بين عمرنا الذاتي وعمرنا الزمني

بين عمرنا الذاتي  وعمرنا الزمني

يقول الكاتب الأمريكي مارك توين «إن العمر هو حالة عقلية بحتة، إذا لم تكترث له، فلا يهم، ولن يهم أبدًا»، ويقول الفنان الأيرلندي فرانسيس بيكون: «لن أكون رجلًا عجوزًا أبدًا، بالنسبة لي، فإن الشيخوخة دائمًا أكبر مني بخمسة عشر عامًا». ويطلق الكاتب الصحفي السعودي عبدالله المغلوث مقولة يشير فيها إلى أن «الشيخوخة ليست في الأعمار، بل في العقول». كل هذه الأقوال تؤكد على اعتقاد شائع بين العديد من البشر مفاده أن السن مجرد رقم، وأن العمر الحقيقي هو ما نشعر به من الداخل وفي طريقة نظرتنا إلى الحياة ليس إلا. ولكن هل هذا صحيح؟ وما هي الأسباب وراء هذا الاعتقاد؟ هل إن المنطقة في دماغنا التي تتحكم في التقدم بالعمر هي التي تخدعنا للاعتقاد بأننا أصغر سنًا، أم أنها طريقتنا لحماية أنفسنا من الصور النمطية السلبية للتقدم في العمر؟ وإذا كان ذلك صحيحًا، هل من المقبول إذن أن نكذب بشأن عمرنا؟

 

  قبل الإجابة على هذه الأسئلة لا بد من الإشارة إلى أن تعريفات العمر، في الواقع متعددة ومُحيّرة، وأن الآراء حول تقدم الإنسان بالعمر محفوفة بنفس الغموض والتجريد الذي يحيط بعلاقتنا بالزمن، فمثلما أن الزمن فكرة نسبية ومجردة، قد يكون مقياس العمر بتعدداته يحمل معه القدر نفسه من النسبية والاختلاف. هناك في الأساس ثلاثة أنواع من المقاييس العمرية، بحيث إن أولها هو العمر الزمني الموجود على شهادة ميلادنا والذي يشير إلى عدد المرات الذي شهدنا فيه الأرض تدور حول الشمس، وثانيها، هو العمر البيولوجي الذي يُعرّف أيضًا، بالعمر الظاهري، وهو الذي يقيس العمر بناءً على مؤشرات حيوية مختلفة بحيث يكون عبارة عن رقم يمكن أن يتغير حسب نمط الحياة والعوامل الصحية الأخرى، وثالثها، هو العمر الذاتي أو العمر النفسي الذي يشير إلى مدى شعور المرء بالعمر، أو بعدد ما عاشه واختبره بالفعل، والذي من الممكن أن يختلف بمرور الوقت عندما يشعر المرء في محطات مختلفة من حياته بأنه أصغر أو أكبر من عمره الحقيقي.

