الشاعرية المرهفة.. محمد زينو شومان في ديوانه الجديد.. «مرقد عابر بن عابر»

الشاعرية المرهفة.. محمد زينو شومان في ديوانه الجديد.. «مرقد عابر بن عابر»

إنه العبور من رحم الأم إلى رحم الأرض، من أول نسمة تدخل إلى آخر نسمة تخرج من حياة الإنسان، أو في رحلة المخلوق بين التصاق الروح به وانفصالها عنه، في مساحة زمنية تبتدئ بالحياة وتنتهي بالموت، وفي مقاربة لفلسفة الوجود الإنساني في هذا الكون العظيم.

ذلك هو ديوان الشاعر الكبير محمد زينو شومان وهو المجموعة الثانية عشرة الصادرة عن دار الفارابي سنة 2009م في مائتين وتسع وثلاثين صفحة من القطع الوسط، بعد إصداراته التالية حسب تسلسلها الزمني: عائد إليك يا بيروت - مواعيد الشعر والجمر - قمر التراب، الهجرة إلى الوعي القديم - طقوس الرغبة - أغمضت عشقي لأرى - أهبط هذا الكون غريبًا - مراوغات الفتى الهامشي - قيامة القلق - هوة الأسماء - لا تعاودي العبث.

بدأت رحلة شومان الشعرية عام 1978، ومازالت تتوهج وتتألق مؤكدا في كل ما نظمه انحيازه الكامل إلى الحداثة الشعرية غير المتفلتة، وقد بنى مدرسته الشعرية الخاصة به، مستلهمًا فيها طفولته بكل ما رافقه من تعب ونضال وفاقة، في منزل هشّ متواضع وادع، حيث درج ونهل الصبر والطيبة وواجه الفقر والمعاناة.

وقد انبثقت من كل هذه الحياة المريرة شاعرية مرهفة، بنت ذاتها بصدق وتوغل رؤيا وعزيمة لم تعرف المهادنة، حتى غدا شومان من الشعراء المرموقين البارزين في لبنان والعالم العربي، وأحد رواد الشعر الحديث.

وقد عوّل في معظم كتاباته على الرموز والدلالات كما ساهمت ظروف حياته الصعبة في رسم معظم قصائده على مدى ثلاثين عامًا، فأتت عميقة ملوحة بظلال من المرارات، وقد شكلت جميعها عنوانًا رئيسيًا، وهو الغربة والمعاناة، أو الصعلكة الدامية الجديدة.

المعاناة والصعلكة

يعزف محمد رينو شومان على أوتار فؤاده، مسكونًا بالطفولة المعذبة بالإحباط مما يعتري المجتمع، بأزمة الشعر التي تُرغي وتزبد، بالحيرة والقلق والغربة والفقر والجوع، فهو في تساؤل دائم عن الحياة والموت والمصير، هكذا يرسم الشاعر حدود صعلكته، معلنًا غربته وانعتاقه من أسر الحاكم، يقول (ص97) من الديوان: «قد تعمي الحياة الحياة، فهل غربتي رحم زائدة قطعة من سديم».

وفي قصيدته «حجر الشريد» تتكامل في شخصيته معظم عناصر الصعلكة (الجوع - الفقر - التشرد - النقمة):

«أخرج من ذال المرآب تحت الأرض

بأجفان تلتهم العالم فمن فرط الجوع».(ص104).

تلك أوجاع الشاعر تعرفها أوصال الأرض وأثلام الشعر، كما يقول ص72.

وما اجتمع فيه من المحن لم يجتمع في إنسان آخر، هكذا يتقطّر الشاعر آلامه ومعاناته، حتى يبلغ به الضيق حدًا بعيدًا، ويخشوشن الليل أمامه، وتميل عنه حتى الطرقات والشوارع، فيعلن التمرد بعد طول انتظار، ويخرج بأوجاعه على الملأ غير مستثن من المسئولية أحدًا، شاهرًا أسلحته الصعلوكية، وأهمها الشعر:

«بل أين أنت بأصغريك، لترى النفاق إذا تبختر في الورى بالصولجان وبالعمامة» (ص93).

ثم يقرر أن يستأنف السرى: «ها أنذا أكاد أنتهي من دقّ آخر المسامير في فلك الانتظار، وربما بعد غد نستأنف السرى». (192).

