في سؤال الفلسفة مدخل صغير إلى توطين التفلسف

في سؤال الفلسفة مدخل صغير إلى توطين التفلسف

لا نتساءل في الفلسفة عن تقنية السؤال، وإنما نتساءل عن المفهوم الذي ينطوي في - و - على السؤال، وهذا معناه أن كل سؤال فلسفي، هو سؤال عن مفهوم ما، إنه ليس مجرد سؤال عن مضمون شيء ما، كما لو كنا نتساءل عن عما هو الشيء، بالنظر إلى ما يحدث للشيء وفي الشيء من عوارض تلحق به ما تختص به علوم الطبيعة والحياة، ولكنه سؤال عن الشيء عينه، أي عن ماهيته كشيء بما هو شيء، أو عن مفهومه، والحال أن السؤال عن الشيء في الميتافيزيقا أو في الفلسفة الأولى إنما يرجع إلى هذا «اللماذا» المنطوي في مفهوم كل الأشياء: لماذا ثمة شيء بدلا عن لا شيء؟ إن السؤال من هذه الوجهة ينطوي في مفهوم الشيء عينه، أو في مفهوم الكينونة، من حيث إن الشيء هو الكائن الذي يكون كائنيته الخاصة، ومن حيث إنه رابط الوجود الذي لا يتعين إلا من خلاله ككينونة في أفق الزمان، وهذا معناه أن الكينونة هي مفهوم الشيء، الذي لا ينتسب للوجود مباشرة إلا من خلال هذا الشيء الذي ينكشف فيه ويعبر عن ماهيته، من جهة كونه ينطوي على مفهوم الوجود برمته أيضًا، وهذا معناه أنه يعبر أيضًا عن كل الأحداث التي تلحق به كشيء، وتلحق بهذا الوجود الذي ينكشف كعالم بوصفه مفهوما لا يحكي ما يعرض للشيء من أحداث تلحق به، وإنما يحكي أيضا الحدث عينه أي يحكي الشيء ذاته بوصفه ذلك المفهوم الذي تنكشف فيه الكينونة، وتلك الكينونة التي ينكشف فيها المفهوم، في الآن عينه.

 

إذن، فإن السؤال الجدير براهنية فلسفة ما، ليس من قبيل هل توجد هذه الفلسفة، في هذا الفضاء الجيو- ثقافي أو ذاك؟ لأن سؤالًا كهذا ليس سؤالًا فلسفيًا، ولا ينبع عن استشكال فلسفي جدير بالطرح، فضلًا عن كونه مباشرًا وفجًا. فلا يمكن لسؤال فلسفي أن يطرح بهذا الشكل لسببين بسيطين مرتبطين بالفرضيتين التاليتين: أولهما أننا إذا انطلقنا من عدم وجود فلسفة ما في هذه الرقعة أو تلك من الأرض الفسيحة، ما خلا الأرض الأوربية، فإن هذا السؤال هو من غير جدوى أساسًا، لأنه لا يتعلق بشيء أساسًا، أي بشيء موجود، وبالتالي يكون فاقدًا لأساسه الأنطولوجي، ما دام يتساءل عن مضمون شيء فارغ إلا من العدم، وهكذا يتهاوى السؤال ويغدو مجرد نكاية تحكي الفراغ ولا شيء غير ذلك مادام أن هذه الفلسفة التي تنتمي لهذا الفضاء الجيو- ثقافي، والتي نتساءل عن وجودها لا توجد أصلًا، وبالتالي يكون هذا السؤال ليس سؤالًا عن الفراغ، وإن كان الفراغ بحد ذاته جديرًا بالطرح من الوجهة الميتافيزيقية، بل يكون سؤالًا فارغًا، بل فاقدًا تمامًا للأهلية التي تجعل منه سؤالًا فلسفيًا جديرًا بالطرح. 
