الترابط بين القديم والجديد في تكوين الأسطورة الكورية

الترابط بين القديم والجديد  في تكوين الأسطورة الكورية

نالت كوريا الجنوبية حضورًا طاغيًا في الأعوام الأخيرة بداية من غزو سياراتها وانتشار هواتفها، وزيادة الإقبال على منتجاتها الذكية وليس انتهاء بفنونها وفرقها الموسيقية، وليس انتهاء بهجرة الكثيرين إليها لإجراء عمليات التجميل التي تتميز بها. وقد تتوقع من أكاديمي قضى هناك تسع سنوات متصلة فضلاً عن زيارات متعددة وترجمات كثيرة وزواجه من كورية أن يكشف لك عن الكثير مما يميز المجتمع لكوري، ولن يخيب د. محمود عبد الغفار ظنك في كتابه «الأسطورة الكورية من الكمتشي إلى التكنولوجيا الرفيعة»، الصادر عن دار صفصافة - مصر، فيجمع بين التحليل الاجتماعي وأدب الرحلات فضلاً عن المقارنة بين جذوره المصرية وسطوة الإقامة المبهرة في بلده الثاني كما يقول. 

 

ولأن الكاتب ليس ساردًا أصيلاً، ولم يحترف الحكي فقد لجأ إلى حيلة ذكية حين قسّم تدوينه إلى مشاهد صغيرة، فجاءت متدفقة في إيقاع مركز، ولاقطة لأبرز ما يراد الإشارة إليه دون تورط في تفاصيل مسهبة، لم تكن من تخطيط الكتاب ابتداء، وبخاصة أنك تتعاقد معه منذ عنوانه على تشكيل «أسطورة». وشيئًا فشيئًا تحدث الألفة بينك وبين أسماء الأماكن والشخصيات التاريخية الكورية، ويسري في لحمة النص وسداه كثير من ماء الألفة ورونقها. 
وعلى ضوء هذا التخطيط يجتمع أدبُ الرحلة مع طابع التوثيق (حتى ولو بالصور) الذي يسم الكتاب بطابع استقصاء مقبول، مع لغة رشيقة، فضلًا عن تحويل فتات بعض المواقف إلى مواضع للتأمل، ويتم وضع ذلك كله في إطار من النقاش والمقارنة بحالنا تأييدًا أو إنكارًا، مع مدخل يؤسس للاغتراف من إمكانية تكرار تجربة تقدمهم بكل أريحية. إن المراوحة بين الطابع التسجيلي والباعث التأملي يعد توثيقًا لدور القارئ والرهان على قدرته على الربط والاستنتاج، فقدم نصًا ثقافيًا جمع بين دقة الملاحظة والوصف والتقصي في تسجيل مشاهداته بأمانة وصدق، كما حرص معظمهم على التفرقة بين المشاهدة والنقل عند تسجيل معلوماته.
 ويبدو رهانه الأول في التأكيد على تأمله كيف يكون الوطن أولًا، وكيف أذعن الكوريون بمحبة لدعوة أحد قادتهم للسفر وتحويل الأموال إلى بلادهم خلال السبعينيات، وكيف أقبلوا على الدول العربية سائقين وخدامين، وهو ما يسهل ربطه باقتصار دخول المدارس الخاصة على الأجانب، أما الكوريون فلا يُسمح لهم بذلك داخل بلادهم، وفي سياق لا يبدو بعيدًا يتأمل كيف يُراقَب المتحرشُ بعد سجنه؛ فيوضع له طوق متصل بشريحة إلكترونية مرتبطة بموقع وزارة الداخلية، فتراقبه وتمنع أذاه عن المجتمع. يذوب الكل في خدمة المجتمع، ويصبح الآخر ليس جحيمًا كما قد نظنه، ويضرب مثلا لذلك بمنع التدخين في الأماكن المغلقة ثم تقييده في الأماكن المفتوحة بعدم الحركة أثناء عملية التدخين؛ لئلا يتلوث قدر أكبر من الهواء، والأمر ذاته في التعامل مع تربية الحيوان المتاحة ولكن مع ضبطه بأمن الآخرين وسلامتهم.

