إتيان دينيه انبهار بسحر الشرق وعظمة الإسلام أم تزيين للاستعمار وتجميله؟

إتيان دينيه انبهار بسحر الشرق وعظمة الإسلام  أم تزيين للاستعمار وتجميله؟

تمكّن الرسّام الاستشراقي إتيان دينيه من أن يحتلّ مكانة رفيعة في العالم العربي، حتى أن وزير الثقافة الجزائري أحمد طالب الإبراهيمي أطلق عليه لقب «أبو الرسم الجزائري»، وقد زيّنت لوحاته مبنى رئاسة الجمهورية الجزائرية ومكتب الرئيس وبعض المقار الرسمية، واقتنت قطر وعُمان والمغرب بعض رسوماته لمتاحفها، وبيعت لوحاته في المزادات الفنية بأرقام خيالية. 

 

ربما يعود هذا التقدير المبالغ لفن دينيه في العالم العربي إلى كونه اعتنق الإسلام واستبدل اسمه بالحاج ناصر الدين، وترك مؤلفات تشيد بعظمة الإسلام، بالإضافة إلى حوالي 500 عمل فني يجسّد الواقع الإتنوغرافي للشرق بأبهى حلله، إلا أنه في السنوات الأخيرة، تعالت أصوات بعض النقاد لتشكّك بصدق مقاصده، فتصف لوحاته بالابتذال و«التنميق الاستشراقي»، وكتاباته وخطواته وصولًا إلى الحج إلى بيت الله الحرام بأنها مشبوهة، ولا يمكن إدراجها إلا في باب الاستغلال والضجيج الإعلامي والتفتيش عن الشهرة. فهل نحن أمام تجربة تنضح بالصدق والإيمان، أم أمام شخصية شكّلت واجهة مجمِّلة للاستعمار الفرنسي في الجزائر؟ 

دينيه المسحور بالشرق وبالإسلام: 
الوجه المضيء
في الواقع، يحتل إتيان دينيه موقعًا مهمًا في تاريخ الاستشراق. فلقد واكب في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أكثر من تيار فني، وكان على صلة وثيقة بمعظم الفنانين في تلك الحقبة وشارك في معرض الانطباعيين عام 1888 قبل أن يعتمد الرسم الواقعي في تصوير الحياة اليومية في الجزائر. 
أما انتماؤه إلى التيار الاستشراقي فكان أيضًا متميّزًا. فحين تعرّف إلى الشرق وهو في الثالثة والعشرين من عمره، راح يقيم ستة أشهر سنويًا في جنوب الجزائر، ليعود إلى محترفه في باريس ويقضي الفترة المتبقية من السنة يصوّر انطباعاته الشرقية. وقد وقع خياره في النهاية على الإقامة الدائمة في قرية بو سعادة في جنوب الجزائر (1904)، حيث تعلّم اللغة العربية وعاش الحياة الشرقية بتفاصيلها اليومية، وشدّته روابط وثيقة بسليمان بن ابراهيم با عامر؛ كما تأثّر بالديانة الإسلامية، فاعتنق الإسلام عام 1913 وقام بفروض الحج إلى مكة المكرّمة، عاملًا طيلة حياته على تقارب فعلي بين فرنسا والمسلمين الذين اعتبرهم من أكثر الأصدقاء الأوفياء لفرنسا.
  
تجربة فنية مميّزة
شملت رسوم دينيه جميع مناحي الحياة العربية، من رسوم الأشخاص إلى مشاهد الحياة اليومية، من الساحات العامة التي تعجّ بالحركة، إلى الأطناب في البادية، فمشاكل المرأة المهجورة، والاحتفالات، دون أن ننسى المشاهد ذات الطابع العنفي، ومشاهد الصيد، حتى يخيّل بأن رسوم دينيه تشكّل سجلًا شاملًا لمختلف مظاهر الحياة الشرقية. كما يُكثر دينيه من رسم الفتيات في مقتبل العمر مركّزًاعلى تصرفاتهنّ البريئة التي لا تخلو من الإغراء أحيانًا. وهو يُبرز أجسادهنّ نصف عاريات، فيما لفتته كذلك ألعاب الصبية وما تحمل من عفوية وحب للحياة. 
هذا، وقد اعتبر دينيه مشهد الراقصات الشرقيات مشهدًا نموذجيًا يوحي بسحر الشرق. لذا كرّره أكثر من مرة سواء في تزويق كتبه أو في لوحات عرض معظمها في معارض الرسّامين الاستشراقيين ابتداء من عام 1893. ومما يُضفي على هذه اللوحات جمالًا هو رسم الراقصات تحت ضوء القمر وبين شجر النخيل، مما يوحي بأن الشرق هو بلد السحر والعجائب. 

