«النوموفوبيا» داء العصر الرقمي

«النوموفوبيا» داء العصر الرقمي

لا يبالغ المرء كثيرًا حيث يقول إنَّ الهاتف المحمول واحد من أعظم الاختراعات التي سجّلتها البشرية في رحلة تطورها عبر القرون، فقد غير هذا الاختراع أسلوب حياةِ البشر على امتداد المعمورة، بما في ذلك أنماط تواصلهم الاجتماعية وأساليبهم التعبيرية؛ واليوم كيفما تلفّت المرء من حوله وجد بشرًا مُنكبّين على هواتفهم الذكية.

 

إن السؤال عن ماهية الهواتف الذكية، ودورها في حياة الإنسان المعاصر، يشبه سؤال الكتابة وما تمثّله بالنسبة إلى من يحترفها، فإن كانت الكتابة هي الحياة لمبدعها، فإنّ الهاتف المحمول تخطّى أن يكون وسيلة لإتقان فنّ العيش، غير أنّه، لحضوره الكثيف والمبالغ به، كاد يتملّكنا متجاوزًا الحدّ الذي رسم له بأن يكون خادمًا، حين ابتكره العقل البشري وطوّره، وقد يأخذنا هذا المشهد، في رؤية سوداويّة، إلى قصة انقلاب فرانكنشتاين على العالم الذي صنعه؛ فيصير الصانع ضحيّة صنيعه؛ أو نذهب إلى مقولة الإمام علي بن أبي طالب: «وتحسب أنّك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر»؛ لتصف هذا الهاتف الذّكي الذي طوى العالم، وطوانا في حناياه، لنغدو جزءًا من هذا الكلّ، والكلّ فينا ومعنا في آن واحد.
وقد أدى التطور غير المسبوق في تقنيات الهواتف الذكية، وتعدد وظائفها وتطبيقاتها، إلى تحولها من مجرد للتواصل الاجتماعي إلى كونها جزءًا أساسيًا من حياة كل إنسان، مما ساهم في تكريس الاعتماد عليها والتعلق الشديد بها لدرجة الخوف من فقدانها أو تعطل استخدامها، وهذا مهد لظهور مصطلح «النوموفوبيا» عام 2008 للإشارة إلى القلق من فقدان الهاتف المحمول في دراسة أجرتها مؤسسة يوجوف للبحوث البريطانية You Gov لتقييم «حدة القلق» الذي يعاني منه مستخدمو الهواتف المحمولة. 
وتمثل النوموفوبيا Nomophobia، اختصارًا لرهاب فقدان المحمول No-Mobile-Phone Phobia  والذي يقصد به الشعور بالخوف من فقدان الهاتف المحمول أو التواجد خارج نطاق تغطية شبكة الاتصالات، أو حتى انتهاء طاقة شحنه، ومن ثم عدم القدرة على الاتِّصال أو استقبال الاتِّصالات، وقد اختار قاموس كامبريدج البريطاني كلمة «نوموفوبيا» على إنها المصطلح الأبرز لعام 2018. 

هل النوموفوبيا مرض نفسي؟ 
أشارت دراسة حديثة إلى أن 60 في المئة من سكان الأرض يعانون النوموفوبيا، والتي تتلخص أبرز أعراضها في أوصاف على شاكلة «أصابع لا تفارق الهواتف... شواحن لا تنطفئ... عيون أرهقها النظر إلى الشاشة». ووفقًا لعالم النفس راي روزن أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا ومؤلّف الكتاب «iDisorder» (الاضطراب الإلكتروني)  فإنه من أكثر العبارات الشائعة في عصرنا «لا أستطيع الذهاب إلى أي مكان من دون هاتفي» أو «أشعر بالقلق عندما يتعذّر عليّ التحقق من بريدي الإلكتروني» أو «إذا لم أكن على اطلاع أولًا بأول على آخر الإشعارات والرسائل الواردة فإنني أشعر وكأنني في عداد المفقودين».
ويثار الجدل حول النوموفوبيا؛ فمن ناحية يرى البعض أنها ليست مرضًا، بل هي حالة تشبه «المتلازمة»، أو «مجموعة أعراض وسلوكيات» في حين أكد آخرون أنها «مرض ينتمي لفئة الاعتماد والإدمان ليس على الهاتف ذاته، بل بتطبيقاته المتزايدة، كالألعاب الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي، وبرامج الدردشة... إلخ». 