أما إذا انطلقنا من الفرضية المضادة، وقلنا في جواب عن السؤال السابق، بأن ثمة فلسفة ما توجد في هذا الفضاء الخاص بشعب ما وبلغة ما، فإن هذا الوضع يدخلنا في قلب سجال مقيت للدفاع عن رأي نقيض، وفي هذه الحال فنحن لا ننتصر للفلسفة كنمط للتفلسف، وكتوطين للفلسفة في الفضاء الجيو- ثقافي الخاص بنا، بقدر ما ننتصر لرأي بذيء ما دمنا لا نستشكل عالم العيش الذي يخصنا، وإنما نتموقع بلا وعي، في طرف الدفاع عن قضية لا يحكمها نزاع فلسفي حول ماهية الفلسفة وحول اقتدارنا على التفلسف من موقعنا في المجال الأرضي الخاص بنا، وإنما تحكمها نزعة مركزية استعلائية، لا تهتم بتوجيهنا نحو السؤال الأعمق، أي من منطلق ما الذي يعنيه التفلسف بالنسبة لذواتنا المشتركة؟، في عالم صارت فيه الفلسفة بلا موقع، وبلا مركزية مهيمنة. 
باختصار فإن سؤال هل توجد هذه الفلسفة أو تلك في هذه الرقعة أو تلك؟ ليس سؤالًا فلسفيًا جديرًا بالطرح، وما دام قد طرح بهذه الكيفية الآن وهنا، فإنه يكون أبعد ما يكون عن التفلسف، كونه سؤالًا متجاوزًا، وغير راهني بتاتا، أو أنه مسكون بنزعة رينانية متمركزة حول الغرب، وذلك لأن ما يتلو هذا السؤال لن يكون سوى مجرد سجال، أو جدال عقيم، إن السؤال بالفلسفة الجدير بالطرح في هذه الآونة ليس قط تساؤلًا عن وجود بعينها، بقدر ما هو تساؤل عن مصير التفكير في العالم الذي ننتمي إليه جميعا، أي في هذا الفضاء الجيو- ثقافي الذي يجعل منا ذواتًا متفلسفة، من منطلق الحق الكوني في الفلسفة، كانتماء لفضاء جيو- فلسفي جديد، صارت فيه الفلسفة بلا موقع وبلا حدود، وصار فيه مخطط المحايثة رقميًا بامتياز، كما صار فيه المفهوم يطالب بأرض جديدة، وإعادة توطين جديد.
وبالتالي ثمة عدة مداخل لتوطين الفلسفة، غير أن أهم مدخل لذلك يظل هو مدخل الميتافيزيقا، لأن الميتافيزيقا كانت ولا تزال تعبر عن مفهوم الفلسفة الأولى، كمنبع أول وأخير للتساؤل حول مبدأ الوجود أو علته الكافية: (لماذا ثمة وجود بدلا من العدم؟) ، ولأنها من جهة أخرى تعبير عن سؤال الكينونة والزمان، أو التاريخ والمصير، ما الكينونة بالنسبة للوجود؟ ومن الكائن L’être بالنسبة إلى المَكُون (بفتح الميم وضم الكاف) L’étant؟ وما - أو - من الزمان؟ ما التاريخ؟ ما المصير، ومن الإنسان؟ وما الغاية الغائية أو الأخيرة للإنسان؟
إذا انطلقنا من الميتافيزيقا كفلسفة أولى، أو كعلم للحكمة، كما سماها أرسطو، بوصفها علمًا يبحث في علل الوجود، فإننا نبلغ منتهى حكمة مفادها أن الوجود وجود بكيفية بارمنيدسية، أي أن علة الوجود هي الوجود عينه، كمنطو على ذاته وصفاته وأحواله. وهذا يعني أن لا شيء يصدر عن العدم على الإطلاق. فعلة الوجود الأولى لا تعدو أن تكون إلا وجودًا ضروريًا، و بذلك يستحيل أن يكون صائرًا عن عدم محض، أو أن يكون هذا العدم سابقًا على وجوده. أما يوجد فقط، فهو موجود ينعدم، أو يوجد من أجل العدم. إذ أن العدم بالنسبة للوجود لا يوجد قط لا قبلًا ولا بعدًا، ولكنه بالنسبة للموجود، إنما يوجد لاحقًا. وفي الحقيقة، هو لا يوجد بالفعل، وإنما ثمة كائن ينعدم، وليس ثمة عدم إطلاقًا، 
أي ثمة كائن يرتد إلى الوجود عينه، أو هو وجود من أجل الموت. والوجود من أجل الموت هو البرهان الأنطولوجي على الديمومة، وليس على العدم، وهذا معناه أن الديمومة هي نمط أصيل للوجود الذي ينكشف فيه الكون والفساد، كتعبير عن مبدأ علة مفاده، أن المنشأ يدوم، ولا شيء يدوم في الآن عينه، أو أن ما يدوم ليس إلا الوجود أما لواحقه فلا تدوم، كون الوجود يحتفظ بالدوام في ذاته ومن أجل ذاته فقط، أما الموجود فلا يمنحه سوى قسمة الزمان، أي أنه يهبه قسمة الشيء من حيث هو موجود من أجل الفساد كشيء ما من أشياء الطبيعة، أو من أجل الموت ككائن من بين الكائنات الحية.