الصدارة للإنسان
لا تقوم خطة الكتاب على رصد الحضارة بمفهومها المادي الظاهر، وإنما تحاول استكشاف بناها الخفية وأساسها العميق، فلن تجد حديثًا عن هيونداي أو سامسونج أو زيارة لمصنع إنتاج الروبوت أو انبهارًا بدقة إل جي، ولكن الصدارة للإنسان وتحليل العناصر الأولية لوجوده، والربط بين منظومة القيم القديمة وكيف سرت حتى الآن في ثنايا البلاد ومقدراتها. إنك أمام تصورات خفية، وقراءة للبنية التحتية لهذه الأسطورة، واستشراف لما تحت السطح الظاهر الذي احتاج لخبرة المعايشة. لقد تطور أمر الرحلة وصار ذروة سنامه هو استكشاف الجانب البشري فيها والإسقاط على الجانب الإنساني وتفسير انتشار دعامات الأشجار- مثلا - لئلا تنمو مائلة أو ضعيفة بما تراه في المجتمع من دعم للمشروعات الصغيرة، أو تقويم للظواهر الخارجة عن القانون والقيم أولاً بأول. لا ينافس العناية بالإنسان سوى الاهتمام بالطبيعة وعدم الركون إلى جودة وجودها، ومن اليسير أن تفسر كثرة محلات بيع الزهور في بلاد تعتبر حديقة مفتوحة، ولن تتعجب لتثبيت محلول معالج في شجرة، فيهتمون بها وكأنها نزيل في مستشفى.
يركز الكتاب على المختلف عن بلادنا، فالآن لن تبهرك السيارات الفارهة والأجهزة الذكية ولن تلتفت إلى المباني الشاهقة أو الأزياء الحديثة، ولكنك تفتقد احترام الكبار بهذا الشكل المبالغ فيه، والذي يصل حد السجود للأجداد، وتقديم عناية فائقة لكبار السن، ربما لأن - بتعبير أحد رؤسائهم - «ليس هناك شعب سعيد لا يكون كبار السن فيه سعداء». سيدهشك إقبال هؤلاء الكبار على الرياضة، وادخار مجهودهم للأيام المقبلة التي ينتظر السبعيني منهم ثلاثة عقود مدخرة. يقدم الكوريون الإنسانَ على سواه حتى يقوم حساب العمر على النظر باهتمام إلى العام الذي استمر خلاله الحمل؛ فسنة المولد يُضاف إليها عام لنحصل على عمر الشخص.
ولا يقتصر الامتنان للأجداد على السجود للكبار واحترامهم أو تجريم الجلوس في الأماكن المخصصة لهم في المواصلات العامة، ولكن المتاحف-ودخولها هناك بالمجان - قد تعرض قطعة لا يتجاوز عمرها مئة عام بوصفها نوعًا من التاريخ أو الاهتمام ببيت مهدم - تقريبًا - لشخصية أدبية أو سياسية.