العلاقة بين العمر الذاتي والصحة
في الحقيقة هناك العديد من الأبحاث العلمية الحديثة التي بدأت بالظهور في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، واستكملت بسيل من الدراسات الحديثة، التي أظهرت أهمية العمر الذاتي وارتباطه بصحة الأشخاص النفسية والجسدية والذهنية. من أبرز هذه الدراسات دراسة أجريت في ألمانيا قام بها الدكتور م. ويتشتاين، الذي يعمل في المركز الألماني لعلم الشيخوخة، والتي نشرت نتائجها في مجلة علم النفس والشيخوخة، بحيث أشارت إلى أن أحد أسباب الارتباط بين العمر الذاتي والصحة الجيدة هو أن الشعور بأن المرء أصغر سنًا مما هو عليه بالفعل يحمي البالغين، أي من هم في منتصف العمر وكبار السن، من الإجهاد الضار، وأكدت على ذلك الأمر دراسة أخرى أجرتها كلية لندن الجامعية (UCL)، وقد نشرت في مجلة JAMA ، بحيث أفادت، بعد متابعة 6489 شخصًا بمتوسط عمر يبلغ حوالي 66 عامًا على مدى ثماني سنوات، بأن كبار السن الذين يشعرون بأنهم أصغر سنًا لديهم معدل وفيات أقل. بالإضافة إلى دراسة قام بها مجموعة من الأطباء في جامعة فيرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية التي أشارت إلى أن 70 في المئة على الأقل، من أكثر من 30000 شخص ممن شاركوا في الدراسة، والذين أفادوا بأنهم يشعرون بأنهم أصغر من عمرهم الزمني، كانوا أقل عرضة لمجموعة كبيرة من الأمراض المزمنة، مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري والألزهايمر والاكتئاب.
هناك، إذًا، لائحة طويلة من الإيجابيات المتعلقة بالعمر الذاتي الأدنى، وقد تكون أكثر الروابط إثارة للاهتمام في تلك الأبحاث جميعها، الطريقة التي يتفاعل بها العمر الذاتي مع الشخصية. فمما لا شك فيه أن الناس يميلون إلى النضج مع تقدمهم في السن، ولكنهم يصبحون أقل انفتاحًا وأقل استعدادًا لخوض التجارب الجديدة، وهي تغيرات في الشخصية تكون أقل وضوحًا لدى الأشخاص الذين يشعرون بأنهم أصغر سنًا في قرارة أنفسهم، وتبرز في الأشخاص الذين لديهم أعمار ذاتية أكبر. ومن المثير للاهتمام أيضًا، أن الأشخاص ذوي الأعمار الذاتية الأصغر هم أيضًا أكثر وعيًا وأقل عصبية وأكثر احتمالًا للتخطيط لمشاريع مستقبلية، وهي صفات تأتي مترافقة مع الحكمة المكتسبة من تجارب حياتية أكبر، لذلك فإن الأمر ليس كما لو أن سنًا ذاتيًا أدنى سيترك الأشخاص معلقين في حالة عدم نضج دائم. وتلك التغييرات في الشخصية هي التي تنعكس مباشرة على الصحة؛ لأن النظرة الإيجابية التي تأتي مع العمر الذاتي المنخفض تسمح للأشخاص بالاستمتاع بمختلف الأنشطة (مثل السفر أو تعلم هوايات جديدة) رغم تقدمهم في السن، بحيث يمكن القول إن العمر الذاتي هو عامل تنبؤي لأنماط النشاط البدني. لكن الجدير بالذكر هنا هو أن الآلية التي تربط الرفاهية الجسدية والعقلية بالعمر الذاتي قد تعمل في كلا الاتجاهين، فإذا كان المرء يشعر بالاكتئاب والنسيان والضعف الجسدي، فمن المحتمل أن يشعر بأنه أكبر سنًا، وقد تكون النتيجة حلقة مفرغة، مع عوامل نفسية وعضوية تساهم في زيادة العمر الذاتي، وتؤدي إلى تراجع في الصحة، مما يجعلنا نشعر بأننا أكبر سنًا وأكثر ضعفًا.

الفارق يزداد بمرور الوقت
مع وضع هذا الأمر في الاعتبار، يحاول العديد من العلماء تحديد العوامل الاجتماعية والنفسية التي تشكل هذه العملية المعقدة. متى نبدأ في الشعور بأن عقولنا وأجسادنا تعمل وفق جداول زمنية مختلفة؟ ولماذا يحدث ذلك؟ فقد وجدت الأبحاث أن معظم الأطفال والمراهقين يشعرون بأنهم أكبر سنًا مما هم عليه في الواقع، لكن الأمر يتغير عندما يبلغ المرء حوالي 25 عامًا، عندما يتراجع العمر المحسوس عن العمر الزمني. وبحلول سن الثلاثين، يشعر حوالي 70 في المئة من الأشخاص بأنهم أصغر سنًا مما هم عليه في الواقع. بإيجاز فإن التناقض بين العمر الزمني والعمر الذاتي يزداد بمرور الوقت. وغالبا ما يكون الفارق بين العمرين حوالي خمس سنوات تقريبًا، حسب ما أشارت إليه أستاذة علم النفس في جامعة فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية، نيكول ليندلر، التي كانت تدرس كيف يتطور الفارق بين العمرين الزمني والذاتي على مدى الحياة، فقالت إنه: «يبدو أن التقدم في العمر الذاتي يحدث على سطح المريخ، حيث إن عقدًا من الزمن كما نعيشه على سطح الأرض، يوازي حوالي 3 ـ 5 سنوات على سطح المريخ».