انتشار النوموفوبيا 
أصدرت منظمة الصحة العالمية WHO تقريرها السنوي لعام 2015، بشأن التداعيات الصحية العامة جراء الاستخدام المفرط للهواتف الذكية، وإدمان الإنترنت، ومنها الإصابة بالقلق، والاكتئاب، والضغط العصبي. 
ونشرت دورية تقارير تأثير الحواسيب على سلوك الإنسانComputers in Human Behavior Reports في عام (2019)، نتائج اختبار على 495  شابًّا من فئة (18 إلى 24) عامًا استخدم المشاركون الهاتف بمعدل 4-7 ساعات يوميًّا، وأمضوا أغلبها على مواقع التواصل الاجتماعي بنسبة 47.1 في المئة، وسماع الموسيقى (14.1 في المئة)، والألعاب الإلكترونية (13. 5 في المئة)، ومطالعة الأخبار (10.9 في المئة)، ومتابعة المدونات (10.1 في المئة)، وتفقد البريد الإلكتروني (4.4 في المئة)، وتبين وجود ارتباط إيجابي بين عدد ساعات الاستخدام وتطور النوموفوبيا، ووجود ارتباط سلبي بين مستوى التعليم والنوموفوبيا.
وأُجريت دراسة في إندونسيا عام 2018 على طلاب (15-18 عامًا)،  واتضح أن 52 في المئة صنفوا من «مدمني» الهواتف النقالة ويعانون ضعف ضبط النفس تجاه أجهزتهم.
وأظهرت الإحصاءات في ماليزيا أن 71 في المئة من الماليزيين (فوق 15 عامًا)  يستخدمون الإنترنت، وما يقرب من 47 في المئة من الطلبة مدمنون للهواتف الذكية، ويقضي 30 في المئة من الطلبة الماليزيين ما يزيد على سبع ساعات يوميًّا في استخدام الهاتف، ونسبة 45 في المئة بين 4 إلى 6 ساعات يوميًّا، ووجود ارتباط بين إدمان الهواتف المحمولة والإصابة بالقلق والاكتئاب، وتراجع الأداء الدراسي والأكاديمي للطلاب. 
ويعتقد أكثر من 40 في المئة من الآباء الصينيين إدمان أبنائهم الهواتف، إذ يقضي أطفالهم في الفئة العمرية (10 إلى 17 عامًا)  بالمتوسط أربع ساعات ونصف ساعة.

أعراض النوموفوبيا 
من أشهر أعراض النوموفوبيا عدم امتلاك القدرة على إطفاء الهاتف، والإمساك بالهاتف منذ لحظة الاستيقاظ وحتى قبل النهوض من الفراش، وهوس تفقد الرسائل الإلكترونية، والنصية، وسجل المكالمات الفائتة، وإشعارات مواقع التواصل الاجتماعي، وعدم القدرة على التخلي عنه حتى أثناء دخول المرحاض، وكثيرون ينامون أثناء استخدامه، ومداومة التأكد من شحن البطارية، وتفعيل باقة الإنترنت باستمرار، والشعور بالقلق والتوتر، والتشتت أثناء العمل أو الدراسة، والفزع عند الابتعاد عن الهاتف، وربما وصل للشعور بأعراض الصدمة.
وهناك أسئلة تساعد في التعرف على حالات النوموفوبيا، ومنها: 
- منذ متى وأنت تستعمل الهاتف الذكي؟ 
- هل تستطيع قضاء يوم كامل دونه؟
-  كم عدد الساعات التي تقضيها بصحبته يوميًّا؟ 
- ما متوسط استهلاكك اليومي لباقة الإنترنت؟ 
- هل تشعر بالقلق إذا نفدت البطارية أو لم تكن هناك تغطية لخدمة شبكة الاتصالات؟
- هل يصيبك الهلع إذا لم تتمكن من العثور على هاتفك لفترة وجيزة؟  
وبالإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يتبين الفارق بين «الاستخدام المعتدل» للهاتف الذكي و«الإفراط في استعماله»، مما يسبب لصاحبه شعورًا بالخوف لفقده كما لو سيفقد عضوًا من أعضائه!

الأضرار المترتبة على النوموفوبيا
رصدت الدراسات أشخاصًا يواجهون مشاكل صحية مثل ألم الإبهام المزمِن، فضلًا عن إصابات الإجهاد المتكررة RSI، واضطرابات النوم (مثل الأرق) بسبب الإدمان على استخدام الهاتف النقال، وتوضح بعض الدراسات أن معدل تفقّد الشخص لهاتفه النقال يصل في بعض البلدان إلى 100 مرة في اليوم، وتُظهِرُ دراسات التصوير العصبي أن آلية تفقد الهاتف والإرسال/ الاستقبال  تترافق مع نشاط منطقة من الدماغ على نحوٍ يشابه آلية استجابة المدمن الذي يتعاطى «الهيروين»، طبقًا لرأي طبيب الأعصاب الأمريكي مايكل سيفرت.
ويؤدي رهاب النوموفوبيا إلى مشكلات ومنها: 
- إدمان الهواتف المحمولة المرتبط بالاندفاع والانشغال وهوس الشراء.
- تفاعل الدماغ مع إشعارات الهاتف المتتابعة يوميًّا يجعل مراكز المكافأة بالدماغ التي تنتج الدوبامين تنشط كنشاطها عند الأكل والشرب.
- متلازمة رنين الهاتف: وهي متلازمة سرعة تفقد الفرد الهاتف لمجرد سماع أي رنين.
- فقد القدرة على تطوير مهارات التواصل الاجتماعي الحقيقية، ولوحظ حدة قلق الآباء بسبب إدمان أولادهم لهواتفهم.
- آلام المعصمين والذراعين والكتفين، وتوترات الرقبة والظهر، والصداع.
- ارتفاع معدل الأدرينالين بالدم وزيادة نبضات القلب وضغط الدم.
- إجهاد العين الرقمي، واضطرابات النوم إذ يؤثر إشعاع الجهاز سلبًا على العين، وينبه مركز الوظائف الحيوية بالدماغ، فيظل الشخص مستيقظًا.
- المزاج الاكتئابي وتدنِّي مستوى الثقة بالنفس، واحترام الذات، وتراجع الأداء الدراسي أو العمل.

