الصويرة أرض التعايش الفطري والتنوع الخلاق

الصويرة  أرض التعايش الفطري والتنوع الخلاق

تتنوع مدن الساحل المغربي، عبر شاطئي المتوسط والأطلسي، لكن تبقى فرادة «الصويرة» لغزاً يستعصي على الفهم، المدينة التي تغوي الفنانين والحالمين ليستقروا بها، هي شبه جزيرة هادئة بين المحيط وغابات «الأركان»، سجلتها «اليونسكو» ضمن قائمتها للتراث الإنساني، بعمرانها العائد للقرن الثامن عشر، وتتجدد روحها عبر تلاقح نادر ومستمر، يحرسه هديل الأرواح الهائمة في زواياها الصوفية، وتذكيه أهازيج عشرات المهرجانات والكرنفالات التي تحتفي برقصة الحياة على مدار العام، وهي تجسيد حي لمعنى التعايش الشغوف بين الأعراق والأديان على مدى ثلاثة قرون، وإلى الآن، لكن يبدو أن كل هذا لا يفسر سحرها، يجمع مجاذيب المدينة - وكاتب هذه السطور منهم - على أن سرها أعمق من كل ذلك؛ فالمدينة تمنحك مفاتيحها بسهولة، لكنك تفاجأ بأن وراء كل باب تفتحه دهليزاً، يقود إلى متاهة، وأن لشوارعها امتدادات لا مرئية، تستعيد أصداء ماضيها كل مساء، هنا يصعب التمييز بين الواقع والخيال، ويتداخل التاريخ مع الأساطير، وقد انتظرت سنوات، على أمل الإمساك بسرها، قبل أن أكتب عنها، لكنني اكتشفت، وسيكتشف معي القارئ أن الصويرة مدينة لا تبوح بأسرارها.

زيارة عابرة قبل سنوات، عرفتني على المدينة الصغيرة، كانت رحلة منتصف صيف، وأول ما لفت نظري طقسها، حيث لم تزد حرارتها عن بضع وعشرين درجة، ما بدا غريباً لمدينة جنوبية، تبعد عن «الرباط» العاصمة بحوالي 457 كم. وهي ليست ساحلية فحسب، ولكن تقع داخل المحيط، كنتوء يشكل شبه جزيرة صغيرة، وتسبق «أكادير» الشهيرة، بحوالي 170 كيلومترا. تلقب الصويرة بـ «مدينة الرياح»، وهو ما يجعلها قبلة لمحبي الرياضات المائية من أنحاء العالم، والذين يلونون سماءها بأشرعتهم، بينما يتزلجون على مياهها، بضعة شهور متفرقة على مدار العام، أما أبنيتها البيضاء، وأبوابها ونوافذها الزرقاء، فتذكر زائريها بالطابع المتوسطي لبعض مدن الساحل اليوناني، وحتى «سيدي بوسعيد» التونسية، لكن الصويرة أقل صرامة فيما يتعلق بالطابع، وتتيح للون الحجر أن يخفف نصاعة بياضها، ولألوان متنوعة أن تموه تصنيفها، ويصل الأمر إلى «كرنفالية» بصرية في شوارعها السياحية، عندما تتجاور ألوان التراث المغربي عموماً، مع الصويري الأكثر وقاراً، الخزف المزخرف القادم من الجارتين «مراكش» و«آسفي»، مع الجلود القانية من فاس، ومنسوجات الشمال البعيد الفوسفورية، يختلطون بالأواني المحلية من خشب «العرعر»، ومنتجات قش «الرافيا»، ومستحضرات زيت «الأركان» الصويرية. الشوارع ضيقة بمقاييس العصر، لكنها تخلق شعوراً بالحميمية والألفة، مع مزيج أعراق، يتجولون بين أرجائها، باحثين عن شيء ما خفي ويبدو مشتركاً، أما أهلها، فيعيدونك عبر الزمن عقوداً، وربما قروناً، بسبب بساطتهم وطيبتهم، وأدبهم الجم، ويتجلى هذا طبيعياً فطرياً، بلا دوافع تجارية أو سياحية، وسيلفت نظرك، العدد الكبير من قاعات عرض وبيع اللوحات التشكيلية، والمنحوتات المعدنية والخشبية التي تتجاور في ألفة مع المقاهي، وحوانيت البقالة، وعربات الخضر والفاكهة. هذا هو الوجه الأول الذي تطالعك به المدينة، لكنه ليس كل شيء.

باب البحر
ستصيبك الصويرة العتيقة بالجنون، وهي التي تطل على الأطلسي، وتتداخل معه، لكنك لن تعثر فيها على البحر، كنت خلال استكشافي لها، أسير عبر دروبها الضيقة، وأعبر من تحت ممراتها المسقوفة الصامتة، فيأتيني صوت الموج من بعيد، وكنت أعرف أنني أقترب، كلما ارتفع الصوت، وملأت رائحة اليود صدر الأزقة الضيقة، وحتى عندما وصلت إلى حيث أندى رذاذه ملابسي، فإنني لم أره، هذه هي الصويرة، مدينة تحت البحر، غارقة في رطوبته وأساطيره، لكنها لن تسمح لك أن تراه، فالمدينة الحصن، اتخذت من الأسوار درعاً يحميها من أشرعة الغزاة، المفرودة كأجنحة الجوارح، والتي كانت تناوشها من وقت إلى آخر. وبقي البحر يضرب بأمواجه جدرانها، منذ نشأتها وإلى الآن، ولرؤيته، عليك أن تصعد إلى الرصيف الحربي للمدينة، والمعروف بـ «السقالة»، لتتلصص عليه عبر فتحات المدافع المشرعة نحوه، أو أن تواصل السير إلى الحد الجنوبي للمدينة، حيث تخبرك المراجع بوجود باب للبحر، لكن المدينة الآن صارت تنفتح على مينائها مباشرة عبر ساحة «مولاي الحسن»، والتي يطل جانب من طرفها على البحر، وتنفتح من الجهة الأخرى على شاطئ المدينة الحديثة خارج الأسوار، وهي الساحة التي كانت في الماضي قصر السلطان المؤسس، وتشهد حالياً الحفلات الكبرى لبعض المهرجانات، كما تطل عليها مجموعة من المقاهي، ذات طابع «فرانكو مغربي»، وفيها تقيم الفرق الموسيقية والفنانون الجوالون عروضهم على مدار اليوم، كما يعبرها الصيادون نحو قطعانهم الزرقاء التي تنتظر في أحواض الميناء، ببطون خشبية فارغة، ليخرجوا بها إلى المحيط الشاسع بحثاً عن الرزق.