وكيف لا يتصعلك كأجداده عروة والسليك والشنفرى وقد بلغ به الجوع حدًا لا يطاق:

«صيّرني جوعي كلبًا بوليسيا يغلبه الشم فلا يخاف محظورًا». (ص67)

إنه الجوع إلى الحرية والعدل والشعر والخبز، وهيهات يطفئ أشجانه بأنفاسه المشتعلة:

«ومثلما خرج صعاليك الأمس على شيوخ القبائل، انتفض الشاعر على فرمان الوالي وهو المظلوم الذي بَرِبَتْ قدماه ورقّت فيه الأسمال، يحنّ السياف إلى رأسه ولا يملك حتى حقّ وجوده». (ص32)

هذا هو الظالم العاتي الذي ثار عليه الشاعر مستصرخًا الإنسان أينما كان ليمعن بصره في ما يسود العالم من عبودية وقهر:

«ألست بمبصر لترى، ألست بسامع والظلم ذو رعد وبرق في فضاء لا حدود له» (ص92)

والشاعر شومان في كثير من مواقفه وظروفه قريب من صلاح عبدالصبور وأمل دنقل، حتى في الآلام السياسية علاوة على الآلام الإنسانية، فهو يتمزق ألمًا لما آل إليه حال عالمنا العربي من ضعف على الصعيد العالمي:

«هو الغريب الذي تخلى عنه الفراهيدي وسيبويه، فانعقد لسانه عقدة لسان موسى» (ص33).

ويميل إلى العراق حيث الاحتلال الأمريكي ينشب أظفاره، والعالم العربي حائر لا يدري أين يضع قدميه:

«فهو في حيص وبيص يزرع رجلا في الكثبان ورجلا في الريح» (ص34)

عالم يتوكأ على شفيري الغربة والانتماء وبحاره لم تعد صالحة إلا للبوارج وحاملات الطائرات (35) كناية عن الاستعمار الغربي لعالمنا العربي.

إنها نفثات صدر متألم في صور جمالية مكثفة لا تتعارض مع الالتزام الإنساني والتاريخي للشاعر. وعلاوة على ذلك فنحن صرنا أبناء الغرب ومواليد مستشفياتهم، حيث لا نجني إلا الموت السياسي والمعنوي:

«نحن مواليد المستشفيات في باريس أو لندن.

لم نعد نحتاج إلى حَمام الزاجل، طارت الفتحة عن الحاء، وحلت الكسرة مكانها، فأهلا وسهلا بالحِمام حين يحط يطير» (ص38)

وفي عبارة مكثفة وموجزة تحدّد أصل الداء:

«أنكرني الكلب اللاتيني وأطلق خلفي كلب الشبهة ينبحني» (ص205)

إنهما أمريكا وإسرائيل وفق ما تعنيه الكلمات.

ويمضي أكثر ص109 و113 في نبرته الواثقة وصرامته وقلقه على وطنه وأمته في سيل من المشاهد الشعرية وقوة الحدس التي تضيء صوره وتعمّقها.

المصطلحات الأجنبية والحضارة الجديدة

من البداية يُدخل الشاعر المصطلحات الأجنبية الحديثة وأسماء الأعلام في نصوصه الشعرية، لعله يريد بذلك تأكيد حداثة الشعر من هذا الباب، عبر استيعابه للحضارة الجديدة، والحقيقة أن قاموسًا مستقلاً بالمصطلحات هذه يمكن إفراده عن الديوان لغناه الفكري والدلالي وأسلوب الشاعر التجديدي.

وهو يكاد ينفرد عن الشعراء العرب الآخرين في هذا الباب مقدمًا نصوصًا وجدانية تعبر عن روح شاعر متمرد لكن بهدوء، صاخب لكن بوعي، عبر شاعرية مبدعة محلقة.

وفي تصديه لعناوين حضارية جديدة يعرض لأزمة الحداثة سلبًا وإيجابًا ويتناول القضايا العلمية بثوب وروح شعريين، موائما بين العلم والشعر.

فها هو يشخص الكمبيوتر في وصف شعري مكثف وجديد:

«وهو من كائنات الأساطير، أعجوبة الفيزياء، صيحة الذات موغلة في حنايا الصدى» (9)

ويراكم الشاعر أمام القارئ كمّا كبيرًا من المصطلحات الأجنبية مثل (الماريغوانا - الميدوزيد - الكونشرتو).

وقد أطلقها دون أن يفسرها فحالة الشعر لا تحتمل التفسير:

«هل من سبيل إلى الرزق يدرأ غائلة الميديا عن بنيك» (ص9) فالعبارة الشعرية تفسر تلقائيا مدلول المصطلح «الميديا».

وينطلق الشاعر من ذكر المصلحات الأجنبية إلى عرض موقفه السلبي من الاستخدام السيئ للحضارة الحديثة، فيقول ص9:

«أين السبيلُ ومن خلفك اليابسة وأمامك بحر الحداثة مضطرب الموج».