محبة الحياة
لا شيء لديهم أعلى من محبة الحياة والإقبال عليها، حتى في طقوس الموت؛ إذ يغيم حضوره مع شدة عشقهم للحياة أو الاطمئنان بها، وكيف تكون مظاهر الحزن شفيفة للغاية لا تستطيع أن تبتلع محبة الحياة ربما لأنها سبقت بمحبة الحياة وصحتها وسطوتها والرغبة في اعتصار حلاوتها حد الثمالة. إننا أمام كبار السن يكملون رحلتهم بشغف، ودون تجهم أو تسول مساعدة أو عطف، ولكنهم يعيشون حياتهم بأنفسهم، ويكملون أيامهم ومرحهم وسهراتهم بابتسامة.
ومن محبة الحياة والشغف بها ما تجده من حضور الماضي بكل فخر، ودون أدنى إحساس بالعار منه. فلن يغيب الالتفات لحضور الزي التقليدي «هانبوك» في الأعياد والمناسبات وكأنهم لم يعرفوا الأزياء الحديثة، ولم يقيموا عشرات الأسواق الكبرى لها، تبادرك فيها مختلف الماركات العالمية بالحضور والانتشار. إنهم دائمو الحديث عن تغلبهم على جوعهم القديم، فصَالحوا الحياة، وأصبح الاحتفاء بالطعام وسيلة للبهجة، ولا يأنف الكوريون الحاليون أن يشيروا إلى مائدة الطعام العامرة بمنتهى الاعتزاز ذاكرين معاناة أجدادهم من جوع طويل وتناول للحشائش والأعشاب؛ فيذكرون ماضيهم دون خجل، ويصبح سؤال: «هل تناولت الطعام اليوم؟» وسيلة للاطمئنان على أحوالك، وليس نوعًا من التطفل أو التدخل في خصوصياتك، ولكنها طريقة أثيرة لديهم لإجراء الحوار وفتح الكلام وبخاصة مع الغريب الذي كانوا يعتبرونه أخًا للشيطان قبل انفتاح البلاد. وكانت كثرة الاحتفالات بصورة شبه أسبوعية فرعًا عن محبة الحياة فتجد احتفالاً لكل مناسبة فعيد للربيع وآخر للشيكولاتة، وهكذا.

عمل جماعي
لا مجال للصدفة أو الاستجابة للخاطر الأول، وما تراه من غزو اقتصادي هو نتاج معرفة جيدة بالمجتمع العربي، ودراسة احتياجاته بشكل جيد، ونتاج عمل جماعي يتم تعويد الطلاب عليه منذ بداياتهم الأولى، والاشتراك في مجموعات ونشر المعرفة المتنوعة، وهو ما لا يبتعد عن كون الدقة في الأجهزة فرعًا عن الانضباط في العمل والمواعيد وانتظام القطارات ووسائل النقل العامة.
 تسيطر الدقة على كل الأمور حتى في الموروث؛ فليس هناك رمز تاريخي أو شيء من الماضي يتم التعامل معه بلفظة «تقريبًا» أو «على وجه الاحتمال»، ولكن هناك تحديدًا صارمًا ودرسًا دقيقًا مسبقًا. هل تقارن ذلك بخلافنا حتى على عدد المعلقات؟ فهل مهدت هذه الدقة لمجال الحواسيب والهواتف الذكية؟ 

حد الكفاية
لا مجال في تلك البلاد للإسراف، فثمة اعتماد على «حد الكفاية» بداية من إعطاء أقراص العلاج حسب تحديد الطبيب والأيام المحددة بدقة، مرورًا بقبول الطلاب في الدراسات العليا بحسب حاجة البلاد إلى التخصص، وليس انتهاء بتجهيز المنزل بالأثاث الضروري. يرصد تجاور الاجتياح الغربي، والأمريكي تحديدًا، وكيف صار مهيمنًا على العمارة والملابس ولكنه يجاور التمسك بالقديم شكل آخر لتجاور التراث والحداثة بحسب تعبيرنا المستهلك ومن ذلك حرصهم على الكميتشي التقليدي في الطعام برغم تعدد المطاعم الحديثة وانتشارها الكثيف، وفي الملابس هناك «هان بوك» وحضوره وبخاصة في المناسبات.
لقد تعلم الكوريون كيف يعيشون معا دون السماح للخلافات بتنغيص معيشتهم، وشخصيًا، وقد عملتُ هناك لفترة، أذكر يوم الانتخابات وكيف يقترب المتنافسون في الساحات، دونى أدنى مساحة للتخاشن، ثم يجتمعون على مائدة واحدة وقت الراحة، ثم تضمهم سهرة آخر الليل دون التركيز على اختلافات أحزابهم. ولعل هذ فرع عن تجاور قراءة الطالع والاعتقاد فيه مع الاعتماد التام على لغة الأرقام الواضحة وكيف يقود الاعتقاد بالقوى الخارقة والجن حتى في تنظيم أثاث البيوت وفرشها مع الاعتماد المطلق على العلم والاستقراء، وكيف تتجاور في تلك البلاد كافة الديانات السماوية وغيرها في الوقت الذي ينص فيه دستورها على أنها بلد بلا دين ■