ميناء تمبكتو
الميناء هو سر وجود الصويرة، ولأجله شيدت الحصون، وأقيم العمران، أراد السلطان المؤسس، «سيدي محمد بن عبد الله» المعروف بـ «محمد الثالث» أن يكون لديه مرفأ للتجارة بين أفريقيا، والعالم، فكان ميناء الصويرة الذي شيد منتصف القرن الثامن عشر، وهو لم ينشأ من العدم، فالمراجع تؤكد وجود ميناء سابق، أصغر، وأقل أهمية، وقد وصفه الرحالة والجغرافي «الأندلسي البكري» في القرن الحادي عشر، قائلا: «ميناء «أمكدول» هو مرسى مشتى آمن..». وهذا هو اسم المنطقة القديم، والذي يقال إنه يرجع إلى ضريح «سيدي مكدول» الذي يبعد حوالي ثلاثة كيلو مترات عن المدينة العتيقة، وإليه أيضا يرجعون اسمها الذي أطلقه عليها البرتغاليون، وهو «موكادور»، وظهر الميناء القديم أيضا في خريطة «بيتريس باسكنتي» التي ترجع إلى عام 1311م، ووصف بأنه محور وملتقى لتجارة القوافل القادمة من مناطق «سوس»، و«حاحا» و«تانسيفت» جنوب المغرب، كما عرفت في عصور أقدم بـ «تاموزيكا»، حيث حط على الجزيرة المقابلة كل من الفينيقيين، والقرطاجيين، والرومان، ومن الطريف أنه بعد بناء «الصويرة»، أطلق التجار الأجانب على مينائها اسم «ميناء تمبكتو»، وهي المدينة التي تقع في أفريقيا جنوب الصحراء، وتبعد قرابة أربعة آلاف كيلو متر! وذلك نظراً لتوافر كل السلع الأفريقية التي كانت تتجمع من «تمبكتو» بها، وكانت تصل إلى الصويرة عن طريق قوافل منتظمة، ليجري تصديرها إلى دول العالم، وقد بني الميناء والمدينة في لحظة انفتاح، ليس فقط من الناحية التجارية، ولكن سياسياً أيضا؛ إذ واكبه افتتاح عدد من القنصليات لدول مثل إسبانيا، والدانمارك، وفرنسا، والبرازيل، وإيطاليا، وإنجلترا، والبرتغال، وبعض أبنيتها التاريخية ما زال قائماً، وقد تحولت قنصلية إسبانيا إلى المعهد الموسيقي، بينما يجري ترميم مبنى قنصلية الدنمارك لتحويله إلى مركز ثقافي، وعبر ميناء الصويرة، حصلت أوربا على الذهب والتوابل الأفريقية، ودخل الشاي من الصين، والذي صار «الأتاي المغربي» الشهير، وتشير الوثائق إلى أن ميناء الصويرة شهد تبادلاً للشمع والسكر والحديد والأخشاب، والموالح والتمور والسمسم واللوز والقمح والسجاد وجلود الماعز، والعاج الأفريقي والرقيق وريش النعام، وإلى الآن هناك حضور أفريقي واضح في المدينة، من المنتجات التراثية، والحرفية، إلى الفرق الموسيقية والأزياء. اليوم لن ترى في الميناء سوى قوارب الصيد، وباعة الأسماك، وفي الداخل يمكنك الحصول على صفقة جيدة من «الحوت ديال لبلاد» وليس «ديال أكادير» كما يحب أن يؤكد البائعون كدليل على الطزاجة، وكل ما في الصويرة، يروج له على أنه «ديال لبلاد»، كصك بالجودة، وضمان بالأصالة، والميناء هنا مفتوح للجميع، وتوجد داخله عدة «شوايات» شعبية، تتسلم مشترياتك من الأسماك، وتتولى إعدادها، كما تنتشر عربات بيع المحار الذي يؤكل نيئاً، وعلى الأرجح حياً، بعد عصر قطرات من الليمون عليه، ويقبل بعض السائحين على تجربة تلك الطقوس، بينما يفضل آخرون تناول الأسماك في المطاعم القريبة خارج الميناء، أو الموصى بها في تقييمات المواقع السياحية.
وكما وضع الميناء بصمته على عمران المدينة الحربي، هيمن أيضا على تخطيطها المدني، فقد روعي أن تناسب المدينة الناشئة استقرار فئات متباينة، استقدمها السلطان المؤسس، وكانوا من كل ربوع المغرب، ومن أديان وخلفيات وطبقات مختلفة، ولذلك تم تخصيص «حومة» أو زنقة لكل منهم تحمل اسمهم، وشبه مغلقة عليهم، وهو التقسيم الذي مازالت تحتفظ به إلى الآن، من زنقة أبناء أكادير إلى بني عنتر، ومن البواخير، والشبانات، إلى مزغينا، ورحالة، وجبالة، وحاحا، بالإضافة للملاح الذي سكنه اليهود المغاربة، والقصبة التي ضمت بيوت كبار التجار من كل الخلفيات، مع الأجانب والحكام، وكان الميناء منفذاً لتجارة العبيد المعلنة والسرية، في فصلها الأخير، قبل أن تبدأ دعاوى إلغائها. وهذا الحضور التاريخي لذوي الأصول الأفريقية بالمدينة، هو ما سيجعلها معقلاً لفنون «كناوة»، ومكاناً مختاراً لزاويتها. 

معلمو كناوة
«كناوة» موسيقى يفخر الصويريون بانتمائها لهم، حضورها واضح، حتى لدى الأجيال الجديدة المتعلمة، وهي ذات طابع أفريقي، لا تخطئه الأذن، سواء على مستوى سلمها الخماسي، أو السمات النغمية لموسيقى غرب أفريقيا، والإيقاعات التي تصدرها «القراقب»، وهي نوع من «الصاجات» المعدنية، لكنها كبيرة ومزدوجة، ما يجعلها تصدر أصواتاً مضاعفة، كذلك يستخدمون الطبول الكبيرة أحيانا، أما الآلة الموسيقية القائدة لهذا الفن، فهي «الكِنْبري»، والتي يطلق عليها أيضا «السنتير»، و«الهجهوج»، وهي آلة مستطيلة، ثلاثية الأوتار، مظهرها بدائي، وصوتها عريض، وشجي ذي قرار، ويختص بعزفها «المعلم». لكن «كناوة» ليست مجرد موسيقى، بل ثقافة كاملة ذات أبعاد روحية تصوفية، وقد سجلتها اليونسكو أيضا ضمن التراث الإنساني، وبالإضافة لحضورها اليومي في حياة الصويريين، يقام لأجلها مهرجان «كناوة وموسيقى العالم»، في الأسبوع الأخير من شهر يونيو سنوياً، ومنذ ربع قرن.
إيقاعات «كناوة» الغامضة، كانت مصدراً لحيرتي، في أيامي الأولى بالصويرة، فخلال تجوالي في شوارعها ليلاً، سمعتها خافتة خلف الصمت المطبق، ولم أكن واثقاً من حقيقة الأمر، خصوصاً عندما كانت تختلط مع صوت الموج، المدينة من حيث الظاهر، توهمك بأنها تغط في النعاس. وغالباً لا نعثر على مصدر محدد لتلك الأصوات، وقد تملكتني فكرة أن ما أسمعه هو صدى أصوات قديمة، اختزنتها الجدران، وتعيد بثها في الليل، وأحياناً بدا لي، وكأنها تصدر عن سراديب تحت الأرض، بدأت أتحراها في كوات صغيرة في الجدران والأرض الحجرية. سأقف لاحقاً أمام ورشة صغيرة قرب ساحة «أشريب أتاي»، وبالداخل ينهمك رجل أسمر نحيل في صنع آلة «الكنبري»، أسأله عن نوع الشجر الذي ينحت من جذعه صندوقها، فيخبرني باقتضاب: «صنوبر»، أشاهد مجموعة من الآلات المعلقة حوله، في مراحل مختلفة من التصنيع، وقد شد على بطونها المفرغة جلد الجمل السميك، أتبادل معه بضع كلمات، وأمضي، اعتقدت وقتها أنه واحد من الحرفيين الذين تمتلئ بهم المدينة، وصرت أحفظ وجهه، لمروري شبه اليومي أمامه، حتى كنت في إحدى الحفلات الكبرى لمهرجان «كناوة»، في ساحة «مولاي الحسن»، والتي تزدحم بالآلاف، وفجأة صعد إلى المسرح النجم المنتظر، وأحد المعلمين الكبار، مرتدياً ثياباً مهيبة، جعلته يبدو ككائن أسطوري خارق للطبيعة، وأخذ يعزف بحضور طاغ مصحوباً بفرقته الكبيرة، وسط صيحات الحضور، وكانت المفاجأة التي تنبهت لها فجأة أنه هو نفسه الرجل الذي كنت أراه يعمل في ورشته الصغيرة، ولم يكن سوى المعلم «عمر حياة» أحد أهم معلمي «كناوة»، والذين تفتخر بهم الصويرة، وسيتكرر الأمر مع رجل آخر، يبيع ملابس و«اكسسوارات» «كناوة» التي يصنعها بنفسه في دكانه الصغير للغاية في زقاق جانبي، يصعب العثور عليه، واكتشف أنه المعلم «نجيب السوداني»، والذي سيدعوني لحضور ليالي «كناوة» التي كان يقيمها بانتظام مساء الأحد من كل أسبوع في «زاوية سيدنا بلال»، هكذا تكشف لي على مهل العالم الغرائبي لـ «كناوة» ومعلميها، والذين يسافر بعضهم لإحياء الحفلات في أنحاء العالم، ولكنهم يعيشون الحياة البسيطة التي عاشها أسلافهم في المدينة، طوال مئات السنين، محافظين على تراثها. 