ثم ينتقد ساخرًا تحكّم بعض الوسائل الحديثة في حياة الأفراد:

«عالم يتحكم في أمره «الماوس» أي فأرة الكمبيوتر، فهي بشاربها تبقر العلم واللذة البشرية» (ص10)

«بوركت تلك الحبة الزرقاء وبورك الكمبيوتر الذي أغنانا عن حافظة الأصمعي» (ص39)

وكأن الشاعر هنا يعولم القصيدة ويدخلها في مرآب الحضارة الجديدة.

وعلى هذا النحو تكررت وخزاته الشعرية للمفتنين بالآلات الحديثة بعيدًا عن همومهم ومشكلاتهم:

«إني طلقت الدنيا مثنى وثلاث ورباع وهرعت أهيم على وجهي في أودية الإنترنت» (ص 216)

وإمعانًا في المواءمة بين الشعر والعلم، أدخل شومان شعر الغزل في لعبة الكهرباء والأسلاك، مذكرًا بقصائد الشاعر خليل فاخوري الإلكترونية، مع الفارق في اللغة الشعرية. «انتبهي لخطر تلك الأعمدة، إنها تنقل كهرباء جسدينا، وتيار الوجد دون أسلاك» (ص84)

وفي مقطع آخر فيه جدّة وطلاوة، يطرق الشاعر عالم الجغرافيا، مقتحمًا بالشعر عوالم الطبيعة الساحرة، معبرا فيها عن وجدانه الشخصي وشاعريته المتوقّدة:

«لا تغامري في اجتيار الثغور الفاصلة، غضبي هو نهر الروبيكون» (ص84)

في كل ما ورد تألق الشاعر، متسلحا بعين ثاقبة، ومخزون لغوي مدهش، وقدرة فائقة على التكثيف، ورصد دقيق لأحوال المجتمع، في إضاءة عميقة لما تجرّه الحضارة الحديثة على الناس إن لم يحسنوا استخدامها.

أزمة شعر أم أزمة شاعر؟

يستفيض محمد زينو شومان في الحديث عن الشعر، وعن الأزمة التي يمر بها، فهو متلبس بالشعر منذ أن صرّ جعبته وعاد من السعودية إلى بيروت عام 1978م وأهدى العاصمة ديوانه الأول «عائد إليك يا بيروت».

هكذا يختزل الشاعر الصراع المكشوف حول هوية القصيدة محددا دورها، وصورتها في عشرات القصائد، معتبرًا أن الشعر يمر في أزمة لا يوازيها سوى أزمة العرب في الأندلس، فعمود الشعر في رأيه يشكو ألما في الظهر، كما أنه يخاف على الشعر من الموت بسبب المستويات المتدنية التي وصل إليها على أيدي كثير من أدعياء الشعر:

«ماذا يعني موت الشعر، هل ذلك من أشراط الساعة».

وعلى الرغم من ذلك فالشاعر غير يائس من عودة الشعر إلى عصره الذهبي كما ذكر ص116.

«لست بمستطلع غيب أو ضارب مندل، لكن أتكهّن إن صدقت قبّرة البشرى أن الشعر سيستيقظ، يأتي نجم السعد به محمولا فوق محفة».

ورؤية شومان للشعر قريبة من رؤية إلياس أبي شبكة، فكلاهما يعتبر القلب مستودعًا للشعر:

قال إلياس أبو شبكة:

«إجرح القلب واسق شعرك منه
فدم القلب خمرة الأقلام»

وقال شومان: «إبحث عنها في زاوية الصدر».

«لن تجدوا بغيتكم إلا في أعماق ضلوعي، هناك هناك الصندوق الأسود».

إنه التعريف المتقدم والأكثر وعيا لحركة الشعر.

ويرى الشاعر أن الشعر مركب صعب، وسيظل قلقًا على هذه الجوهرة التي طالما نهاه أبوه عنها في الصغر، إلا أنه امتُحن به حتى غار عليها:

«ما يقلقني هذا الركض خلف قواف شاردة وسع الآفاق».

وهو يحذر من سرقة الشعر التي سادت في الماضي:

«لا تبحر خلف قصيدة مخطوبة أو ذات بعل» (ص114)

وأكثر ما يقلقه هم المستشعرون الذين يقدمون قصائد تولد ميتة - في ص104:

«ما يلطم سمعي خلف الباب عويل النفساء، لكنّ المولود الباكي طرح قصيدة».