المشاهد الدينية
وتتنوّع الموضوعات، من مشاهد طبيعية، معظمها من بو سعادة والطبيعة الصحراوية، إلى المشاهد الحربية، إلى مشاهد العشق والغرام.. إلخ، إلا أن المجموعة التي ميّزت فنه وأكسبته الشهرة هي تلك المتعلقة بالمشاهد الدينية. فقد اتسمت لوحات دينيه ذات الطابع الديني بالتقوى واعتُبرت هذه اللوحات أفضل مجموعة استشراقية تعالج هذا الجانب من الحياة الشرقية، لأن رسّامنا عاش هذه التجربة بالعمق بعد اهتدائه إلى الإسلام، ومن بين هذه اللوحات: «صلاة الفجر» (1913)؛ «الركعة» (1914)؛ «ليلة المولد» (1919)؛ «إمام يترأس الصلاة» (1922)؛ «المسيرة» (1926)؛ «الطواف حول الكعبة عند الصباح» (1929)؛ «صلاة الفجر في مسجد الرسول في المدينة» (1929). في لوحاته الدينية تمكّن دينيه من التعبير عن حالة الصفاء في النفس الإنسانية، وعن تلك السكينة التي يعيشها المؤمن لدى أدائه للشعائر الدينية.
 
تزيين الاستعمار: الوجه الملتبس
بالرغم من اندماج دينيه في مجتمع بو سعادة المحلي، وتعلّمه اللغة العربية، ودخوله الإسلام، فإن أصواتًا كثيرة ارتفعت في السنوات الأخيرة تتهمه بأنه ساهم في إعطاء صورة مشوّهة عن واقع الجزائريين في ظل الاستعمار، ذاك أن مشاهد القمع والقهر والظلم التي رافقت تلك الحقبة الاستعمارية تُستبدل في لوحاته بمظاهر البهجة والفرح والهناء التي تطبع الحياة اليومية، وكأنه بذلك يقدّم صورة مجمِّلة للاستعمار. 

دراسات مشكّكة
أولى الدراسات المشكّكة بمسيرة دينيه أصدرها الناقد الأدبي والفني الفرنسي فرنسوا بويون François Pouillon بعنوان «حياتا إتيان دينيه» (1997)Les deux vies d’Etienne Dinet وقد اعتبر فيها أن الموضوعات التي تناولها لا تعبّر عن الواقع الجزائري، وما هي إلا تزيين استشراقي لا يمت إلى الحقيقة بصلة، كما أن الهالة الإيمانية التي أحاط نفسه بها ليست سوى تلفيق واستغلال للمشاعر. وقد تبنّى هذه النظرية عدة كتّاب جزائريين، من بينهم الكاتب سعيد خطيبي، والكاتب والمسرحي محمد القاسمي الذي نشر في جريدة «الوطن» الجزائرية الناطقة بالفرنسية مقالًا بعنوان «إتيان دينيه أو اختراع الاستعمار السعيد.. خداع بصري تاريخي» (5 مايو 2018). ولا بد هنا من الإشارة إلى أن القاسمي هو حفيد مصطفى القاسمي شيخ زاوية الهامل في بو سعادة. 
يُجمع الكاتبان على أن دينيه ساهم بإعطاء صورة مغلوطة عن واقع السكان الجزائريين في الحقبة الاستعمارية، متجاهلًا عن عمد مشاهد الظلم والقهر التي عانى منها الجزائريون، كما أن الهالة الموهومة التي أحيط بها بعد اهتدائه إلى الإسلام لا تؤهّله لأن يطوّب «أب الرسم الجزائري». وقد شقّت هذه النظرية طريقها بقوة في السنوات الأخيرة، إلى درجة أن الروائي الجزائري الفرنكفوني رشيد بوجدرة وصف دينيه بأقذع النعوت في روايته «السلب» La dépossession الصادرة عام 2017.
قد تتّسم هذه الصورة بشيء من القساوة، إلا أننا لو قارنّا أجواء الانشراح والهناء التي تشيعها لوحات دينيه بانطباعات بعض الكتّاب ورسوم بعض الفنانين الذين زاروا بو سعادة وأقاموا فيها في نفس الحقبة لتبيّن لنا أن الفروقات شاسعة، وكأن دينيه يتعمّد تزوير الوقائع. فبو سعادة القابعة في عمق الصحراء على بُعد 242 كلم جنوب العاصمة الجزائرية، كانت تعاني من الفقر والإهمال حين وضع الجيش الفرنسي يده عليها عام 1849. وقد نالها نصيب وافر من البؤس في سنوات المجاعة التي ضربت البلاد ما بين 1868 و1871، فقضى أكثر من ثلث سكانها بسبب الفقر وانتشار التايفوس والكوليرا. هذا بالإضافة لمناخها الخانق من شدة الحرارة بسبب «رياح الشيهيلي» التي تعصف بالمدينة بشكل متكرّر حاملة الغبار الذي يعمي الأبصار. فليس للمدينة إذًا أي جاذب رومنسي كما يوحي بذلك دينيه، لا من حيث المناظر الطبيعية، ولا من حيث مشاهد الحياة اليومية، ولم تكن على حد قول الكاتب غي دو موباسان التي زارها عام 1880 سوى «أكوام وأكداس من مكعبات طينية جففتها الشمس، ملتصقة الواحدة بالأخرى... وهي أشبه بجحور القنادس». وفي وقت كان دينيه يرسم الفرح والبهجة على وجوه السكان مُظهرًا الحقبة الاستعمارية على أنها مصدر استقرار وسعادة، كانت الأصوات في فرنسا تتعالى شاجبة التعديات والمظالم التي تطال السكان الأصليين.  