جذور أفريقية
نشأت موسيقى وطريقة «كناوة» على أيدي العبيد المجلوبين من أفريقيا جنوب الصحراء قبل قرون، وتم ذلك من خلال مزج عفوي بين الجذور الأفريقية، وتراث المغرب، بتصوفه الإسلامي، وثقافتيه الأمازيغية والعربية، ما أنتج هذه الحالة الفريدة، وتختلف الآراء حول أصول كلمة «كناوة»، بين من يعتقد أنها تحريف لكلمة «غينيا»، التي أطلقها البرتغاليون على مناطق من أفريقيا، وبين من يرون أن أصلها هو كلمة «أكناو» الأمازيغية التي تعني أرض الرجل الأسود. ويحمل أحد فروع عائلات «كناوة» بالصويرة اسم «غينيا»، ومنهم المعلمون بوبكر، وعبد الله، ومحمود، ومختار، وحسام غينيا، كما يوجد فرع يحمل لقب السوداني، ومنهم المعلم حزو السوداني، ونجليه علال، ونجيب السوداني، كما يحمل آخرون ألقاباً متنوعة، وبعضهم ينتمون لتيار بدأ في السبعينيات، حيث دخل إلى عالم «كناوة» معلمون من خارج عائلاتها التاريخية. والآن يشهد المهرجان حضور عدد من المعلمين الكبار مثل عبد السلام عليكان، وحميد القصري، وسعيد ومحمد كويو، وحسن يوسو، ومصطفى باقبو وغيرهم، وكل يوم يدخل معلمون جدد إلى عالم كناوة، حتى أنه صارت هناك معلمات شابات من النساء، لديهن فرق خاصة، وهو أمر جديد على الظاهرة «الكناوية»، رغم أنه كان دائماً للنساء دور فيها، ولكن كـ «مقدمة» تقوم بأدوار مساعدة، وليس كمعلمة، وتتخذ «كناوة» من «زاوية سيدنا بلال» مركزاً روحياً لها، والمقصود هنا هو مؤذن الرسول، والذي يعتبر رمزاً للطريقة، بسبب جمعه بين الأصل الأفريقي، ووقوعه في العبودية فترة من حياته، وكونه صحابياً ومؤذنا للنبي. وهو ما يعكس المزيج المكون لها. ويقام موسم الطريقة في شهر شعبان من كل عام، لمدة ثلاث ليال.

الجذبة
تمتد الليلة «الكناوية» التقليدية من الثامنة مساءً إلى الثامنة صباحاً، وتمر عبر مراحل تسمى «الدردبة»، تبدأ بالمدائح النبوية، ومدائح الأولياء، وتنتقل إلى ما يعرف بأولاد بنبرة وأولاد السودان وأولاد فولان، وهي قصص حول الأجداد الذين عاشوا في أفريقيا جنوب الصحراء. بعض أغنياتهم تبدو كنحيب، لما تحكيه من قصص مأساوية، عن وقوع الأجداد المسالمين في الأسر، بعد حياة هانئة عاشوها مع عائلاتهم، قبل أن يخطفوا، ويباعوا في بلاد بعيدة، ليقوموا بالأعمال الشاقة، لكن بعض الموسيقى يبدو مرحاً، ويصل إلى درجات من الفرح، إلى حد لا يتمالك المستمع نفسه، فيبدأ الرقص، ويرجع هذا إلى عدد من تناقضات هذا الفن، ورغم الأسرار التي تحيط ببعض الطقوس، فإن الثلاث ساعات الأولى من الليلة متاحة للعامة، وتؤدي ضمنها ما يسمى بـ «أولاد بنبرة»، وتضم أغنيات متنوعة لموضوعات عادية، فأحياناً تحكي عن قصة حب، أو تتضمن حكايات طريفة، يشارك في آدائها رقصاً وحركة وتمثيلاً بعض عازفي «القراقب»، كما أنها تضم ألغازاً، وتلاعباً بالألفاظ، كان يقصد ببعضه في الماضي الاستهزاء بالسادة، فالعبيد الذين عانوا القهر قبل قرون، كانوا يبتكرون الحيل الفنية للتنفيس عن غضبهم، من خلال كلمات وإشارات مموهة، يفهمونها فيما بينهم، ويمكن النظر إلى ما يحدث في ليلة «كناوة»، كطقس استشفائي تطهري، تعرض فيها المعضلات النفسية والجسدية على عالم روحي خفي، ليتولى مسؤوليتها، فيحدث الانعتاق. ويقود الطقس المعلم ومساعدوه، ونظراً لتباين مراحله، فإن الموسيقى أيضا تتنوع بين النحيب، والثورة والتحرر والصفاء، وتتنوع أيضا ألوان الملابس وفق دلالات ووظائف ما ورائية، وفي الليلة الكناوية ستستمع إلى أسماء أولياء ذكور، كمولاي إدريس، ومولاي إبراهيم، وعبد الله بن حسين، وبعضهن إناث مثل «للا عايشة» و«للا فاطيما» و«للا ميمونة». وعلى العموم تسير الليلة الكناوية وفق إيقاع متصاعد نحو هدف محدد وهو «الجذبة»، وفيها تنصهر الأغلال، ويتحقق التحرر، وهنا سنلاحظ قدرة «القراقب» على التعبير عن صوت الأصفاد، وتحولها إلى صليل سيوف، ثم شخاليل احتفال بالنصر. والطقس قادر على استيعاب كل صنوف العبودية في كل العصور، وهو ما يجعله ذا شعبية. وما دمنا نتحدث عن «كناوة» فيجب أن نشير إلى أن هناك نوعاً آخر منها بخلاف هذا اللون الصويري الحضري، وهو كناوة قروية، ارتبطت بعبيد القبائل خارج نطاق المدن. ويرتدي ممارسوه أثواباً وعمامات بيضاء بدلاً من الملونة التي يرتديها الصويريون. كما يعتمدون على الطبول الكبيرة والقراقب، دون آلة «الكنبري»، وتتضمن ممارساتهم زيارة عدد من الأضرحة، ولا يحتل البعد الاستشفائي لديهم ما يحتله في اللون الصويري، ويشارك بعضهم ضمن مهرجان «كناوة السنوي».

