع الحبوب والثمار. 
4- تطهير الجو من التلوث الذي يفسده ويتسبب في عدد من الأمراض. 
5- الاستشفاء من بعض الأدواء. 
6- استعماله في الطاقة، وغيرها من المنافع المعروفة وغير المعروفة. 
وهو بهذا ذو دور أساسي وفعال في حياة الفرد والمجتمع على مختلف الأصعدة والمستويات. وقد أدرك الإنسان منذ بدء الخليقة أهمية الماء في تحقيق شتى أغراضه الحيوية، فأولاه مكانة قدسية تجلت عند معظم شعوب العالم على امتداد التاريخ، في معتقدات وطقوس ما زالت رواسبها ماثلة حتى اليوم في فكر كثير من الناس وسلوكهم، ممن يقصدون بعض الينابيع والأنهار ويقدمون عندها القرابين للتبرك والشفاء، اعتبارًا لأن الماء رمز الوجود، وظنا كذلك بأن مواطنه مستقر دائم للقوى الهائلة والأرواح الخارقة. 
ولا يخفى أن الديانات السماوية المختلفة أبرزت قيمة خلق الله للماء وسبق هذا الخلق على غيره، إظهارًا لكونه توأم الحياة، وإظهارًا كذلك لعظمة الخالق، مما تدل على تفاصيله تصورات كل عقيدة على حدة.
وإن المتأمل في تصور الإسلام للماء، ليجد أن للدين الحنيف منظورًا لهذه المادة، يتسم بكونه شموليًا ومتكاملاً؛ وكذا برؤيته المتطورة التي وضعت الماء - من حيث مصادره وإنزاله ومنافعه - في سياق علمي لم تدرك الإنسانية أبعاده إلا في العصور المتأخرة، بعد أن تم الاهتداء إلى بعض النظريات التي قلبت ما كان شائعًا من مفاهيم، والتي وجدت منسجمة مع ما أنبأ به القرآن الكريم.   
تظهر أهمية الماء في المنظور الإسلامي من خلال ما ورد عنه في: القرآن الكريم، الحديث النبوي الشريف، كتب التفسير وشرح الحديث، المدونات الفقهية، مؤلفات خاصة عن الماء، مدونات الطب.
ثم إن هذه الأهمية تظهر كذلك عبر مكانته في الحضارة الإسلامية، وما كان له من دور في إيجاد العمران وتخطيط المدن، وكذا أثره في الثقافة الإسلامية بما تتضمنه من عادات وتقاليد وآداب مكتوبة وشفوية.
ونظرًا لهذه الأهمية، فقد وصفه الله تعالى بأنه مبارك، إذ يعني في آيات محددة الماء المعروف ذا الأهمية القصوى للبشر وجميع الكائنات الحية، كما يعني النطفة في آيات أخرى. ويسوق الدكتور عباس الجراري ظواهر ومظاهر مائية في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، سواء منها السارة أو المفزعة، الأولى كأنهار الجنة وعيونها والثانية كالسيول والطوفان وشراب أهل الجحيم. 
وفي سياق الظواهر والمظاهر، تتميز بعض المياه وتتفاضل بما أضفى عليها الله من بركة وتشريف:
1- الماء الذي نبع من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، والذي اعتبر إحدى معجزاته وعلامات نبوءته. 
2- زمزم: وهو الماء المعروف عند الكعبة في الحرم المكي.
3- الكوثر: وقد سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك نهر أعطانيه الله عز وجل في الجنة أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل (أخرجه الترمذي عن أنس)■