بدون ميتافيزيقيا، ليس ثمة سوى عالم بدون أساس، وكل عالم لا يستند على الأساس، هو مجرد عالم زائف، لا لأنه يفتقد لهذا الأساس كأنطولوجيا، بل لأنه يفتقد للقيمة والمعنى والغاية أيضا، وهذا معناه أن الميتافيزيقا هي شرط ظهور الكينونة، إذ بدون ميتافيزيقيا ليس ثمة إلا وجود عار من أي شيء، اللهم إلا من مجرد الشيء، كشيء لا يعني أي شيء، أو كما لو كان لا يعبر عن أية إمكانية في الأساس والغاية. وإذا كانت الميتافيزيقا تعبر عن الوجود كأنطولوجيا، فإنها تعبر أيضا عن الكائن كجسد أي كإمكانية للرغبة، ولو جردنا الإنسان عن الميتافيزيقا لكان مجرد شيء فقط، أو عبارة عن جسم أو بدن، وبالتالي فلا يمكنه أن يكون جسدا أو رغبة. وهذا معناه أيضا أن الجسد هو انكشاف للميتافيزيقا، كونه رغبة واعية بالأساس وبالغاية. هذا شيء مثير للفضول. والحال أن هذه الرغبة الواعية هي تعبير عن الوجود ككينونة، أو عما يفيض عن مجرد الوجود المحض، من كمال أعظم. 
ليس الفيلسوف كائنًا ميتافيزيقيا، لأنه يتفلسف فيما وراء الوجود، بل لأنه يفكر ميتافيزيقيا في هذا الوجود عينه، بما هو وجود حقيقي، أي في هذا الكل اللامتناهي الذي ينكشف في كينونة المتناهي، أو في المجال الخاص للذات، كذات لا توجد وحسب، وإنما تكون كينونتها الخاصة. وبهذا فالفيلسوف هو من يقوم بتجربة مزدوجة؛ تجربة ينطلق فيها من الوجود عينه، بما هو موطن اللامتناهي للمحايثة، نحو الكينونة بما هي موطن المتناهي، حيث الوجود سابق أنطولوجيا على الكينونة، من جهة أولى، ومن جهة ثانية فهو ينطلق من الكينونة ليعود ثانية إلى الوجود. وفي كل مرة ثمة تراوح بين الوجود والكينونة. في هذه المراوحة يتجلى الوجود للكينونة كمبدأ أعلى للمحايثة، كما تتجلى الكينونة في الوجود كنمط لتجربة تعال ينكشف فيها العالم كتوسط بين الوجود والكينونة، وهكذا يكون العالم الوسيط معبرًا عن الوجود عينه وعن ذواتنا أيضا، وبالمقابل تكون ذواتنا معبرة في الآن عينه عن الوجود كله والعالم برمته.
من حق المفكر بإطلاق، أي من حق كل مفكر يفكر انطلاقًا من مجال تخصصه الخاص، سواء كان مفكرًا في العلوم المحضة، أو في العلوم الإنسانية عامة، أن يتساءل: إلى أين يسير العالم؟ لكن من حق الفيلسوف أن يتخذ مسافة من هذا السؤال الذي لا يعنيه بصفة مباشرة، اللهم إلا من حيث كونه منشغلًا بالتفكير في مصير العالم، من وجهة نظره، كمفكر وليس كفيلسوف، إذ أن التفكير، ليس مقصورًا على التفلسف فقط، كما زعم دولوز، فليس فيلسوف العالم اليوم بأقدر على التفكير في الرياضة أو الفيزياء أو في الاقتصاد أو الاجتماع، ولا أن يفكر بدلًا عنهم في مجالاتهم الخاصة.