ما أسباب وجود هذا الفارق بين العمر الزمني والعمر الذاتي؟
أما فيما يتعلق بالأسباب التي تدفعنا للإحساس بعمر ذاتي أدنى من عمرنا الزمني، فربما للأمر علاقة بغريزة إنسانية عميقة تسعى للحفاظ على «الذات الدائمة الشباب» وبرفض ضمني للشيخوخة، بحيث إن الافتراض هو أن هناك دافعًا قويًا للحفاظ على الهوية ومفهوم الذات المستمدين من نفس فتية وجسد أصغر سنًا. من جهة أخرى، يتكهن بعض علماء النفس بأن العمر الذاتي الأدنى هو شكل من أشكال الدفاع عن النفس الذي يحمينا من الصور النمطية السلبية للتقدم في السن الموجودة في كل الثقافات العالمية. وفيما يتعلق بعالمية النظرة السلبية للمتقدمين في السن، فقد أوضحت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية في 2016، والتي تضمنت بيانات من 57 دولة، أن المواقف السلبية حول الشيخوخة، بما في ذلك تدني احترام كبار السن، موجودة في كل مكان في العالم، ولا تقتصر على ثقافة أو منطقة جغرافية واحدة. ومع ذلك، يأتي التحيز ضد كبار السن بنسب مختلفة في الثقافات المختلفة بحيث يكون أكثر وضوحًا في البلدان الفردية، أي تلك التي تنظم نفسها على أساس الفرد، مثل الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم الدول الأوربية، ويكون أقل وضوحًا في البلدان الجماعية، أي تلك التي تنظم نفسها على أساس الجماعات، مثل اليابان والصين والهند وكوريا والبرازيل ومعظم البلدان العربية. ولذلك ليس من المستغرب أن يكون أول من صاغ مصطلح «التفرقة العمرية» في عام 1969، كان الكاتب والمؤلف وطبيب النفس الأمريكي روبرت نيل باتلر الذي كان قد وضع بحثًا بعنوان: «لماذا نعيش؟ أن تكون مسنًا في أمريكا»، وحاز فيه على جائزة بوليتزر، بحيث تناول فيه تقصير المجتمع تجاه شريحة المسنين الآخذة في الاتساع، وكان قد اختتم بحثه قائلًا: «بالنسبة للعديد من كبار السن من الأمريكيين، تعتبر الشيخوخة مأساة ومرحلة يشوبها اليأس والحرمان والبؤس والغضب المكتوم». لذلك نجد أن الحافز لإبعاد النفس عن الفئات العمرية المسنة، إن كان من ناحية الاختلاط بالفئات العمرية الأصغر سنًا أو حتى الكذب بشأن عمر الشخص الزمني، كان أكبر في البلدان الفردية التي لديها مستوى أعلى من التفرقة العمرية؛ وبالتالي، كان أدنى في البلدان الجماعية.
وأخيرًا، لا بد أن نسأل: هل من الممكن أن نتوصل إلى تطورات علمية مستقبلية يمكنها استحداث تدخلات قد تحاول تخفيض العمر الذاتي للأشخاص؛ وبالتالي تحسين صحتهم النفسية والعقلية؟ وبالنظر إلى قدرته التنبؤية - بما يتجاوز العمر الزمني الفعلي - هناك من يعتقد أن الأطباء يجب أن يسألوا جميع مرضاهم عن عمرهم الذاتي لتحديد الأشخاص الأكثر عرضة لخطر المشاكل الصحية المستقبلية بهدف تخطيط رعايتهم الصحية الحالية بشكل أكثر فعالية. في أثناء ذلك، يمكن لهذه النتائج أن تعطينا جميعًا نظرة أكثر دقة للطريقة التي تتعامل بها أدمغتنا وأجسادنا مع مرور الوقت، ومهما كان عمرنا الفعلي، فمن الجدير التساؤل عما إذا كانت أي من القيود التي تحد من حيويتنا ونظرتنا الإيجابية تأتينا من الداخل■