تجربتان فنيتان نقيضتان
وأسوة بالكتّاب، أعطى الرسّامون الكثر الذين زاروا بو سعادة انطباعًا مغايرًا، وقد تعاطف بعضهم مع السكان لما يعانون من مآسٍ بسبب الاستعمار، فكان نصيب أعمالهم التجاهل والإهمال بضغط من السلطة الاستعمارية. من بين هؤلاء لا بد لنا من ذكر فنانَين عادت أعمالهما إلى الضوء مؤخرًا: جورج غاستيه (1869-1910) Georges Gasté وغوستاف غيومي (1840-1887) Gustave Guillaumet. 
غاستيه هو رسّام ومصوّر فوتوغرافي أقام في بو سعادة بين 1894 و1898 فرسم وصوّر تفاصيل الحياة اليومية بتعاطف كبير مع السكّان بعد أن هاله ما يتعرضون له من مظالم وما يعانون من شظف العيش. كان همّه مقاربة الواقع وإبراز الحقيقة دونما تلفيق أو تجميل، بما اعتبرته السلطات الاستعمارية طعنًا لها وإضرارًا بمصالحها، فشنّت عليه حربًا ضروسًا ومنعت أعماله من الانتشار، فعاش نوعًا من العزلة قبل أن يُصاب بالإحباط ويغادر الجزائر، ويلف النسيان لمدة طويلة هذه التجربة المميّزة. إلا أنه في عام 2017 أعادت الناقدة الفنية أود دو توكفيل Aude de Tocqueville تسليط الضوء على نتاجه، بعد أن نشرت كتابًا بعنوان «جورج غاستيه، شرق من دون أوهام (1869-1910)»، حيث تصدمنا البورتريهات والصور: فالرجال أصحاب وجوه بائسة ويتستّرون بأسمالهم البالية، والأطفال حفاة تلفّهم بقايا أقمشة، والنساء نحيفات وهنّ أشبه بالظلال يتخفّين خلف حجابهن وأثوابهن الفضفاضة. أما الواحة فليست سوى عبارة عن عالم من الطين اليابس، والوادي يضربه الجفاف، والصحراء ملتهبة. إنها في الواقع مدينة التعاسة، وهي الصورة النقيضة لتلك التي أشاعتها رسوم دينيه.
أما غوستاف غيومي فقد زار الجزائر لأول مرة سنة 1862 وشُغف بهذا البلد بحيث عاد لزيارته تسع مرات. تميّزت لوحات هذا الفنان المفرط الحساسية بالتعاطف مع الشعب الجزائري ودعم قضاياه، مما عرّضه لانتقادات متكرّرة من سلطات بلاده. وبعد أن تمّ طمس نتاجه لفترة طويلة قامت بعض المؤسسات المهتمة بالفنون بإيجاد لوحاته وترميمها، وقد يكون أشهرها لوحة «المجاعة» (1868) التي طالها التلف بفعل الإهمال وأُعيد ترميمها وعرضها في المتحف الوطني العمومي «سيرتا» بقسنطينة. هذه اللوحة خلّدت جزءًا من ذاكرة الجزائريين الحزينة، وسلّطت الضوء على الأحداث المأساوية التي ألمّت بالسكان الجزائريين خلال العقود الدموية الأولى التي أعقبت الغزو الفرنسي للجزائر، وعلى الأوضاع الأليمة التي حلّت بالجزائر خلال الفترة الممتدة بين 1866 و1868، وهي الفترة التي تعرّض فيها الجزائريون إلى أشد درجات الفقر والأمراض والمجاعة. 
المشهد الذي تصوّره اللوحة مرعب، فالوجوه شاحبة، والأجساد منهكة شبه عارية وقد بانت عظامها، بالإضافة إلى مشهد مأساوي لامرأة مكشوفة الصدر يحاول رضيعها الوصول إلى ثديها، ومشهد آخر في عمق اللوحة لعائلة ترفع ذراعيها نحو كوّة عالية لالتقاط رغيف من الخبز. اللوحة إجمالًا تبعث على الكآبة، وهي بمنزلة وثيقة تاريخية تشهد على ذلك الزمن. 