أسباب النوموفوبيا
هناك كثير من الأسباب التي قد تؤدي بالفرد إلى الإصابة بالنوموفوبيا ومن بينها: 
- يلعب الخوف من العزلة والوحدة دورًا في تطور الرهاب، والرغبة في إبقاء الهاتف قريبًا ودائمًا.
- يؤدي التعايش مع مشاعر القلق عمومًا لزيادة خطر الإصابة بالمشكلة.
- الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية قد تكون عاملًا محفزًا للنوموفوبيا.
- تلعب العوامل الوراثية دورًا في ذلك.
- الارتباط الإيجابي بين النوموفوبيا، واضطرابات القلق، والعزلة الاجتماعية، والوسواس القهري والاكتئاب، والعدائية، والشعور بالدونية، والقدرة المنخفضة على التكيف الاجتماعي، وعلى الرغم من ارتباط النوموفوبيا بالاستخدام المفرط للهاتف المحمول، إلا أن الأشخاص الذين لديهم اضطرابات نفسية بالأساس، يميلون إلى تطوير هذا النوع من الرهاب أكثر من غيرهم.

مواجهة وعلاج النوموفوبيا 
تركز الدراسات حاليًا على بناء مقاييس لتشخيص النوموفوبيا، وجمع بيانات المشاركين: الجنس، والعمر، والمستوى التعليمي، وأنماط استخدام الهاتف الذكي... إلخ، وتصميم مقاييس لتقييم الرهاب وارتباطه باضطرابات نفسية أخرى كالقلق، والتوتر الشديد، والوسواس القهري، والاكتئاب... والتوصية ببرامج إرشادية لتخفيف مظاهر هذه الفوبيا. 
 وقد تم ابتكار ساعة ذكية في إندونسيا تكشف عن معدل الإبحار على الإنترنت، والتحذير حال وجود أي تأثير على الصحة، كما منعت الحكومة الصينية استخدام الهواتف المحمولة في المدارس، وحظر إحضارها إلا بموافقة مكتوبة من الوالدين، وفي عام 2018 وضعت خططًا لصناعة الألعاب الإلكترونية كي لا تسبب إدمانًا للأطفال على الهواتف.
ولعل أبرز طرق مواجهة وعلاج النوموفوبيا تكمن في: 
- تنظيم الوقت، وأخذ فترات راحة متجددة أثناء العمل، إذ إن العقل البشري غير مصمم للعمل لساعات متواصلة دون راحة، فنحن نؤدي الأعمال بشكل أفضل عندما نأخذ خلالها أقساطًا من الراحة، وهنا يقترح روزن تجنُّب النظر إلى الهاتف الذكي أو تصفح الإنترنت، وبدلًا من ذلك ينصح بممارسة الرياضة أو التحدث أو التأمل، والمشي للحصول على بعض الهواء النقي، والتحدث مع شخص ما، أو ممارسة التأمل الواعي لبضع دقائق، وهو ما يساعد على الشفاء من متلازمة النوموفوبيا.
- الحفاظ على علاقات أسرية واجتماعية قوية، وتعزيز نمط حياة صحي وإيجابي بين الأطفال، والمراهقين والشباب، ووضع دليل استرشادي للأبناء للاعتدال بين وقت استعمال الهاتف ووقت الأنشطة الخارجية، والثقافية والبدنية، والإبداعية الأخرى، وتحديد ساعات تعرُّض الأطفال للهاتف.
- ألا ينشغل الإنسان بالنظر إلى الهاتف عند الحديث مع شخص أمامه.
- استخدام أسلوب الابتعاد التدريجي: وتدريب الشخص على التوقف عن النظر في الهاتف كل خمس دقائق، ثم زيادتها إلى عشر، ثم خمسة عشر دقيقة، ثم زيادة الفواصل الزمنية.
- ضبط الهاتف على الوضع الصامت، بحيث لا يكون الشخص منتبهًا له طوال الوقت، ووضعه في غرفة غير التي ينام فيها. 
- متابعة ما يمارسه الأطفال والمراهقون من التطبيقات والألعاب الإلكترونية ومناسبتها لأعمارهم، ومنع الألعاب قبل إنجاز المهمات المطلوبة من الطفل.
- العلاج المعرفي والسلوكي يُحدث تحسنًا بعد عدة جلسات، ويساعد على تعلم إدارة الأفكار والمشاعر السلبية للنوموفوبيا ■