وهذا معناه أن الفيلسوف، ليس بإمكانه كمتفلسف أن يجيب عن سؤال إلى أين يسير هذا العالم المتسارع الحدوث، والمشحون بدرجة عالية من التوتر والصدام، لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية؟ ولأنه ليس لا يملك رؤى تنبؤية أو استشرافية، أو استباقية كإنسان صوفي، أو كشاعر، أو كمفكر مستقبلي.
إذن ما السؤال الجدير بالتفكير بالنسبة للفيلسوف، حول العالم اليوم؟ 
إنه هو العالم عينه، العالم كما يصير، وليس كما يجب توقع مصيره، فهو بالمعنى الدقيق عودة للسؤال الأول لمفهوم الصيرورة كما أبدعه هيرقليطس، وهذا ليس معناه أنه يكتفي بالصيرورة بدلًا عن التفكير في مصير العالم، ولكنه يعني المضي قدمًا في الكشف عن نمط الظهور الأخير للصيرورة، إذ العالم هو صائر دومًا إلى هذا الأين، أو بالنسبة له يظل هذا السؤال بغير جدوى، من الوجهة الميتافيزيقية، كونه سؤال الرأي الدائم، أما سؤال الفلسفة فهو فلا يكمن في الأين، وإنما في انكشاف الكينونة كاقتدار على الوجود في العالم، وفي توليد جديد للصيرورة كمفاهيم تعبر عن العالم 
باختصار لا يملك الفيلسوف مهمة إنقاذ العالم، ولكنه يتميز بالجرأة على ابتكار مفاهيم جديدة لاستعادة العالم كما هو يصير، في ذاته، وفي ذات الآخرين وفي ذاته عينها.
أخيرًا، ينطوي سؤال الفلسفة على المهمة الأساسية للفلسفة، لا من جهة الجدوى أو النفع، وذلك لأن سؤال جدوى الفلسفة يختلف جوهريًا عن سؤال المهمة، كون سؤال الجدوى أو المنفعة رهين بما هو مباشر أو ما هو قابل للاستعمال في حدود الرغبة الآنية التي يمكن إشباعها بشتى السبل والوسائل التي يوفرها نظام الوفرة، من قبيل ما توفره لنا الطبيعة من جهة، وما يوفره العلم والتقنيات العابرة لوجودنا من جهة أخرى. 
فما توفره الطبيعة من موارد، وما يوفره العلم والتقنيات، كفيل بإشباع حاجياتنا البيولوجية والمادية، والمعرفية. والحال أن حاجتنا للفلسفة ليست من هذا القبيل لأنها لا تنتمي لنظام الوفرة، وإنما لنظام الندرة، كونها متعلقة برغبة غير مباشرة ولا هي آنية، أي برغبة غير قابلة للإشباع، ولذلك فهي رغبة لا متناهية لا يتم إشباعها في حدود الاستعمال المباشر، أو هي ذات طبيعة ميتافيزيقية محضة، غير أنها تظل مع كل ذلك سابقة على كل الرغبات الأخرى، لسبب بسيط كونها تنتمي إلى الأساس الذي ينتمي إلى الوجود الذي تتعين فيه كينونتنا كنمط فريد لا يكتفي بإشباع الحاجيات والرغبات الآنية فقط، بل يسعى إلى كمال الكينونة، والحال أن هذا المسعى الميتافيزيقي لا يتحقق على نحو الرضا التام بالواقع، وإنما يتحقق في المسعى ذاته الذي لا يتوقف أبدًا. 
فهل معنى هذا أن الميتافيزيقا مخيبة للآمال، أم أنها سعي إلى كمال الوجود؟ وهل معنى هذا أن الفلسفة بدون جدوى، أم أنها مهمة أنطولوجية محضة غير قابلة للاستنفاد؟ ذلكم هو سؤال الحاجة إلى الفلسفة، والخلاصة أننا بحاجة للفلسفة دومًا، من أجل هذا السعي للكمال الذي لا يشبع رغباتنا الآنية، بقدر ما يقوي اقتدارنا على الوجود كمغامرة للكينونة في أفق الزمان ■