أم كلثوم وبدوي الجبل

أم كلثوم وبدوي الجبل

في ديوان الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل قصيدة جميلة عنوانها «شقراء»، وهي قصيدة تتغزل فيها امرأة شقراء بنفسها. أعجبت القصيدة أم كلثوم عندما اطّلعت عليها في إحدى زياراتها لدمشق، فزارت بدوي الجبل في منزله وطلبت منه أن يأذن لها بغنائها ولكنها تمنّت عليه أن يضع مكان «الشقراء» سمراء، فتصبح القصيدة غزلًا بالسمراء، والسمار هو اللون المفضل في المرأة عند العرب وعند المشارقة في آن. اعتذر بدوي الجبل قائلًا لأم كلثوم إن هذه القصيدة قالها في سيدة سويسرية شقراء إبّان كان منفيًا إلى سويسرا في الخمسينيات، وإنه تقديرًا لمودة نشأت بينه وبينها لا يحب أن يغيّر في ملامح السيدة السويسرية كما تتبدّى في القصيدة. 
الواقع أن كل ما قاله بدوي الجبل لأم كلثوم كان صحيحًا ما عدا جنسية السيدة التي ألهمته القصيدة. فقد كانت سورية لا سويسرية ولكنه تعمّد كتمان ذلك كي لا يسيء إليها. مع أنه كان معروفًا في الشام مقدار ولهه بها وتقديره لها، إلا أنه تعمّد نفيها إلى سويسرا قطعًا لأي تأويل. ومع ذلك فإن صلته الروحية بها كانت معروفة. فكيف يجوز والحالة هذه أن يغيّر ويبدل في ملامحها والقصيدة معروفة جدًا في دمشق، والنخبة المثقفة فيها تعرف بمن قال الشاعر قصيدته؟ وماذا تقول الملهمة عندما تعلم أن الشاعر فعل ما فعل من أجل أغنية ولو كانت المطربة التي ستغنّيها هي أم كلثوم؟ لكل ذلك، وانطلاقًا من قيم كريمة تربّى عليها الشاعر، اعتذر من أم كلثوم. ولم تيأس كوكب الشرق فقامت بزيارة ثانية لبدوي الجبل مودعة وطلبت منه أن يعيد النظر بما طلبته، فكرر الشاعر اعتذاره وأسفه. وهكذا ضاع على الغناء العربي وعلى المستمع العربي قصيدة ولا كالقصائد وأغنية ولا كالأغنيات، منها هذه الأبيات:
شقراءُ تحلم شمسُ الضحى بخّدي وبُردي 
        رفّت خصيلات شعري بأشقر النور جعدِ
يا شاكيًا وزر وعدي أحلى من الوصل وعدي
        أنا الربيعُ المندّى قارورة العطر نهدي
طبعًا ليس كل الشعراء مثل بدوي الجبل في الاعتذار من أم كلثوم، فكلهم كانوا يضعفون أمام سحرها ويغيّرون ويبدلون. وبدوي الجبل كان مفتونًا بها، ولكن هذا شيء، وإرضاء العلى والوفاء للمودات شيء آخر. وديوان بدوي الجبل ترجمة مثلى لكل ذلك، وتمنّعه عن التعديل في بنية قصيدته من ضمن هذه الترجمة■