مدينة الفنون
في عام 2019 تم اختيار الصويرة من قبل اليونسكو ضمن شبكة المدن المبدعة، وهي المدن التي تحولت بفعل التنوع الثقافي إلى أماكن للإبداع، والذي يعتبر عاملاً رئيسياً في تنميتها. وبخلاف «كناوة» تعيش الصويرة على إيقاعات موسيقية متنوعة، من الأندلسي والملحون الصويري إلى حمادشة وعيساوة الصوفية، وأحواش الأمازيغية، ومن يعيش يومين فقط في المدينة سيلاحظ الحضور الطاغي للفنون بأنواعها، والتي تدعمها المدينة من خلال أكثر من عشرين مهرجانا كل عام، وعشرات الفعاليات تقدمها الزوايا والجمعيات والفرق الخاصة، كما تحولت شوارع المدينة إلى معرض مفتوح للإبداع التشكيلي، ومسرحاً مفتوحاً للفرق الموسيقية العابرة للثقافات تقدم عروضها على مدار الساعة، وهذا ما يشجع العديد من الفنانين للاستقرار بها.
«الحياة في الصويرة» هو عنوان كتاب للفرنسي «جورج لابساد»، يحاول اكتشاف سر جاذبيتها. وهو ليس الوحيد الذي كتب عن تجربة العيش فيها، فالكثيرون أقاموا بها، والآن يستقر بها العشرات منهم، يقيمون المعارض، وبعضهم لديه قاعات خاصة، ويقيم أوربيون آخرون مشاريع تتعلق بتسويق الفن، ويحتفون على الأغلب بأعمال الفنانين الفطريين من أبناء المنطقة، وهناك طفرة حدثت خلال العقدين الآخيرين فيما يتعلق بهؤلاء، ومن أشهر من حظوا بالاهتمام الفنانة الراحلة «بنحيلة الركراكية»، كما تعرض أعمال الفنان «بن علي» على نطاق واسع، وقد حرص «جاليري القصبة»، وهو أكبر فضاء للعرض في الصويرة على الاحتفاء بمجموعة من فناني المدينة الراحلين، ومنهم «بوجمعة الأخضر»، وعبد الرحمن الزياني»، ومحمد خبيش»، و«الصديق الصديقي»، و«على ديحوح»، و«عبد الرحمن لحشيوش» وغيرهم. ولا تخلو الصويرة من معارض لفنانين غربيين معاصرين، يشهدها دار الصويري والمعهد الفرنسي وغيرهما. ولا يمكننا أن نغفل هنا كون الصويرة مكاناً مختاراً لعدد من المخرجين الذين  قاموا بتصوير أعمالهم بها، ومنها فيلم «مملكة الجنة» للمخرج «ديدلي سكوت» و»لعبة العروش» في موسمه الثالث عام 2012، وفيلم «أرض» الهولندي عام 2012 الذي تم تصويره في منطقة مولاي بوزرقطون القريبة، وفيلم «النمر زندهان» للهندي «سلمان خان»، وغيرها. إلا أن الاهتمام بالصويرة أقدم من ذلك بكثير، ويرتبط بواقعة حصول المخرج الشهير «أورسون ويلز» على سعفة مهرجان «كان» الذهبية باسم المغرب عام 1952. الفيلم هو «عطيل» المأخوذ عن مسرحية شكسبير. وتم تصوير العديد من مشاهده في مدينة الصويرة. وكانت ظروف إنتاجية قد أدت إلى لجوء المخرج للمدينة القديمة، بديلا عن بناء «الديكور». وقد وجد عونا استثنائيا من أهلها، فدخل المسابقة باسم المغرب عرفانا لهم، وفاز بالجائزة. وما زالت المواقع التي صورها الفيلم قائمة، ويأتي بعض المهتمين للبحث عنها، وإعادة التقاط الصور لها. ولأجل إحياء تلك الذكرى تم إطلاق اسم المخرج الشهير على إحدى ساحات الصويرة الملاصقة لسور القصبة من الخارج، وتطل على البحر.

«هندريكس» في الديابات
«الديابات» قرية صغيرة على مرمى بصر الصويرة، وتظهر بوضوح فوق تلة تطل على الشاطئ، بأبنيتها البيضاء، وهي الأخرى جذبت الكثيرين حول العالم للإقامة فيها، وخصوصاً الموسيقيين. وهو موضوع كتاب «جميع الهيبيين يذهبون للديابات»، للكاتب والمؤرخ الفرنسي «دومينيك روسو» الصادر عام 2018. ويحكي في 170 صفحة عن عدد من الفنانين والحالمين الذين مروا بالديابات، أو أقاموا بها بعض الوقت، بداية من فنان «الروك» الشهير «جيمي هندريكس» الذي ينسب له تطوير موسيقى الروك، نهاية الستينيات. وما زالت الديابات تحفظ ذكراه من خلال مقهى «جيمي»، ونُزل «هندريكس»، وحكايات يمتزج فيها الحقيقي بالأسطوري. وما زال بعض السكان الكبار يذكرونه، وهو يحمل جيتاره، في شوارع القرية، وعلى الشاطئ الذي يصلها بالصويرة. ويشير الكتاب إلى جاذبية القرية لشباب «الهيبي» منذ نهاية الستينيات، وشهرتها في أوساط الموسيقيين الجوالين، والباحثين عن أماكن وادعة، ملتحمة بالطبيعة. ومؤلف الكتاب هو أيضا من عشاق الصويرة، ويقيم بها منذ عشرين سنة. وتضم الديابات مسجداً بناه السلطان المؤسس. ويعتز أهلها بالظهير السلطاني الذي كلفهم بحماية الشاطئ، ومنحهم امتياز الإقامة، بعد استقدامهم من قبائل «حاحا» لحراسة المدافع التي أنزلها هناك. وبقرب القرية تقع أطلال ما يعرف بقصر السلطان، والذي ذكر في بعض الكتب باسم «الدار البيضاء». وقد وردت حكايته في كتاب «الشموس المنيرة في أحوال مدينة الصويرة» لمؤلفه أحمد بن الحاج الرجراجي الرباطي، حيث بناه أحد التجار، ثم آل إلى المولى عبدالرحمن عندما كان واليا على جنوب المغرب، وأقام به ثماني سنوات منذ عام 1814. وعندما صار سلطانا، تحول إلى بيت ضيافة لكبار الزوار، حتى أهمل، وكما يتضح من الكتاب فقد كان مهجورا ومهدما، وقت صدوره عام 1935.

أبواب المدينة
للصويرة العتيقة بوابات تاريخية، القائم منها الآن أبواب «دكالة»، و«مراكش»، و«السبع». ويعتبر الأول أكثرها ازدحاما بالمارة بين الصويرة العتيقة والحديثة على مدار اليوم، ويقع في الجهة الشمالية، التي تشير إلى منطقة «دكالة» على بعد أكثر من مائتي كيلومتر، ويليه باب مراكش الذي يقع في الشرق، متوجهاً نحو المدينة الأشهر بالمغرب التي يحمل اسمها، أما باب السبع، فهو الأكثر استخداماً من قبل السائحين، لقربه من البحر والممشى السياحي، ويصل بين المناطق الأرقى في الداخل والخارج، وتختلف الآراء حول سبب تسميته، ولبعضها طابع أسطوري. وهناك أبواب لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ مثل باب العشور، وأبواب أقل أهمية واستخداماً مثل باب المنزه.
وأيا ما كان الطريق الذي تصل منه إلى الصويرة، فستدخل أولاً إلى المدينة الحديثة التي صارت تطوق المدينة التاريخية. والطريق القادم من «مراكش»، يتيح فرصة لإلقاء نظرة على المدينة من أعلى، حيث تظهر كاملة بشقيها، وبمبانيها البيضاء، بين الغابة، والبحر. أما إذا كنت قادما من «أكادير» في الجنوب، فسوف تدخل مباشرة إلى حيث يلتقي الشاطئ بالمدينة الحديثة. وسيكون في استقبالك عدد من المقاهي الأنيقة، التي تطل مباشرة على البحر. والجزء الحديث عصري وهادئ، بلا أبراج، أو مبان مرتفعة. والشوارع واسعة ومنظمة، ويمكن قطعها من أولها إلى آخرها في ساعتين على الأقدام، ويتنقل بعض السكان المحليين بـ»الكوتشي»، والذي يجره حصان، ويمنح المدينة طابعا تراثيا، ويعتز الصويريون بأن مدينتهم الصغيرة غير قابلة للتوسع، لكونها محصورة بين البحر والغابة المحمية، وهي ضمانة بالحفاظ على هدوئها، لكنه يسبب ارتفاع أسعار العقارات بها.

