ذكرى أكتوبر والسؤال الثقيل

ذكرى أكتوبر  والسؤال الثقيل

لعل الجيل الذي عاصر حرب أكتوبر المجيدة عام 1973م، هو آخر جيل ذاق طعم النصر اليتيم على العدو الصهيوني، ومنذ ذلك الحين توالت خمسة عقود مليئة بالأحداث في ملف لم تكن في مجملها لصالح العرب والقضية الفلسطينية، ولولا الهروب المذل لقوات الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000م، وقذائف الحجارة التي أبهرت الدنيا على رأي نزار قباني لكانت الصورة أكثر قتامة.
إنها أزمة أجيال عربية لم تعاصر غير التراجع وضياع الفرص، أجيال تشهد تحولات ومستجدات في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، وثبات في الموقف الإسرائيلي على وحشيته وأطماعه التوسعية، وفي الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر المجيدة، يبقى السؤال الثقيل جاثمًا على أرض الواقع هل ستقوم حرب جديدة بين العرب وإسرائيل؟

 

في ذكرى الحرب الرابعة مع الصهاينة، لم ينهزم العرب في حرب أكتوبر كما حصل في السابق، وحققوا أهم نصر عسكري ومعنوي في تاريخهم المعاصر، وهو تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وبرهنوا على قدرة الجندي العربي على التخطيط والقتال وتحقيق النصر، وبرهنوا على حقيقة أنه لولا الدعم الأمريكي لإسرائيل لما تمكنت من البقاء طويلًا في هذه المنطقة، وبغض النظر عن النتائج فقد كان لابد من قيام حرب أكتوبر، لأن تداعيات هزيمة 1967م والمساحات الشاسعة التي احتلتها إسرائيل، لم تترك آنذاك خيارًا أمام مصر وسورية سوى السير في طريق الحرب، وبدأت بما عرف بحرب الاستنزاف التي استمرت حتى توقيع اتفاقية روجرز 1970م، لتدخل المنطقة بعدها بحالة من المراوحة بين الحرب والسلام، حتى نشبت حرب 1973 بعد ثلاث سنوات.

حرب لابد منها
في حرب خاطفة ونصائح من السوفييت بألا تكون مصر هي من يطلق الرصاصة الأولى، تمكنت الطائرات الإسرائيلية من تحطيم القوة الجوية المصرية وهي على الأرض، وهو ما فتح الباب أمام إسرائيل لأن تتقدم على عدة جبهات، وخلال ستة أيام فقط احتلت الضفة الغربية، وغزة، وهضبة الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء، وتحولت إسرائيل من كيان صغير إلى دولة كبيرة تتموضع في قلب العالم القديم وتتمدد فوق قارتين.
كانت نتائج تلك الحرب صادمة وتفوق خيال أكثر المتشائمين، وتبعاتها السلبية على القضية الفلسطينية والوطن العربي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، ملخصها هزيمة عسكرية وهزة فكرية، وهذه الأوضاع الجديدة خلقت ضغطًا نفسيًا هائلًا لكل من تحمس للمشروع القومي والناصري، ومطالبات بإزالة كل من تسبب بتلك الهزيمة الثقيلة.
 
