أسئلة التغيير وأسئلة التنوير

أسئلة التغيير وأسئلة التنوير

نفترض أن ما يحصل اليوم في المجتمعات العربية، سواء في فضاء الخطابات والصور، أو في مستوى الأحداث والوقائع، يندرج في سياق مجموعة من المخاضات المرتبطة بصعوبات تمثل هذه المجتمعات، لمتطلبات الحداثة والتحديث. إنها تواجه منذ عقود مجموعة من التحدّيات التي كانت تحرص نخبها السياسية والمثقفة على عدم مواجهتها، والحسم في الخيارات المرتبطة بها، خوفًا من مواقف وأحداث قريبة مما يقع اليوم بيننا. ولا شك في أن محصلة ما جرى في السنوات الأخيرة، سيراكم مجموعة من الخبرات السياسية والتاريخية، التي ستؤكد استمرار حاجتنا الماسة إلى مزيد من ترسيخ قيم التحديث ومكاسبه، كما تبلورت في الأزمنة الحديثة.

 

يحمل سؤال التغيير جملة من الإيحاءات المقرونة به، وهو محصلة تاريخ مرتبط بشروط زماننا، إنه يرتبط بتاريخ أوسع، يتمثل في مقتضيات الزمن الاستعماري والأدوار التي لعبها، في موضوع محاصرة البنيات التقليدية المهيمنة على مجتمعنا وثقافتنا. كما يرتبط أيضًا، بتطلعات النخب الوطنية التي رسمت جوانب من أسئلة التغيير ومفرداته، في السنوات الأولى للاستقلال وما بعدها، أي خلال سنوات وعقود النصف الثاني من القرن الماضي، حيث استقر التغيير المطلوب على أفق بلور ملامحه العامة، جيل الحركات الوطنية داخل أغلب البلدان العربية، والجيل الذي واصل احتضان السؤال بعده بمرادِفاته المتعدِّدة، من قَبِيل الإصلاح والثورة والتقدم والتنمية، ثم التحديث وبناء دولة القانون والمؤسسات... إلى غير ذلك من المواقف والتصوُّرات والكلمات، التي ارتبطت بالسؤال وما يتفرع عنه من قضايا، والمتصلة في الوقت نفسه، بتجاوز صور الانسداد المتواصلة بأشكال مختلفة في تاريخنا المعاصر، محدثة أحيانًا تراجعات وانكسارات في مشروع التغيير، الذي يعد اليوم بمثابة أفق جامع لتطلعات النخب في مجتمعنا...

ثقافة الإصلاح السياسي 
يبرز سؤال التغيير عندما تعظم التحديات، وتنتصب الممانعات داخل مجتمع من المجتمعات، وهناك معطيات كثيرة في الراهن العربي، تمنح السؤال شرعيته ومشروعيته. نحن نشير هنا إلى مجمل التحولات الجارية اليوم في العالم العربي، وهي تحولات تحكمها طموحات تروم الإصلاح والتغيير، كما تحكمها جملة من العوائق والصعوبات، المرتبطة بكيفيات تفاعل النخب والأنظمة السياسية العربية مع ما يجري في العالم.
وعندما نتجه اليوم للتفكير في معضلات التغيير السياسي في مجتمعاتنا، فإننا لا نتردد في القول بأن معركة الإصلاح السياسي، التي نعيش جوانب من أطوارها منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان، لم تتجه بعد لفتح نقاش موسَّع حول ما يؤسس هذا الإصلاح، كما أن ثقافة التغيير السائدة اليوم، لا تعتني بموضوع التفكير في أسئلة المجال السياسي في أبعاده النظرية الكبرى، التي تمكننا من بناء فكر سياسي مطابق لمصيرنا التاريخي. ونحن نعطي أهمية كبرى لهذه المسألة، لأننا نعتبر أن التجارب السياسية الكبرى الفاعلة في التاريخ، لا تولِّد نقط اللاعودة في مسارها، إلا بتأسيسها للنظر القادر على تحصين وتطوير مساحة القضايا والأسئلة المرتبطــة بها. لم تستطــع الثقــافــة الســياســــية التي نشأت على هامش تجاربنا السياسية في العقدين الأخيرين، أن تبلور في نظرنا مشروعًا في الدفاع التاريخي عــن الحداثة السياسية. وقد ترتَّب عن ذلك ما نــلاحظه مــن هشــاشة ثقافة الإصلاح السياسي، المواكبة لتجاربنا في التحوُّل الديمقراطي.
تبدأ الهشاشة باستبعاد الأسئلة الكبرى، من قَبِيل التفكير في حدود المجال السياسي في ثقافتنا ومجتمعنا، وسؤال التفكير في الوسائل والآليات الكفيلة بدعم مشروع التحديث السياسي. 
لا أدري لماذا تتحول مشاريع الإصلاح الثقافي والسياسي في واقعنا، إلى مشاريع مسدودة الأفق. أومن بأن ظواهر التاريخ المختلفة معقَّدة ومركَّبة، وأن مساراتها ليست دائماً خطِّية، وتعلمنا تجارب التاريخ المعاصر، في بلادنا وفي العالم أجمع، أن معركة التحديث ليست هينة ولا بسيطة، وتزداد صعوبتها عندما نعاين كما أشرنا سابقًا، صور تغلغل التقليد وآلياته في مجتمعنا وثقافتنا وأنظمتنا في التربية والتعليم، وكذا صور العودات الجديدة، التي تغذي اليوم وسائطنا الاجتماعية بكثير من الخطابات المخيفة.. إن الاكتساحات التي حققتها أدبيات التقليد في العوالم الافتراضية، تدعونا اليوم إلى مباشرة مواجهات جديدة، تمكِّننا من تحصين مشروعنا في التحديث والتغيير.