جزيرة موكادور
أينما كنت على شاطئ الصويرة، فليس بوسعك أن ترى الأفق، إلا تتوسطه جزيرة موكادور. وهي الكبرى ضمن أرخبيل، يحيط به الشاطئ في نصف دائرة، تمتد لعدة كيلو مترات، وتبعد بحوالي كيلو متر في المتوسط، ويظهر عليها مسجد، وسور لسجن قديم، وقد ترك بها الفينيقيون والرومان آثارا، كما نزل بها البرتغاليون، ودارت عليها معركة مع الفرنسيين، لكنها تبدو الآن قد نفضت عنها كل أفاعيل البشر، وأصبحت تستمد أهميتها من كونها موطناً لصقر «إلينورا» النادر، والخاضع للحماية، ورغم أنه اكتسب اسمه من ملكة سردينيا «أليونورا دي آربوريا» التي اهتمت بالصقور، ووضعت القوانين لحمايتها، لكنه صار رمزاً بيئياً للمدينة، حيث عرفه السكان المحليون منذ القدم باسم «أفالكاي»، والتي تعني بالأمازيغية: الطائر الجميل، وتعتبر الجزيرة أحد أهم أماكن هجرته، وفيها يتزاوج، ويضع البيض، وعلى أرضها يبصر فراخه النور، وتقدر أعداده عليها حاليا بألف وخمسمائة زوج، متضاعفة ثلاثين مرة خلال عشرين عاما، نتيجة جهود وطنية ودولية لحمايته من الانقراض، وفي أكتوبر الماضي ولدت واحدة من أحدث فعاليات المدينة، وهي مهرجان «صقر إلينورا»، وتضمن «كرنفالاً» استعراضياً، لمجسمات الطائر مع موسيقى «كناوة»، وندوات علمية، ومعرضا للصور الفوتوغرافية، وشارك فيه تلاميذ المدارس بفعاليات فنية ومسرحية. 
وبشكل عام، تعتبر الطيور من ملامح الصويرة، وتتداخل مع حياة الناس، النوارس تسمى هنا «العوا»، وهي كبيرة نسبيا، بيضاء، بأطراف أجنجة سوداء، ومنقار وأرجل صفراء، لا تهاب البشر، وتقتات على بقايا طعامهم، كما تحتل أسطح وشرفات المنازل، وتعتبر عنصراً مميزاً لجمال الشاطئ، خصوصاً في الصباح الباكر، وعند الغروب، عندما تتجمع بالمئات، وتقف في سكون مهيب، كما تشكل سحبا، تظلل مراكب الصيد العائدة إلى الميناء، طمعا في الحصول على شيء من الغنيمة. 

جيوب زمنية
التراث هنا ليس ثقافة من الماضي يجري استعادتها، ولكنه حاضر حي، يتمطى بأريحية، وثقة في البيوت والشوارع والأسواق. أحيانا يشعر المرء بأنه وقع داخل جيب زمني، أو فقاعة تحتفظ بالماضي، وتسخره ليعيد تكرار نفسه إلى الأبد، وتشكل منطقة باب «دكالة» ملمحاً خاصاً في هذا الصدد؛ فكل شيء من أبنية، وبشر، وملابس، وسلع، تبدو وكأنها تنتمي إلى قرون مضت، ومع ذلك، فهي تنبض بالحياة، وكل جزء من الشارع الرئيسي، وعلى جانبيه مازال يحمل اسم تخصصه القديم، من الخضَّارة للخبَّازة، ومن الجزارين للعطارين، ووصولا إلى تقاطع الشارع القادم من باب مراكش، فما زالت المنطقة آهلة بالحرفيين والبسطاء، على عكس المنطقة التالية باتجاه القصبة، والتي كانت سكنا لكبار التجار والعائلات الثرية، وما زالت مكانا للنزل الأرقى، والمحال التجارية الأكثر فخامة، وحتى «يهود» المدينة، فقد سكن فقراؤهم «الملاح» قرب باب دكالة، بينما سكن أغنياؤهم حي القصبة مع أغنياء المسلمين والأجانب، وتبدو المنطقة الشعبية متغافلة عن اعتبارات السياحة، وتواصل دورها في توفير احتياجات المواطنين العاديين بأسعار رخيصة، ولكن هذا بالذات ما يجعلها جاذبة للبعض لإلقاء نظرة على حياة حقيقية، تنتمي إلى زمن آخر، هنا قد يتوقف المرء فجأة أمام أحد الحوانيت التقليدية، حيث يجلس عجوز بالداخل، وحوله سلع من زمن مضى، غاطاً في النعاس، ويتخيل أنه انتقل في الزمن، أو يقف أمام إحدى لوحات المستشرقين، وقرب التقاطع المذكور الذي يتفرع إلى «سوق جديد» يمينا، و»سوق واقة» يسارا، توجد قيسارية تقليدية مسقوفة، تتكون من عدة دروب ضيقة، تبيع محالها الصغيرة الخضر والفاكهة والحبوب والعطارة والدواجن، وغير بعيد سوق للأسماك، تحيط بها محال للعطارة. وهي تعرض التوابل وتروج للوصفات التقليدية، ومستحضرات العناية الشخصية بزيت «الأركان»، والصابون البلدي وغيرها، وعلى الجهة الأخرى توجد منطقة للخياطين التقليديين، ومطاعم المأكولات الشعبية، وشوايات السردين، وهو الأكلة الشعبية الأولى في الغذاء، بالإضافة لـ «المسمن» و»الحرشة» و»البيني» مع «الأتاي» للإفطار أو العشاء، وأشهر من يقدمها هنا العم «ميلود»، مصحوبة بصوت أم كلثوم، وأحياناً يقوم بالعزف بنفسه على العود، مدندنا بأغان شرقية، على مقعد في عرض الطريق. كما تنتشر عربات بيع «الببوش»، وهو نوع من حلزون الغابة، تصنع منه مرقة مع الأعشاب والتوابل، ويلتقط لحمه بعصا صغيرة من قواقعه الصغيرة. وغير بعيد تقع «الجوطية»، والتي يقام فيها مزاد يومي عقب صلاة العصر، يسمى «الدلّال». وهو تراث حي منذ القدم، يميز الصويرة، وإن كان له شبيه في قليل من المدن المغربية كالرباط. ويمكن لأي شخص عرض سلعته أيا ما كانت للبيع بالمزايدة، بعد تسجيل اسمه، وتبدأ السلع من الملابس المستعملة والجديدة، ولا تنتتهي بالدراجات، ومستلزمات السيارات، والأثاث والمفروشات، ومشغولات النحاس، وحتى التحف القديمة واللوحات، وأحيانا تكون المعروضات من واردات أوربا، التي يجلبها المغتربون خلال زياراتهم للمغرب، وينهض أصحاب السلع وفق دورهم، ليعرضوا ما لديهم، مع ذكر تفاصيله، وسعره الافتتاحي، ويبدأون بالطواف على الجمهور، فيتناولها المهتمون لفحصها، وتبدأ المزايدة وتستمر، حتى يرسو المزاد على أعلى سعر. بعض السلع المعروضة عادي للغاية، وبعضها نادر، وبإمكان الشخص المواظب على الحضور أن يجد أشياء قيمة بأسعار جيدة، والمتعة الأكبر هي مشاهدة معروضات غير متوقعة، وأحيانا غريبة، وهو ما يدفع الكثيرين لحضوره. 