القرار الانتحاري
كان الخداع الاستراتيجي هو سر نجاح حرب أكتوبر، ولعب الرئيس المصري أنور السادات دورًا مهمًا في اتخاذ القرارات التي تغذي الشعور بالاسترخاء لدى الجانب الإسرائيلي، خاصة بعد بناء خط بارليف على حافة قناة السويس، الذي اعتبرته إسرائيل اقوى مانع من الصخر والرمال وفوهات النابالم، لقد بدأ السادات في موعد المعركة يومًا بعد آخر، ورغم تصاعد حدة الغضب الشعبي، فقد واصل إشاعة أجواء التردد، لأنه تعلم من هزيمة حرب 1967م درسًا هو: لا يمكن تحقيق أي تقدم ضد إسرائيل سوى بالمفاجأة الكاملة، وزاد على ذلك بانتقاده للاتحاد السوفييتي لعدم تلبية طلباته من الأسلحة، وفي يوم عيد الغفران اليهودي والعاشر من شهر رمضان بدأت الحرب في منتصف النهار!!!
لقد كانت تلك الحرب مستحيلة كما تصورها الجميع، وكان من الصعب تصور أن يأخذ الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات مثل هذا القرار في هذا التوقيت، لأنه كان قرارًا انتحاريًا كما وصفته هيئة الإذاعة البريطانية، ورغم كل ذلك فقد بدأت الجيوش العربية في مصر وسورية هجومها في الساعة الثانية ظهرًا في يوم السادس من أكتوبر، وتمكن الجيش المصري من تحطيم خط بارليف وعبوره في الأيام الأولى للحرب.
لقد تقدم العرب في الأيام الأولى من الحرب، وبفضل الجسر الجوي الأمريكي انقلبت موازين القوى لصالح إسرائيل التي استردت هضبة الجولان، وأحرج الجيش المصري في ثغرة الدفرسوار، ورغم ذلك التحول لم يخفت وهج تقدم الجيوش العربية، وساهم تمدد خطوط الإمداد للجيش الإسرائيلي في تعريضها لضربات الطيران المصري، وكان لتلك التداعيات التي فاقت التصور، تأثير مباشر نحو سلك طريق مباحثات وقف القتال وفض الاشتباك، وهو ما جعل نتائج تلك الحرب معلقة، فالجولان السوري لا يزال محتلًا، وكذلك الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء لم تتحررا بالكامل.

زر المراجعة والنقد الذاتي
رغم مرور نصف قرن على حرب أكتوبر، إلا أن هناك صفحات من تاريخ تلك الحرب كما الحرب التي سبقتها ما زالت مطوية، ولولا بعض الوثائق السرية التي تم الكشف عنها، وظهور أصوات كانت ممنوعة من الإدلاء بشهادتها في فترات معينة، ما كان بالإمكان التعرف على بعض تفاصيل تلك المعركة ولحظاتها الحرجة لدى كلا الطرفين، وربما كان العدو وبعض الدول التي دعمته أسرع منا في كشف يوميات الحرب، أما نحن العرب فلا نزال متأخرين في الضغط على زر المراجعة والنقد الذاتي لكل اخفاقاتنا الكبيرة.
ومنذ ذلك الحين استهلكنا أرصدة ذلك الانتصار، وعبرنا على محطات الإخفاق والرهانات الخاسرة عدم تفعيل آليات النقد والتصحيح الذاتي والتهرب من السؤال الثقيل مع عدو لم يتبدل سلوكه العدواني قيد أنمله والسؤال هو، هل ستقوم حرب جديدة مع الكيان الصهيوني؟ وما مصيرها في ظل تبدل أسلحة العصر ودخول الأسلحة التقليدية خانة المتاحف والآثار؟

العدة والعتاد والتكنولوجيا
بادئ ذي بدء لا توجد حرب بدون أسلحة، وحجم التغييرات التي حدثت في عالم الأسلحة ومفهوم الحروب منذ عام 1973م وحتى اليوم لا يمكن حصرها في مقال واحد أو حتى كتاب، ويكفينا رصد الحروب والنزاعات المسلحة التي وقعت آخر عقدين لكي نتلمس التطورات المتسارعة في نوعية الأسلحة المستخدمة، وسرعة تقادمها بعد تزايد دخول التطور التكنولوجي - خاصة في جانب دقة إصابة الأهداف - وتراجع الاعتماد على التفوق العددي للجنود والالتحام المباشر بين المتقاتلين، ولعل الحرب بين روسيا وأوكرانيا أحدث مثال على ما سبق. فهي وإن كان يغلب عليها الطابع التقليدي، إلا أنه لا يمكن تجاهل دور الطائرات المسيرة (الدرون) في تمكين الجيش الأوكراني من الوصول إلى أماكن حساسة في العمق الروسي، مثل مبنى الكرملين، أو جسر جزيرة القرم. 
إن تلك الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تعطينا لمحة عن حروب العصر الجديد، ومئات الأسئلة المستحقة عن شكل ومصير الحرب التي قد تقع مع إسرائيل، والتي يجب الاستعداد لها كما تفعل إسرائيل نفسها، فهي ورغم تزايد اتفاقيات «كامب ديفيد» إلا أنها لا تزال تشعر بالقلق من الشعوب التي لا يمكن التطبيع معها والمواليد الجدد من الأجيال الفلسطينية القادمة.