معركة التنوير في ثقافتنا
نربط سؤال التغيير بمطلب التنوير، حيث لا يمكِن في تصوُّرنا تحقيق التغيير السياسي، دون حصول تغيير ثقافي يمكنه من الروافع التي تجعله أمرًا ممكن الحصول. إن معركة التنوير في ثقافتنا، وفي واقعنا السياسي، تزداد أهمية وراهنية، كلما فكرنا في التغيير وشروطه. يعود السبب في ذلك، إلى هيمنة التقليد على فضاءات السياسة والثقافة في مجتمعنا، وتصاعُد حضور التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة الإسلام السياسي، وهي الحركات التي وسعَت صور حضور تصوّرات أخرى للإسلام في مجتمعنا، وذلك بجانب الصور المواكبة لتاريخه، من قبيل الإسلام الخلقي، وإسلام الزوايا، ثم إسلام التعليم العتيق، والإسلام الصوفي، وإسلام النظام السياسي الذي تعبر عنه صور التدبير الحاصلة في المجال الديني، والإسلام الشعبي الطقوسي، ودون أن نُغفل الإشارة إلى إسلام النخب المتشبعة بأهمية الفكر النقدي والرؤية التاريخية، حيث نصبح أمام شبكة معقدة من التصورات والاختيارات والعقائد والممارسات، وهي شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب، لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل بينها، وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير في ثقافتنا المعاصرة.
يروم سؤال التغيير الذي نطرحه اليوم مُجدَّدًا، ليشكل إطارًا عامًّا، للتفكير في مآلنا السياسي، يروم رصد درجات تَمَثُّل مجتمعنا للحداثة السياسية، بمبادئها ومقدماتها الكبرى في النظر إلى الإنسان والتاريخ. وهو يُعَدُّ في الوقت نفسه، بمثابة المدخل المناسب، لتوطين نمط الحكم الديمقراطي، الذي يُعَدُّ اليوم من أكثر الصيغ السياسية نجاعة في عالمنا، دون أن نمنحه بحكمنا هذا أي امتياز لا تاريخي. ولا يتعلق الأمر في موضوع دفاعنا عن قيم التنوير في ثقافتنا ومجتمعنا، ونحن نفكر في سؤال التغيير، بعملية نسخ لتجربة تَمَّت في تاريخ غيرنا، وثقافة عصر الأنوار لا تزال مطلبًا كونيًا بامتياز، ذلك أن هذه القيم التي نشأت في سياق تاريخي محدد، في القرنين السابع والثامن عشر في أوربا، وهي تتعرض، اليوم، لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي، وسياقات تاريخها الكوني، بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية وعوالمهم التاريخية، في كثير من مظاهرها وتجلياتها.
ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بكيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية. وإذا ما كنا نعرف أن المبدأ الأكبر، الذي وجه فكر الأنوار، يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي إلى إبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره، بهدف فك مغالق الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله.
إن حاجتنا اليوم لقيم التنوير لا تمليها شروط خارجية، ولا تمليها إرادة نقلٍ، تكتفي بنسخ الجاهز، بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم، تحددها بكثير من القوة، شروط حياتنا الواقعية والفعلية في المجالين الثقافي والسياسي، حيث يصبح توسيع فضاء العقل والنقد والتنوير، مجالًا للجهد الذاتي الخلاق، في عمليات بناء القيم والمبادئ، التي تتيح لنا الخروج من مأزقٍ موصولٍ بإرث تاريخي، لم نتمكن من تشريحه ونقده، تمهيدًا لإعادة بنائه في تفاعل وتناغم مع متطلبات وأسئلة عصرنا ■