شواهد تاريخية
خضعت الصويرة لعديد من الدراسات حول آثارها وتاريخها، ويعتبر كتاب «مدينة موكادور  السويرة دراسة تاريخية وأثرية» للدكتور مينة المغاري أهم مرجع حتى الآن بهذا الخصوص. وقد تعمدت كتابة الاسم بالسين، ترجيحاً منها لأصل التسمية الذي يستند إلى السور المحيط بها. وتشير إلى كون المنطقة مأهولة منذ عصور بعيدة، حملت خلالها عدة أسماء، وزادت أهميتها كنافذة على أفريقيا في الحقبة الإسلامية، وقد حاول البرتغاليون الاستيلاء عليها في بدايات القرن السادس عشر، وبنوا بها قلعة «كاستيلو ريال»، لكن سرعان ما استولى عليها أهل المنطقة، فانسحب الغزاة إلى «آسفي» في الشمال، وهدمت القلعة لاحقاً، عند تأسيس المدينة الحالية، وتقع بقايا بعض تحصيناتهم أسفل الطرف الجنوبي للسقالة من ناحية الميناء، وشملت الدراسة النقائش الخطية للبوابات والعديد من الأبنية المدنية والدينية، كمسجدي القصبة وابن يوسف، وزوايا الطرق الصوفية، و«البِيَع» المخصصة لعبادة اليهود، والكنيسة البرتغالية، ما يؤكد كونها مدينة للتسامح الديني منذ تأسيسها.
وقد تعرضت الصويرة للقصف عام 1844 من قبل الفرنسيين، ردا على دعم سلطان المغرب عبدالرحمن بن هشام لعبد القادر الجزائري في نضاله ضد الاستعمار، وبدأ الهجوم بقصف طنجة في الشمال، ثم توجهت 15 سفينة حربية، إلى الصويرة، فقصفتها، وأغرقت عدداً من المدافع على إحدى الجزر الصغيرة القريبة من الشاطئ، ويوجد مدفع بالسقالة الآن به إصابة في فوهته، يقال إنها ترجع إلى تلك المعركة، ووفقا لكتاب «الشموس المنيرة..» فقد حظيت المدينة بحامية من 2500 جندي، كان ضمنها عناصر من «جيش البخاري» الذي تأسس في عصر سابق، من العبيد الأفارقة، واكتسب اسمه من القسم على صحيح البخاري. وقد خصصت لهم ولعائلاتهم منطقة ضمن المدينة العتيقة تسمى «البواخر»، وتقع في الربع الشمالي الشرقي قرب باب مراكش. أما أول ما بني من الصويرة فهو القصبة، والتي تعني القلعة الحربية، ويطلق اسمها الآن على المنطقة الجنوبية من المدينة القديمة، والقريبة من الميناء. وكانت في الماضي سكنا لباشا الصويرة. ويوجد بها الآن أهم فضاءات الأنشطة الثقافية مثل متحف سيدي محمد بن عبد الله، بأقسامه العديدة التي تؤرخ للمدينة وعمرانها، وثقافتها، وإلى جواره مبنى المعهد الفرنسي، وبيت الذاكرة، وقرب باب «السبع» تقع «دار الصويري» محرك الفعاليات الثقافية والفنية بالمدينة، وهي مقر جمعية «الصويرة موكادور» التي يرأسها شرفياً مؤسسها «أندري أزولاي» ابن الصويرة، ومستشار الملك، وصاحب المبادرات التي تعزز حضور المدينة، وتدفع تنميتها، ويحرص على حضور العديد من الفعاليات، ودعم الأفكار الجديدة. 
وإذا كان تاريخ الصويرة في نسختها الحالية يرجع إلى منتصف القرن الثامن عشر، فقد كانت ضمن منطقة مأهولة بقبائل «حاحا» الأمازيغية، منذ القدم. ويعتبر تاريخ وتراث تلك القبائل أحد روافد التراث الصويري. وقد سلطت إحدى ندوات «شهر التراث» الذي أقيم الربيع الماضي الضوء على تأثير تراث المحيط القبلي على تراث المدينة في نواح عديدة، مثل الممارسات المتعلقة بشجرة «الأركان»، والصيد بالصقور، وصناعة الفلوكة الصويرية، وغيرها.   
كما يوجد بمنطقة «إداو أكرض» القريبة آثار معمل السكر الذي يرجع إلى السلطان أحمد المنصور الذهبي السعدي من القرن السادس عشر. وقد جرى زراعة القصب فيما يعرف بوادي القصب بالإقليم. وكان السكر المصنع منه، يصدر إلى الخارج. ويكتسب الأثر أهميته من كونه آخر ما تبقى من آثار صناعة السكر من تلك الحقبة على مستوى العالم.
ولا تكتفي الصويرة بكل ذلك، وتفاجئنا بآثار تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ في مغارة «بيزمون»، حيث عثر على أقدم حلي في التاريخ، ترجع إلى حوالي 150 ألف سنة. وهي مصنوعة من قواقع بحرية تسمى «تريتيا جيبوسولا». والدراسة التي أجريت عليها، ونشرت في مجلة «ساينس أدفانسيس» عام 2021، توضح أنها أقدم منتج إنساني لتلبية احتياجات «كمالية»، مع احتمال وجود دلالات رمزية وهوياتية لها، ما يشير إلى وجود لغة.

ركراكة
يمثل موسم «ركراكة» حدثاً سنوياً مهما في مدينة الصويرة، ويطلق اسم «ركراكة» على قبائل تمتد من الصويرة حتى قرب «آسفي» شمالاً، كما يطلق على طريقة صوفية لها عشرات الزوايا على امتداد الإقليم، ووفقا لكتاب «الشموس المنيرة..» فقد اختلفت المعلومات عن أصول «ركراكة» بين من قال إنها قبيلة من المصامدة البربر، ذهب سبعة رجال منها لملاقاة النبي محمد (ص)، وأعلنوا إسلامهم، وعادوا لبلادهم مبشرين بالدعوة، وبين من قالوا إنها ضمن ست قبائل من «دكالة»، والتي هي بطن من «بني هلال» العربية، ويشير المؤلف إلى أنه هو نفسه «ركراكي»، ولكنه ليس متيقنا من صحة إحدى الروايتين، وهو ما يعكس أحد أسرار تلك المنطقة التي بلغ الانصهار فيها أحيانا إلى درجة يصعب فصل مكوناتها، أو تصنيفها، ومن الواضح أن موقع «ركراكة» قرب الصويرة، وعند نقطة تماس بين قبائل «حاحا» الأمازيغية، وشياظمة «عَبْدَة، دكالة»، العربية، جعلها منطقة امتزاج، بحيث لا تعرف إن كانوا عربا اكتسبوا الثقافة الأمازيغية، أم أمازيغ، يتحدثون العربية، وربما كان لزوايا وأضرحة «ركراكة» دور في إذابة الفوارق، من خلال الأخوة الروحية، ويعتبر موسم «ركراكة» أطول المواسم المغربية على الإطلاق، إذ يمتد إلى 44 يوما، وتمضي فعالياته التي تسمى «الدور» بين عشرات القرى المحيطة، وفق ترتيب وطقوس متوارثة، ويبدأ بخروج شيخ الطريقة على حصانه، مرتديا «سلهاما» أي عباءة، من زاوية «أقرمود» شمال الصويرة بحوالي ثلاثين كيلومترا، ويزور أول أضرحة الطريقة، وهو لسيدي عبد الله بين أحمد الأقرمودي، ويطلق على هذه البداية اسم «خروج العروس»، وتستمر الفعاليات من قرية إلى أخرى، ومن زاوية إلى ضريح حتى تصل إلى مدينة الصويرة، ويكون أتباع الطريقة في انتظارهم بالآلاف.

