الفكر النقدي الجديد

الفكر النقدي الجديد

من منطلق أن الأدب ليس مجرد وسيلة لغوية فحسب يتم من خلالها تقديم قصائد شعرية أو شخصيات وأحداث، إنما الأدب يعيد بحث سيرورة الحياة والمجتمع. فقد انشغلت النظرية الأدبية بتحليل النص، ومرَّ الفكر النقدي بمراحل تطور جذرية منذ مطلع القرن العشرين، وبدأت المناهج المتعاقبة، منهجًا تلو الآخر ما قبل البنيوية وما بعدها، تعمل على الوصول إلى آليات محددة تسهم في تحليل النص، وقد جاء ذلك ثورةً على الرومانتيكية التي ترى أن وظيفة العمل الفني هي التعبير عن شخصية المؤلف، وأن وظيفة الناقد هي تسجيل استجابته الوجدانية الخاصة بالعمل الذي قام به المؤلف، كما ارتبط فعل (القراءة) في ذلك الوقت بفكرة معرفة مضمون النّصّ وفهمه، وكان الاعتقاد السائد أن ثمة مضامين ثابتة وحقائق نهائية بخصوص المعاني المطروحة في النص. 

 

وظل هذا الفعل – أي فعل القراءة – محتفظًا بهذا المفهوم فترة طويلة من الزمن، فالقراءة بهذا المفهوم لم تميّز بين النصوص في طرق قراءتها؛ حيث إن كل النصوص تُقرأ بطريقة واحدة، والغرض من فعل القراءة أيضًا كان واحدًا؛ وهو: الحصول على المعنى الواحد الكامل في النص. 
فكانت الثورة على الرومانتيكية والوضع السائد في قراءة النصوص أحد التيارات التي أمدَّت هذه الحركة بالحياة وحتمية الوجود، فالأرض ممهدة ومتعطشة للخروج من النمطية والذاتية السائدة، وانطلاقًا من أن العمل الإبداعي دائم والفكر النقدي الذي يمد العمل بالوجود والاهتمام متغير، ظهر اتجاه عُرِفَ بـ«النقد الجديد (New Criticism)» وهو حركة نقدية أنجلو أمريكية سادت خلال النصف الأول من القرن العشرين، مناهضة لكل الاهتمامات الاجتماعية والوجدانية الذاتية والوثائقية التي غطَّت على النص وغمرته بما ليس منه، ظهرت على يد الناقد جون كرو رانسوم، فحدد مفهوم هذه المدرسة وقوانينها التي تتعلق بالبحث عن المعنى النصي للعمل الأدبي، متأثرًا بأفكار المدرسة التصويرية (Imagism) الشكلية التي أسسها الشاعر الأمريكي الكبير إزرا باوند (1972-1885) Ezra Pound إضافة إلى الأفكار النقدية الحداثية التي جاء بها الشاعر الناقد الأمريكي الأصل الإنجليزي الجنسية ت. س. إليوت Thomas Stearns Eliot (1965-1888) بشأن نظرية (المعادل الموضوعي) Objectifcorrelatif خصوصًا، فتمرد على السائد في هذا العصر، والتقط الومضات في كتابات (باوند/ واليوت) فارتكز على البنية النصية فقط مغفلًا دور كل من الكاتب والمتلقي، واعترف بمركزية النص، وأن وظيفة القارئ تتمثل في الكشف عن شفرة النص وأنساقه المختلفة، فدور القارئ خاضع لسلطة النص ذاته، وجعل المعنى تصورًا كامنًا في جوهر النص، والعملية الإبداعية من وجهة نظره هي الكشف عن المكونات البنيوية للنص الأدبي، فالنظر إلى الشعر كشعر لا كوثيقة تاريخية أو إيديولوجية. 
وقد قُوبلت هذه الحركة بالهجوم والنقد، فدراسة النص الأدبي بعد اقتلاعه من محيطه السياقي هو إفراغ النص من محتواه الثقافي، كما أن حصر القراءة في البنية النصية وتقصِّي معجم النص وتراكيبه اللغوية والبلاغية ورموزه وإشاراته وكل العناصر الجوهرية التي تضيء دلالاته وتفك مغاليقه يؤدي إلى غلق النص على حدود هذه البنية، كما عد الأدب غاية في حد ذاته لا وسيلة لحمل رسالة أخلاقية أو دينية، أو إجتماعية
... إلخ. 
