لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

 قد لا يكون امتلاك الأدوات الفنية وحده كافيًا لكتابة قصة قصيرة ناجحة؛ إذ لا بد من اختمار الفكرة لدى الكاتب، وامتلاك القدرة على ايصالها لمتلقٍ لم يعد بحاجة إلى سماع حكاية أو قراءة سطور تُسليه أو تثير دهشته في ظل السيل الإلكتروني الملون الذي تمطره به الشاشات. ما تميزت به القصصُ المختارةُ هنا هو اختمار الفكرة لدى الكاتب/ة إضافة إلى امتلاك الأدوات الفنية إلى حد ما، والسعي لإيصال الفكرة بطريقة فنية مشوقة، ما يمثل نماذج مشرقة من نتاج جيل االشباب الساعي لتجربة هذا الفن السهل الممتنع فن كتابة القصة القصيرة.

المرتبة الأولى: «ألوان الحياة»  لـ د. ريم طالب/ لبنان 
قصة رمزية جميلة؛ تبدأ القصة براوٍ يجلس عند طبيب العيون لفحص نظره، وما تلى ذلك من إقرار حاجته إلى نظارة طبية تمكنه من الرؤية بشكل سليم، لكن الكاتبة جعلته وبعد ارتداء النظارة قادرًا على تمييز ألوان الحياة، ورؤية الواقع دون تجميل أو تمويه، فيرى - مثلاً - اللون الرمادي على يديّ ولد يعمل في ورشة بناء، واللون الأسود في ثياب أمه حدادًا عليه بعد إصابته بعيار ناري طائش. تطرقت الكاتبة من خلال أسطر قليلة إلى قضية عمالة الأطفال وإطلاق الأعيرة النارية في مناسبات الأفراح التي تنقلب ترحا لآخرين، وجعلت المتلقي يشعر بالتعاطف مع الأم التي فقدت معيل العائلة الصغير. القدرة على ترميز الحدث العادي يُحسب للمبدعة؛ فهل يرمز الطبيب الفاحص إلى ظروف الحياة التي تجبرنا على تعديل رؤيتنا للأمور لنكتشف كلما تقدم بنا العمر وتعمقنا بالتجربة اللونَ الحقيقي للحياة؟ ومن المعروف أنه كلما زاد وعي الإنسان زاد شقاؤه، فالرؤية هنا ليست بمعنى الإبصار إنّما القدرة على استبصار الوجه الموجع للحياة.
فكأنّ الشخصية بارتداء النظارة امتلكت الوعي والمعرفة بالواقع المعيش، وبالوضع الاقتصادي المتردي والذي ينعكس على نوعية الحياة وطبيعتها. ما جعلها تكتشف أنَّ ألوان الحياة على درجة عالية من القسوة والقبح ممّا يجعل عدم رؤيتها بوضوح أفضل، فتقرر التخلي عن ارتداء النظارة الطبية؛ هل يمكن اعتبار قرار تخليها عن ارتدائها حركة احتجاج على قبح الحياة؟ أو يمكن فهمه باعتباره هروبًا من مواجهة الواقع؟ النهاية منطقية، وإن كنتُ أفضل بأن تكون موحية أكثر بمحاولة التعاطي مع الواقع والسعي للتغيير،لا أميل للنهايات التي لا تترك ضوءًا في عتمة الواقع، القارئ يبحث عن نقطة ضوء ولو كانت في آخر نفق طويل.

 المرتبة الثانية: «ذاكرة الساعة الأولى» لـ د. آمنة حزمون/ الجزائر
جاء عنوان القصة لافتا ومثيرا لتساؤل القارئ؛ أهي ذاكرة الساعة الأولى من تجربة سفر أو امتحان أو ماذا؟ ليكتشف بأنها ذاكرة الساعة الأولى في الوجود في حياة افتتحت بالظلم في محاولة للتخلص من بذرة حية تجسدت لحمًا ودمًا. 
اختارت الكاتبة لقصتها موضوعًا حساسًا ومحوطًا بالتجاهل والتكتم، وأن يكون السرد بصيغة المتكلم، ونجحت في جذب انتباه القارئ ليعرف بأنّ الراوي هو وليد تم إلقاؤه في حاوية للقمامة ولم يمضِ على مجيئه إلى هذا العالم سوى ساعة واحدة، يصف ما عاناه في محاولة لفهم ما يدور حوله، فكأنه امتلك القدرة على تحليل وفهم ما حدث له في مرحلة لاحقة. لجأت الكاتبة بطريقة ذكية لطرح قضية إنسانية حسّاسة قضية مجهولي النسب المتخلى عنهم، ونحجت في توجيه النقد بطريقة غير مباشرة وعلى لسان الوليد بوصف من يقوم بمثل هذا العمل غير الإنساني بمنزلة دون منزلة الحيوانات التي لا تستغني عن صغارها، وممّا يُحسب لها أنها تناولت الفكرة بطريقة مقنعة لتقديمها بشكل فني ولم تثقل كاهل القارئ بالمواعظ، وتجنبت فخ المباشرة. ثمة ملاحظة صغيرة تتعلق بالمكان في القصة ووقوع الحدث في غابة، وهذا لا يتوافق مع وجود متسولة وقطط أليفة تبحث عن طعامها في حاوية تدلّ على أنَّها منطقة مأهولة بالسكان، لكن هذا لم ينتقص من فنية القصة.

 المرتبة الثالثة: «مجرد طالب» لـ الحسين إد مبارك/ المغرب 
رغم أنّ موضوع القصة يبدو مكررًا لكنّ الجميل فيها هو الأسلوب الذي اتبعه الكاتب في اتكائه على الحوار والتذكر، ما جعل السرد مشوقًا وذلك بإثارة فضول القارئ؛ فكأنه يستمع مع الراوي لما تقوله شخصية «عزيز» الطالب في كلية القانون والذي يواجه ظروفًا اقتصادية صعبة، جعلت الراوي يشعر بأنّه يرى فيه نفسه؛ فهو على مفتتح مرحلة جديدة في حياته، محملاً بالأحلام الكبيرة، يستقل وسيلة نقل عامة في طريقه لممارسة مهنة التعليم بعد تخرّجه من الجامعة ومواجهته للصعوبات الاقتصادية مثل «عزيز»؛ فالتجارب المشتركة والأوضاع الاقتصادية المتردية تزيد من أوجه التشابه بين الأفراد المنتمين إلى طبقة اجتماعية واحدة؛ والراوي مدرك لحجم التحديات الاقتصادية التي تواجه الطالب الجامعي وقد عاش التجربة قبله، استعرض الكاتب بلسان شخصية «عزيز» بعض العقبات التي تواجه الطالب الساعي لتحقيق حلمه بالتخرج، ونيل فرصة عمل، ومحاولة الخروج من دائرة الفقر والحاجة؛ فكأنّه يدور في حلقة مفرغة، تُغلق الأبواب في وجهه تباعًا رغم وجود منحة تدل على تفوقه، لكن صعوبة الظرف الاقتصادي تشده كلما حاول النهوض؛ قد يستسلم لليأس وقد ينجح في تحقيق ما يصبو إليه؛ فهو ليس مجرد طالب علم بل طالب حياة!