بركة محمد
«بركة محمد» هي نقيشة حجرية أيقونية منحوتة بالخط الكوفي على العديد من أبنية الصويرة، اعتبرت شعاراً للمدينة منذ تأسيسها، وهي أحد مفاتيح فهم طبيعتها؛ فمؤسسها الذي استعان بمصممين وتجار أجانب، وأخذ بأحدث الأساليب في عصره، وانفتح على كل الثقافات، هو نفسه الذي اعتبر «بركة محمد» حارسة المدينة، ليس بشكل رمزي، ولا كمجرد كتابة على الجدران، ولكنه أحضر فرقة من المتصوفين، ووضعهم في مكان مخصص، يحمل اسم «بيت اللطيف»، في قلب حصنها، ووضع عليه نقيشة البركة، وعينهم ليرددوا الأوراد على مدار الأيام والليالي دون انقطاع، لحماية المدينة، وكانوا ينالون مخصصات إعاشتهم من مصدرين، الأول هو الأوقاف أو الحبوس، والثاني هو الجيش، لأنهم اعتبروا فرقة أو كتيبة دفاعية بمعنى الكلمة، وقد أوردت ذلك الكاتبة «فاطمة الزهراء بنت بابا أحمد» في كتابها «بركة محمد حارسة الصويرة» والذي تتبعت فيه تلك النقيشة على أبنية المدينة، وحتى مجسمها الذي أنجزه قبل سنوات النحات الصويري الراحل «الحسين ميلودي»، والذي صنع نسخة مكبرة، ومجسمة منها في أحد الميادين عند مدخل المدينة، ويمكن مقاربة تلك النقيشة أيضا من خلال كتاب «الطقس والاعتقاد في المغرب» للفنلندي «إدوارد فسرمارك»، والذي خصص أكثر من مائتين وعشرين من صفحاته البالغة 608 لموضوع البركة، ومركزيتها في المعتقد الشعبي المغربي. ووفقا له، ترتبط البركة بشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتنتقل منه إلى آله من الأشراف، نسل ابنته فاطمة الزهراء، كما يمكن أن تمنح من الشريف إلى خدام الشرفة، والذين بإمكانهم توريثها، وتوجد طقوس لنقل البركة، والتي تتجسد حتى أنه يمكن سرقتها، عبر أخذ بقايا طعام الشريف أو الولي. وهو ما يذكرنا ببعض الأدبيات العبرية التي تتحدث عن قصة النبي «يعقوب» مع أخيه «عيسو». كما تكتسب البركة في الاعتقاد الشعبي بالجهاد في سبيل الدين. وهو ما يفسر أعداد الأولياء من المجاهدين على طول الشريط الساحلي، وهي لمدافعين عن الثغور ضد هجمات البرتغاليين والأسبان. كما تشمل البركة الأماكن، من أضرحة الأولياء، وحتى البحر، حيث تلقى النذور، لكن كلها فروع مستمدة من أصل، هو شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

زوايا الصويرة
بخلاف زاوية «ركراكة» بشارع «الخضارة»، وزاوية سيدنا بلال معقل «كناوة»، بمنطقة الطواحن، تعتبر الزاوية «القادرية» واحدة من أهم الزوايا هنا، ولها بناء تاريخي من عمر المدينة في شارع الملاح القديم. وتعتز بجزء من كسوة الكعبة لديها، كذلك توجد زوايا «الناصرية» و«الدرقاوية»، و«الكتانية»، و»التيجانية» بالحدادة، وتحتضن المدينة طرق «الجزولية»، و«الوزانية»، و«التهامية»، بالإضافة إلى «عيساوة» و«حمادشة» و«الرما» وغيرها، وتحمل بعض الزوايا أسماء مثل «لالة عزونة» بدرب أكادير، و»سيدي بونو» و»الحمدوشية» بزنقة الشبانات، و»الغازية» بزنقة سيدي غازي، وتوجد في الصويرة عدة أضرحة بخلاف «سيدي مكدول»، مثل ضريح «سيدي لحسن أُولحسن»، و»سيدي علي بن عبد الله» و»سيدي عبد الدايم» بدرب أهل أكادير، كما توجد أضرحة لأشخاص غير معروفين، تحاط بالتبجيل، وكان لتلك الزوايا أدوار تاريخية أوقات الأزمات، وأدوار اجتماعية تتعلق بالطعام والتطبيب والإيواء والأمن وغيرها. وبعضها كان له أدوار جهادية في فترات الاستعمار كركراكة والجزولية، وتعتبر الزوايا جزءا من النسيج الحضري للصويرة، ولا يخلو منها شارع بالمدينة. 

ثقافة «الأركان»
على مدى تاريخهم، اعتمد أهل المنطقة الممتدة من الصويرة شمالاً إلى «أكادير»، و»تارودنت» جنوباً على محصول شجرة «الأركان»، في معاشهم، هنا الموطن الرئيسي لغاباتها في المغرب، وأحد مناطقها النادرة في العالم، ويعتبر زيتها من أثمن الزيوت، وأكثرها فائدة كغذاء، ومكون لمستحضرات العناية الشخصية، والتجميل الفاخرة، وتخضع أشجارها حالياً لحماية الدولة التي قامت بحصرها، ومنعت قطعها، ومن زيتها يصنع «الآملو» التقليدي، وهو عبارة عن مطحون اللوز المخلوط بزيتها، مع العسل، وتتخصص منطقة «السوق الجديد» في المدينة القديمة ببيع منتجاته، كما توجد محال وورش تصنيعه في أماكن متفرقة، وما يذكر في الكتب القديمة أن النساء الأمازيغيات استخدمنه منذ أزمنة بعيدة لترطيب البشرة والعناية بالشعر، كما استخدم ضمن الطب الشعبي والطهي وقلي الأسماك، وقد تم إدراج الشجرة والممارسات المتعلقة بها ضمن قائمة اليونسكو للتراث غير المادي عام 2006. كما اعتمد يوم 10 مايو من كل عام يوما لشجرة الأركان، وهو يواكب نضج الثمار وبدء حصادها.

مدينة التعايش
الداخل من باب دكالة، سيلاحظ بوابة أصغر على الجهة اليمنى، خاصة بحي «الملّاح»، وهو الاسم الذي يطلق في عموم البلاد على مكان إقامة اليهود، كما في الرباط ومراكش والدار البيضاء وفاس والجديدة وغيرها. ويرادف حارة اليهود في مصر والمشرق العربي، ويرجح أن سبب التسمية يرجع إلى أول حي لليهود بالمغرب، وكان بمدينة «فاس»، وكان قد بني على أرض خصصت في السابق لتخزين الملح، وانسحبت التسمية، فيما بعد على كل أحيائهم، ويضم «ملاح الصويرة» داري عبادة، هما «صلاة القاهار»، و»بيعة حاييم بينتو»، وتقوم عائلة مسلمة على شؤونهما، وعلى المقبرة اليهودية طوال عقود، وكان اليهود ضمن من استقدمهم السلطان المؤسس لإعمار المدينة، وبعضهم كانوا من كبار التجار ذوي العلاقات الدولية، ممن أطلق عليهم تجار السلطان، كما كان منهم صناع وعمال وحرفيين، ويرجع أصل بعضهم إلى المطرودين سابقا من الأندلس مع أقرانهم المسلمين، وخلال أغلب تاريخ المدينة، تراوح عدد اليهود بها حول بضعة آلاف، وعندما فاض بهم الملاح، سكن بعضهم في منطقة «الشبانات» العربية المسلمة، على يسار باب دكالة، ضمن حالة من التعايش التي ميزت المدينة منذ نشأتها، وتنعكس في تراثها وحكاياتها، وكثيرا ما يشار هنا إلى صور فوتوغرافية لصلاة استسقاء جرت مطلع القرن العشرين، وضمت مسلمين ويهودا معا، وتشهد الصويرة إلى جانب المواسم الإسلامية موسم «ربيع حاييم بينتو»، في سبتمبر من كل عام، ويحيي ذكرى شخصية حظيت بتبجيل الصويريين بكل طوائفهم خلال حقبتها الذهبية، ورحل عام 1845.   
هذه الطبيعة الخاصة للصويرة هي ما جعلتها مؤهلة لإقامة بيت الذاكرة بها، وهو أحد المزارات المهمة بالمدينة، وافتتحه العاهل المغربي محمد السادس عام 2019، ويضم متحفا لتاريخ يهود الصويرة، وتراثهم المادي، من أثاث ديني وملابس ووصور فوتوغرافية ومشغولات ذهبية وفضية، كما يضم مركز أبحاث «حاييم زعفراني» المختص بالعلاقة بين الإسلام واليهودية، وتبدو فلسفة المكان واضحة من مدخله؛ فأول ما تقع عليه العين هو مصحف وتوراة مفتوحان، ومتجاوران، يستقبلان الداخلين، وتشهد باحته العديد من الفعاليات والندوات، حتى ما يتعلق منها بأنشطة إسلامية، مثل استضافته لبعض فعاليات مهرجان الحضرة النسائية، وفرق الإنشاد الصوفي، وغيرها، وهذا أحد أسرار الصويرة التي ربما لا يستطيع الزائرون الجدد استيعابها بسهولة، ومن المدهش أنه خلال الاحتفال الديني «حنوكة» مطلع العام، ارتفعت أصوات النساء المسلمات بعفوية بالصلاة والسلام على النبي محمد متبوعة بالزغاريد، دون شعور أي من الطرفين بغرابة الأمر. وهو ما كان يحدث بعفوية طوال تاريخ المدينة كما يؤكد أهلها، ويتبع المكان مندوبية الثقافة، وتشرف عليه «غيثة الرابولي»، التي جعلت منه فضاءً مفتوحاً، يستضيف مجموعات من طلبة المدارس، وتقام فيه ورش ثقافية، وحتى تدريبات لبعض الفرق الموسيقية. ويقع في بيت تاريخي بمنطقة القصبة يرجع للقرن التاسع عشر.