لقد اتُّهم النقد الجديد بأحادية الرؤية، فهو يهتم بالبنية ويغفل السياق التاريخي والعوامل الخارجية، ويعزل النصوص عن بيئتها الثقافية والاجتماعية، وعدم اهتمامه بالمؤلف والقارئ بل وأعلن موت المؤلف، كما اتفقت المناهج المنبثقة منه كالشكلانية الروسية في فكرة أن النص بناءٌ مستقل بذاته، وتصبح مهمة الناقد هي الكشف عن بنى العمل الفردي من ناحية وعلاقتها بالنسق اللغوي من ناحية أخرى، ولكنه لا يعبأ كثيرًا بالدلالة، فمهمة الناقد وفق المنهج الشكلي والبنيوي هي الوقوف على البنية وليس على الدلالة، فقد افتقرت هذه المناهج إلى الشكل الذي يجمع بين قيمة الدال وما ينتجه من دلالات تربطه بالمعارف الإنسانية.
هذا الفكر الذي حاول أن يقتلع النص من جذوره لم يفلح، وأدرك الإنسان حقيقته، بأن لا وجود له بمعزل عن محيطه الثقافي والاجتماعي والتاريخي. وخاصة بعد أن انشغلت النظرية النقدية منذ ستينيات القرن العشرين، باللغة والنص والمعنى بوصفها أساسًا نظريًّا للعلوم الإنسانية، وكان ذلك نتيجة لإنشغال علماء اللسانيات والفلاسفة وعلماء الهرمنيوطيقا والفلسفة والتحليل النفسي بهذا المجال، وبذلك لم تقف آلية تحليل النصوص عند حدود اللغة بل تجاوزت ذلك إلى مجالات شتى، فأفادت من معطيات تاريخية واجتماعية وسياسية ونفسية ..الخ، فلم تعد مواجهة النصوص بالأمر الهين، فعلى الناقد أن يجد آلية جديدة للنص لها القدرة على مواجهته، وأن ينفتح على التأويل ومختلف العلوم الإنسانية.
لذلك أتت اتجاهات ما بعد البنيوية، كالتفكيكية، والسيمولوجيا، وسوسيولوجيا النص، والتأويل، والتلقي، وقد حاولت الوصول إلى النموذج في تحليل النص؛ إما برد النص إلى محيطه السياقي، أو الثقافي، أو استنطاق العلامات الموجودة به، أو بتحويله إلى بنيات صغيرة تنتج في النهاية البنية الكلية للنص.
 لقد حاولت السميولوجيا إثراء المعنى وربطه بالخارج، ليصبح النص عبارة عن نظام له خصوصيته ومقوماته، ولكنه ليس بمعزل عن غيره من الأنظمة الأخرى، فقد أعطت السميولوجيا قيمة للمعنى أو للدلالة التى أغفلتها المناهج الأخرى.
وبعد ذلك أتت التفكيكية لتفتح لنا مجالًا أوسع في مفهوم النص؛ فالنص كما يقول: جاك دريدا أحد أقطاب التفكيكية أو البينصية «لم يعد محصول كتابة منتهيًا، محتوى قد غلَفه كتاب أو حددَته هوامشه، إنما هو شبكة اختلافية، نسيج من الآثار التي تحيل أبدًا إلى شيء غير نفسها: إلى آثار اختلافية». ويقول أيضا: إن هناك «مفهومين للنص مفهوم قديم، ومفهوم جديد، ويقصد بالمفهوم القديم: التقليدي، الذي يكون النص فيه واضحًا وله بداية وله نهاية، يمكن فهم ما يحتويه النص من قراءة النص الفورية، أما الجديد فجاء بعد تغيير اجتاح مفهوم النص منذ الستينيات، منطلقًا من التفكيكية، وقد اعتبر جاك دريدا هذا التغيير الجذري، بمثابة اجتياح حطم كل حدود النص التقليدية». 
وبهذا التعريف يتحدد النص «كإنتاجية» «productivite» ومعنى ذلك أن علاقته باللسان الذي يقع فيه علاقة إعادة توزيع «هدم بناء» وهذا يستدعي منا معالجته من خلال مقولات منطقية، لا الاقتصار على المقولات اللسانية المحضة. 