عالم بلا أمريكا
لا يختلف اثنان على قوة الولايات المتحدة الأمريكية، العسكرية، والاقتصادية، وقدرتها على التواجد في أي مكان في العالم، ورغم ذلك اختارت تلك القوة العالمية الانسحاب التدريجي من الكثير من المواقع وآخرها في أفغانستان، ولأن الطبيعة تكره الفراغ، دخل مكانها لاعبون جدد أبرزهم روسيا، وقوى إقليمية كل في مداره، كما تقدم العملاق الصيني أكثر فأكثر على صعيد الاقتصاد العالمي، وخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوربي، أما روسيا فمازالت صامدة ضد كل الإجراءات الأمريكية والأوربية لإجبارها على الانسحاب من أوكرانيا. إن معطيات الساحة الدولية توحي بأن الدور الأمريكي يتراجع، ونزعة التدخل المباشر لدى القوى العالمية تتزايد.
وعلى الصعيد العربي دخلت أكثر من دولة عربية في دوامة الربيع العربي الذي تحول لنزاع مسلٍح دام كما حصل في سورية، كما عاني بعضها من تراجع اقتصادي مخيف أضعف الحالة المعيشية للطبقة الوسطى، وقد انعكس ذلك الضعف والانشغال على سلوك المحتل الإسرائيلي الذي زاد من وحشيته في التعامل مع الفلسطينيين، وعدوانيته مع الدول المحيطة التي لم تسلَم من هجماته الجوية.
وفي الداخل الإسرائيلي، دخل الكيان الغاصب في دائرة مكررة من الانتخابات البرلمانية، التي تفرز نفس النتائج وتفضل انتخاب الأحزاب الأكثر تطرفًا وتهورًا، وإعادة إنتاج نفس الواقع المخنوق، تلك الوقائع أوصلت تل أبيب إلى حد التطاول مع الحليف الأكبر في واشنطن، رغم الهدية الثمينة التي تلقاها منه وهي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. إن الحرب القادمة مع إسرائيل قد تقع وأمريكا منشغلة في نفسها وربما تطالب تل أبيب بثمن تدخلها، وعلى الطرف الآخر ستجد الكثير من القوى العالمية الصاعدة، أن كفة مصالحها تميل إلى الكثير من الدول العربية التي دخلت معها في شراكات اقتصادية مهمة وحيوية.
على الصعيد الدولي لا يمكن إنكار تنامي حملات التضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني، وحملات رفض ومقاطعة الكيان الصهيوني من دول ومنظمات وأحزاب وشخصيات، وهي من نتاجات التحول الكبير في وسائل انتقال المعلومات وتوجيه الرأي العام، الذي ظل لعقود طويلة خاضعًا لوسائل الإعلام الأمريكية والغربية.

هو اليقين ولا شيء غيره
أعلم جيدًا أن الإجابة على (مَنْ، متى، كيف) المتعلقة بالحرب القادمة مع الكيان الصهيوني صعبة في ظل المعطيات الحالية، خاصة إذا ما وضعنا بالحسبان القوة العسكرية لكلا الطرفين، ودرجة الاستعداد لخوض معركة مجهولة المدة، والحرب النفسية التي تضخم في قوة العدو، وأسباب الحرب التي قد تكون الماء هي شرارتها، لا بل أزيد بأنه لابد من اعتبار تلك الأسئلة مسألة أمن قومي عربي، لأن الطرف الآخر لم يدّخر جهدًا في الاستعداد للحرب القادمة، رغم كل الثلوج التي تنزل على حدوده، إنه اليقين لدينا بأن الحق يجب أن يعود لأصحابه وهو اليقين لديهم بأن المحيط بهم سيطبّق عليهم طال الزمان أم قصر ■