الدق الصويري 
توجد بالصويرة القديمة منطقة مخصصة للصائغين، بها محال وورش صناعة الحلي، ورغم تنوع الأنماط المغربية، إلا أن «الدق الصويري» له أهمية خاصة هنا، كتراث يحمل اسم المدينة، ويمتاز بزخارف منمنمة ودقيقة تصنع من أسلاك الفضة، وتركب معا، على خلفية من شريحة من المعدن الثمين، أو بدونها ضمن نمط مفرغ، وقد نشأ من تلاقح فنون الصنعة القادمة مع الحرفيين من عدة مناطق في المغرب، ومنهم يهود «تزنخت» قرب «ورزازات»، وكانوا يتميزون بأسلوب «الفليجران»، وطوروه في الصويرة بالتفاعل مع حرفيين من مناطق أخرى مثل «آيت تودغا» و«آيت دازت» الأمازيغيتين، وحتى مع حرفيين عرب جلبوا أنماطهم، واختلطت، ليخرج أسلوب خاص حمل اسم الدق الصويري. ويحمل الآن لواء الصنعة عائلات توارثت أصولها مثل عائلتي «بن علي» و»أوشاطر».

التنوع الخلاق
قد يصعب تخيل أن الصويرة الصغيرة الوادعة بها ما يزيد عن عشرين مهرجاناً على مدار العام، وتتزايد باستمرار، أهمها «كناوة وموسيقى العالم» و«الأندلسيات الأطلسية»، و«الجاز تحت شجرة الأركان»، و«ربيع الموسيقى الكلاسيكية»، و«الحضرة النسائية وموسيقى الحال»، و«شهر التراث»، و«جذور للموسيقى الصوفية»، و«سماع» للطرب الأصيل، و«كرنفال الأزياء الأمازيغية». ويمكن ملاحظة تركيز تلك الفعاليات على التفاعل الإبداعي بين الفنون والثقافات. وتدعم الدولة حضور الثقافة الأمازيغية بشكل خاص، وأبجدية «التافيناغ»، كما أقرت رأس السنة الأمازيغية مؤخرا كعطلة رسمية لجميع المغاربة، وهو ما كان محل احتفال أقامته جمعية «تودرت» للثراث الأمازيغي، بالمركز الثقافي للمدينة، واحتفى بتراث الأمازيغ مثل فنون «أحواش» و «الروايس» وغيرها. 

تراث الأمازيغ
التراث الأمازيغي مكون أساسي لثقافة الصويرة، بوصفه روح المنطقة التي كانت دائما موطناً لقبائل «حاحا». وهو موضع اهتمام للكثيرين هنا من أشخاص وجمعيات ومؤسسات، بأشكال مختلفة، لكنني توقفت عند أحد جامعي هذا التراث بالصويرة، وهو «عبد العزيز أولامين»، نظراً لدأبه، ومعرفته الواسعة، حيث يحتفظ بمجموعات من هذا التراث، ومنها أوان فخارية نادرة، بعض مقتنياته ترجع إلى أكادير، ومحيط «سوس»، و«تفراوت»، وحتى «طاطا» في الجنوب، و«تفاليلات» قرب فاس، ومنطقة «إيمين تانوت» في نواحي الصويرة، والتي يعني اسمها «فم الإيناء». وتتنوع النقوش على أسطحها، لكن معظمها ذات أشكال هندسية مبسطة مع زهور ونجوم، بألوان مختلفة. التلاقح الثقافي سمة يتتبعها جامع التراث، حيث يكتشف أصولا أمازيغية لبعض نقوش الفخار والخزف الذي ينتجه ذوو الأصول العربية في «آسفي» القريبة. ويشير إلى السمة المميزة لفخار الأمازيغ ذي القاعدة المحدبة، وأحيانا المخروطية في الشمال، ويرجح أن له أصولا رومانية، وهي تشبه بعض الأواني في تراث بعض الواحات المصرية، والمعروفة باسم «السجا». ويتحسر «أولامين» على تراث الفضة الأمازيغية الذي تمت مقايضته في بعض الفترات بأكواب بلاستيكية، على يد بعض الرحالة الأجانب. كذلك لديه قطع قديمة من تراث خشب العرعر، والذي يعرفه الأمازيغ باسم «التويا»، وكانوا يصنعون منه كل شيء من مستلزمات الحياة اليومية والأثاث، وحتى الأبواب والنوافذ، وأدوات الفلاحة. 

ممنوع في الصويرة
وأخيرا، يجب الإشارة إلى أنه رغم انفتاح الصويرة على الجميع، فربما لن تكون مناسبة للبعض. فهي مدينة منفتحة، لا تركز على تصنيف البشر، والاختلافات بينهم. هنا تتجاور الزوايا، والبِيَع، وإنشاد الصوفيين مع عزف الموسيقيين، ويحتفل الجميع بالتنوع بعفوية وبساطة. وهي تدعو زائريها لأن يفتحوا حواسهم على اتساعها، ليروا، ويسمعوا، ويتعارفوا، ويبدعوا. لقد كانت زيارتي الأولى لها عابرة قبل سنوات، لكنني انضممت ذات يوم إلى مجاذيبها،  وهم هنا بالمئات، وقد غيرت المدينة حياتهم وأولوياتهم إلى الأبد.  
تشرع الصويرة أبوابها المرئية والخفية، وتتيح جمالها للمحبين، لكنها تحير عاشقيها، حول سرها الذي يستعصي على الوصف، هذا ما يردده الجميع هنا، وهم يواصلون العيش بين البحر والغابة، والتراث، والموسيقى التي لا تنقطع، واصلة دهاليز الأرض بأجنحة السماء، وجميعهم يرددون أنه برغم كل ما تتيحه لهم الصويرة، فإنها لا تبوح بسرها ■

سائحون يركبون الجمال على شاطئ الصويرة الحديثة

ميناء الصويرة ذو التاريخ العريق في التبادل التجاري بين إفريقيا والعالم

الصويرة كما تظهر من داخل برج سقالة الميناء

جزء من قلعة سقالة الميناء وفي أعلاها نقيشة بركة محمد

من داخل مسجد القصبة الذي بناه السلطان المؤسس محمد الثالث 

قطع أثرية من المشغولات الفضية بمتحف سيدي محمد بن عبد الله بالصويرة

فتيات الصويرة يشاركن في الحفاظ على التراث الأمازيغي المميز للمنطقة