لقد طرحتْ المدارس النقدية الحديثة مفهومًا جديدًا للقراءة، يرتبط فيه فعلُها بفعل التأويل في محاولة لإعادة النظر في علاقتنا بالنّصوص»، من خلال استكشاف المدى التفسيري الذي يمكن أن تصل إليه.
وأثناء مرور النقد الأدبي بهذه المراحل كان هناك اتجاهٌ آخر يتجاور معه على الساحة النقدية- بعد أن أثبت النقد الأدبي قدرته وَرَسَّخَ أدواتِهِ ومنهجه- عُرِفَ بالدراسات الثقافية، وأصبحت هذه الدراسات تُغَطِّي مساحة عريضة من الاهتمام وخاصة منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.
بالعودة إلى جذور الدراسات الثقافية نجدها قد تمثلت في ستينيات القرن العشرين على أيدي مجموعة من النقاد الغربيين حيث قدم رولان بارت في كتابه (أساطير) Mythologies عام 1957م تحليلًا للأعراف الاجتماعية، ثم تبعته محاولة المدرسة البريطانية لدراسات الماركسية الجديدة في الأدب والفن وتوجهها نحو العوام والطبقة العاملة (البرولتارية) التي قامت الماركسية من أجلها متمثلة في كتـاب «ريموند ويليامز 1921-1988» (الثقافــة والمجتمع 1958م) Culture and Society الذي يرى فيه «أن الثقافة ليست مجرد تطويرٍ وسعي لتطوير النصوص الأدبية أو تنمية جانب ثقافي معين، ولكنها تطوير للجوانب الإنسانية جميعاً بحيث تكون الثقافة العين الفاحصة، والناقد النهائي والحاسم لكل المؤسسات والأعراف والتقاليد، وتكون كذلك القَيِّم على عمليات الإحلال والتبديل والتفضيل في المؤسسات والممارسات جميعا» (كما يقول الدكتور عبدالفتاح العقيلي). فالثقافة تقوم بدور الرقيب الذي لا يسمح بتسريب ما هو فاسد أو تالف، كما أنها تقوم بعملية استنطاق للمؤسسات والأعراف والتقاليد بما لا تبوح به، فَيُكْشَفُ أمرها وتُدَمْر خططها. ويرى أيضًا عدم إمكانية فصل الأدب والفن عن الأنواع الأخرى من الممارسات الاجتماعية، ويمكن أن يكون لكل منهما سماته الخاصة والمميزة، ولكنهما لا يمكن أن ينفصلا عن العملية الاجتماعية والثقافية، أي أن البنيتين المجتمعتين لا تنفصلان عن بعضهما البعض، ذلك أن فنون الإبداع جميعًا أجزاء من العملية الثقافية والحضارية في مختلف القطاعات فهي تجسد المعاني والقيم السائدة، والتي من المستهدف أن تسود لتبدأ في تحريك المجتمعات وحفز الناس ودفعهم إلى التغيير والتغير».
وريتشارد هوجارت في كتابه (استخدام الكتابية 1958م) The uses of Literacy والذي يعود إليه تأسيس مركز بيرمنجهام للدراسات الثقافية سنة 1964م تحت مسمى: (Bir .mingham Centre For Contemporary Cultural Studies).
ثم توالت بعد ذلك الكتابات التي تؤصِّل لهذا الاتجاه، أما جذور الدراسات الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ظهرت في صيغة النقد الثقافي الذي عرف باسم التاريخانية الجديدة New Historicism وهناك سوابق لذلك الاتجاه وهم منظرو ما بعد البنيوية مثل ليفي ستروس، لوي التوسير، رولان بارت، ميشيل فوكو وبعض علماء الانثروبولوجيا الثقافية حين عالجوا الثقافة بوصفها مجموعة من النظم الدالة.
بل وتسعى الدراسات الثقافية إلى تطوير المؤسسة الثقافية نفسها بحيث تستوعب ما كان خارجًا على هذه المؤسسة فتدرس ما يمكن أن يكون هامشيًا مثل موضوعات المرأة والطفل والأقليات ثم تصبح هذه الهامشيات في مركز الثقافة ومؤسساتها. ولذلك فالدراسات الثقافية نفسها تُعَدُّ تَشَكُّلًا ثقافِيًا أفرزته ممارسات نقدية رائدة في الفكر الإنساني... لقد أخذت أهم استراتيجياتها من نظريات قائمة، وأفادت فيها كثيرًا في دراسة ظواهر كانت خارج منظور تلك النظريات. 