ويختصر عشقه للشعر قائلا: ص159:

«لكن الشعر لم يزل ظفره يتغلغل في الجلد حتى العظام».

وهو سيكتب حتى الرمق الأخير، إنه العشق الذي تفسره القصيدة المغمسة بدم القلب:

«فهل غير نحل الكتابة يمتص عيدان روحي الأخيرة» (ص110)

الحرفة اللغوية أو القاموسية الجديدة

تعيش اللغة في وجدان محمد زينو شومان، فهو يتقن التواصل معها ويحسن استخدامها وهو في تعاطيه مع المفردات وتشكيلها لاعب لغوي ماهر، يحفر في العمق ويقدم لآلئ وعمارات شعرية براقة، وقد اتسمت نصوصه بالجرأة والصدق والصراحة، كما دفعه عشقه للغة إلى عمل قاموسي معجمي قلما استخدم في صياغة النصوص الشعرية لدى معظم الشعراء وقد غطت مساحة كبيرة من الديوان هذا العمل، وفيه يؤدي الخيال وظيفته في رسم صور المواد القامومسية، كما جاء في رسم صورة «الصفر».

«الصفر حفرة دائرة، أشبه بالطواف حول محور الرّحى».

«الصفر حبة البواء، عين الاستقامة، حدقة البعير».

«الصفر لا بداية ولا نهاية، كأنهما اللحد أو الرحم» (ص59)

ويغلب استعمال الطباق علاوة على الرموز وصور البلاغة المشعة في معظم قصائد الديوان، خاصة الاستعارة وهي من سمات العبقرية الشاعرية كما سماها أرسطو وذكر أنها آية الموهبة الطبيعية وعلامة الشاعر العظيم، وقد أفاض الشاعر بهذا اللون حتى غدا ديوانه بستانًا نضرًا، وواحة من جمالات، أو قصيدة واحدة تتفرع منها أغصان شعرية مزهرة، وقد تجلى ذلك في صورة الصفر وغيره من الحروف ومما أورده حول الحاء:

«هي الحاء حبل المشانق، بل حية حين تلتف من جوعها حول حبل الوريد

الحاء حوذي الحروف الحارقة، حمل الندامة والحصار» (ص14وص15).

وفي هذه الشواهد وغيرها تتبدى براعة الشاعر في لعبة الألفاظ وحذقه المتقن وأداؤه الموفق في التعبير عن مخزونه الوجداني بما يحشد من الكلمات القاتمة والدلالات المقلقة الحزينة.

وفي عمله القيّم هذا يجمع بين نموذجين من عالم المعاجم، المعجم اللفظي والآخر الموضوعاتي على غرار ما فعله ابن سيده في معجه المخصص.

ومن التقسيمات البلاغية التي فتن بها وخاض عبرها غمار الفلسفة التكوينية للإنسان، صور الطباق والمقابلة التي يختصر في كلمات منها صفحات كاملة فهو يقول ص60 في باب الجدليات:

«الجسد قشرة والروح نواة،
الجسد نواة والقبر قشرة
النهار كلام والليل صمت،
الحرية حضور والعبودية غياب».

كلام مكثف وعميق وهو تعبير مماثل للتفسير الطبيعي والبيولوجي والديني لحياة الإنسان، فالجسد هو المادة المرئية الزائلة، والروح هي الصورة المعنوية الباقية.

وفي كل ما ذكرنا حرص الشاعر على تقديم نصوص فنية جمالية حية، جمع فيها بين العقلانية الهادفة والوجدانية الصاخبة.

وأخيرًا هذا هو أبو العلاء شومان وفيه كثير من أبي العلاء المعري.

كلاهما تناول الموت والحياة بأسلوب تشاؤمي محض.

وشومان هو صديق امرئ القيس القائل: «اليوم خمر وغدا أمر».

ولدى شومان: «أيضًا حَدُّ الأمر وحد الخمر».

أترى كان يسعى امرؤ القيس لتاج الملك، وشومان لتاج الشعر؟

لقد هوى ذات يوم خاتم الشعر من بنصر امرئ القيس فتلقّفته كفّا أبي العلاء، ومازال الشعر يهدر في صدره مذ ألقمته بيروت سمكة الشعر الذهبية.

محمد زينو شومان في مرقد عابر بن عابر، شاعر كبير زيّن مكتبتنا العربية بنتاج شعري يستحق أن نقف عنده ونقرأه بعمق واندفاع. إنه شاعر القيم المثلى والإنسانية المعذبة.

 

 

حسن جعفر نور الدين

  




الشاعر محمد زينو شومان