المرأة والدين
يبقى قضيتان على قدر كبير من الحساسية، طالهما التشكيك في مسيرة دينيه: النساء، والمسألة الإيمانية.
فما يصعق في نتاجه هو هذا الكم الهائل من لوحات العري، وقد نسج ما يشبه الأسطورة حول «النايليات» أو بنات الهوى، متجاهلًا تمامًا تقاليد اللباس السائدة في بو سعادة حيث ترتدي النساء «البوعوينا» وهو الرداء الذي يخفي جسد المرأة ولا يدعنا نرى سوى العين. لن نحتاج للكثير من العناء لإيجاد ما يناقض رسوم دينيه فيما قاله أو رسمه زائرو الجزائر. وربما تكون لوحة بول-إميل دوبوا Dubois بعنوان «امرأة من بو سعادة وطفل» (1921) خير ما يمثّل على أرض الواقع النساء في بو سعادة وليس «خضرة» التي كرّس لها دينيه كتابًا عام 1909 بعنوان «خضرة راقصة أولاد نائل». هكذا يبدو مستغربًا تركيز دينيه على بنات الهوى، وقد تجاوزت رسوم العري الخمسين لوحة. إنه أشبه بتزوير فاضح للواقع الأليم الذي كان يعيشه سكان بو سعادة في ظل الاستعمار، وبصورة خاصة النساء من بينهم. 
أما المسألة الإيمانية فتبقى موضع أخذ وردّ. صحيح أن دينيه أنهى مساره الإيماني بالحج إلى بيت الله الحرام، وقد بدّل اسمه ليصبح «الحاج ناصر الدين»، وطلب في وصيته أن يُدفن في الجزائر على الطريقة الإسلامية، كما أن الجهود التي بذلها لبناء مسجد باريس لا يمكن التقليل من صدقيتها. هذا بالإضافة إلى تصريحه الواضح والصريح قبل وفاته: «عرفتُ الإسلام فأحسستُ بانجذاب نحوه وميل إليه، فدرسته في كتاب الله، فوجدته هداية لعموم البشر واتخذته دينًا، وأعلنتُ ذلك رسميًا على رؤوس الأشهاد». بالرغم من كل ذلك، يلجأ فرنسوا بويون في كتابه «حياتا إتيان دينيه» إلى التشكيك بصدق نواياه، إذ ينقل تصريحًا عن جانّ، أخت الرسّام، تقول فيه إن أخاها منعدم الثقافة الدينية. فيما صديقه ليونس بينيديت يرى أن اعتناقه للإسلام هو تعبير عن التعلق بسحر الشرق أكثر مما هو شطحة إيمانية أو انخطاف صوفي. 
في نهاية مقالته الشهيرة «إتيان دينيه أو اختراع الاستعمار السعيد... خداع بصري تاريخي»، يتساءل محمد القاسمي: «ما الذي نبجّله نحن الجزائريون في دينيه؟ هل هو رسمه، أم هو تحوّله للإسلام؟»، ليخلص إلى أن قوة دينيه في الحقيقة تكمن في أنه يجعلك تؤمن بأن الاستعمار لم يكن موجودًا. فكل «مواطن أصلي» يقع نظره على إحدى لوحات «الحاج ناصر الدين» يخرج مقتنعًا بأن أسلافه لم يعرفوا أبدًا الاحتلال، لفرط ما «يبدو هؤلاء الأجداد بشوشين ومُشرقين في اللوحات التي تجعلنا ننسى التيفوس والكوليرا والمجاعة». قد تشكّل هذه الملاحظة جزءًا من الحقيقة، لكن مهما تضاربت الآراء وتنوّعت الاجتهادات تبقى تجربة دينيه صفحة مشرقة في تاريخ الرسم الاستشراقي. 
وهو استطاع تخليد حقبة من تاريخ الجزائر من خلال مئات اللوحات التي شكّلت سجلًا لمناحي الحياة المختلفة، بما في ذلك تصوير الفقراء والكادحين الذين يعانون من شظف العيش وتبعات الاستعمار. كما أن التشكيك باهتدائه للإسلام مبالغ فيه، خاصة حين نتأمل عشرات اللوحات عن أداء الشعائر الدينية والأعياد وما تحمل من شحنة إيمانية... تجربة إتيان دينيه مميّزة وشائكة، وقد سال حولها ولا يزال حبر غزير، إنما اللافت فيها هو هذا التهافت، حتى يومنا هذا، على اقتناء لوحاته التي تزيّن كبريات المتاحف العالمية ■