لقد اتسعت مظلة هذه الدراسات حتى أصبحت تغطى اتجاهات نقدية عديدة، منها (ما بعد الكولونيالية) و(المادية الثقافية) و(الماركسية الجديدة)، و(التاريخية الجديدة)، و(النقد النسوي) و(النقد الثقافي).
لقد أصبح النقد الثقافي، والنقد النسوي هما شغل النقاد الشاغل في السنوات الماضية إلى وقتنا هذا؛ لِمَا لهذه المناهج من اتصال فعال بما يدور حولنا من مشكلات وقضايا تخص الإنسان والمجتمع، لقد كان النقد الأدبي غايته البلاغة والبحث عن الجميل، ولكن لم يقف النقد الأدبي على ما وراء الجمال، وهو العيب النسقي الذي يبحث فيه النقد الثقافي. 
وبفرض أن النص في حد ذاته ممارسة ثقافية، قبل أن تكون جمالية، فإن اختيار المبدع يتوقف على ما يريد طرحه من قضايا يكشف من خلالها عن تحديه للقيم الراسخة في المجتمعات العربية، فهو لم يهمل الخلفية التاريخية والاجتماعية والخبرة التي يتمتع بها القارئ، والتي تعني الكثير عندما يحاول المرء فهم النص وتأويله. فقد عد جادامر التأويل «ممارسة فكرية دليلها الآلية أو الفن».
لذلك فإن مواجهة النصوص جماليًّا وثقافيًّا تحتاج إلى منهج نقدي يؤلف بين ماهو بنيوي وبين ما هو ثقافي، فالمنهج النقدي الجمالي يركز على جماليات التشكيل والنقد الثقافي الذي يعنى بالتركيز على القوى الاجتماعية والثقافية التي تحرك المجتمع الإنساني. ومن هنا كان لزامًا على الناقد الاستعانة بتيار نقدي جديد لمعالجة إشكالياته. 
لقد قدمت النسويات أسئلة مفصلية حول الهوية الشخصية والجسد والممارسات الاجتماعية والتخيلات الثقافية، لتعالجن كل ما له صلة بالأنثوي نفسيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا؛ فالاهتمام بالذات الأنثوية بمثابة محاولة إعادة طرح القضايا أو الإشكاليات من خلال وجهة نظر حداثية تعيد ترميم الذات الأنثوية كلما أمكن ذلك.
ونستنتج من ذلك أن النص قد ينغلق شكلًا، أي تصبح له بداية ونهاية، ولكنه ينفتح دلاليًا، فمع كل قراءة يعطينا النص دلالة مختلفة، بل ومع كل قارئ يعطينا دلالة أخرى، فالنص لا ينطوي على حقيقة ثابتة لأنها تتغير من عصر إلى عصر بحسب أفق التلقي وتجربة القراءة واختلاف مدارك المتلقين في كل زمان ومكان، ثم تغير هذا المفهوم؛ فصارت مهمة القراءة إزالة الأقنعة، واكتشاف المعاني المستترة والمتعددة لهذه النصوص. لقد أصبحت نظرية (القراءة) أحد المجالات المعرفية التي بذل فيها الفكر النقدي بمدارسه واتجاهاته المختلفة إسهامات قيَّمة ومتتابعة، وبخاصة في الثلث الأخير من القرن العشرين.
لقد شهدت الحركة الفكرية النقدية المعاصرة مرحلة فريدة في تاريخها من حيث تعدد المناهج والتيارات فضلا عن التحولات التي تمر بها القيم والمعايير السلوكية، هذه المرحلة شكلت ثورة في جميع المجالات الحياتية والمعرفية، ونتج عنها الانفتاح على قيم الآخر وثقافته، فإن التعامل مع الاتجاهات الفكرية بمختلف مشاربها بإيجابية تجعلنا نفهم منطلقاتها، ومدى تأثيرها على أدبنا العربي الذي يحمل ثقافتنا وهويتنا، فالاتجاهات النقدية هي في الأساس اتجاهات فكرية، أتت من أجل إحداث تغيير، أو تثبيت فكرة أو نفيها، لا تقف عند حدود النص الإبداعي بل تتجاوز ذلك إلى الفكر الإنساني ■