سؤال القيم في الإبداع الشعري العربي

سؤال القيم  في الإبداع الشعري العربي

قصد جبل لبنان في القرن التاسع عشر عدد كبير من الرحالة الأوربيين، جابوا في أرجائه، ثم دوّنوا مشاهداتهم وانطباعاتهم في مؤلّفات ذكروا فيها المناطق التي زاروها، وما واجههم فيها من أحداث، والمناسبات المتعدّدة التي صادفوها أو تلك التي شاركوا فيها، ومن بينها العادات والتقاليد المتبعة في احتفالات الأفراح التي شملت الخطبة، والأعراس أو احتفالات الزفاف أو القران، والولادات، والمعمودية وغيرها. وقد شكلت كتاباتهم عن تلك المناسبات مصدرًا مهمًّا عن تاريخ لبنان الاجتماعي في العصر الحديث. وبما أن الحديث عن تلك المناسبات قاطبة يطول، قصرنا الكلام على احتفالات الأعراس لما كانت تتضمنه من مظاهر لافتة، بحيث كانت في مقدّمة مناسبات الأفراح التي أثارت انتباه الرحّالة.

 

ظلت علاقة الإنسان منذ وجوده على هذه البسيطة مرتبطة بالكون في ضيقه واتساعه، وفي فرادته وتنوعه، وظلت حاجته إلى التعبير عن مشاعره وانفعالاته متصلة أيضاً، بطبيعة انتمائه إلى العشيرة والجماعة، مدافعًا عنها في السلم والحرب، ومنافحًا عنها في الشدة والرخاء، ولنا أن نتأمل ديوان الشعر العربي، منذ الجاهلية إلى الآن، لنتلمس وظيفة الشاعر داخل مجتمعه وقبيلته، من خلال تفاعله مع الأحداث والوقائع، أو من خلال تواصله مع الذات والآخر، فالشاعر شديد الارتباط بجماعته يحتكم بحُكْمها ويعتمل برأيها وصوته جزء من حضورها، ومن ثمة، فأنت تراه إما واصفًا مادحًا مؤيدًا ومفاخرًا، وإما تراه هاجيًا منتقمًا ومدافعًا، تبعاً للحالة النفسية وطبيعة اللحظة التي يمر بها.  
ولما كان الشعر أحد التعبيرات التي استأثرت باهتمام الشاعر، حيث اختزال الذات والعالم في كلمات، فقد كان حرصه واضحًا في نقل معاناته ومكابداته، وفي رصد تفاعلاته وانفعالاته، فبقدر ما يمنحه الشعر من أفق للفكر والتعبير، بقدر ما يمضي هذا الشاعر أو ذاك، في خلق مساحات للدهشة والجمال عبر وسيط اللغة والخيال. 
وبما أن الشعر مكابدة الحياة بحياة أخرى نسعى لخلقها، ولحظة فارقة تستعيد خلالها الذاكرة حضورها المشع في مسارات الإنسان الراهنة واليومية؛ فإن ذلك لا يتأتى إلا بما توافر لدى الشاعر من قدرة ومهارة على القول والتعبير، بالاقتراب من الواقع تارةً، أو بالانزياح عنه تارة أخرى، وبما أن الشعر أيضًا، انخراط باللغة والصورة والإيقاع في مقاربة الظواهر والقضايا، ذاتية كانت أو موضوعية؛ فإن الشاعر المبدع دائم البحث عن أجوبة تمس أسئلة الوجود والمجتمع كما تمس أسئلة الذات والقيم. 
وبذكر القيم، باعتبارها إحدى الرافعات التي يقوم عليها بناء الإنسان، في بعده الوجودي والأخلاقي، فقد سُلطت عليها الأضواء من قبل الفلاسفة والكتاب والشعراء والباحثين في مجالات الفكر والفن والأدب، وقدموا بشأنها تعريفات وأفكارًا ومواقف تجسد أهميتها داخل المجتمع، ويأتي لفظ القيم، في بعده اللغوي إجمالًا، بمعنى الاستواء والاستقامة، أما في الاصطلاح فيرتبط بالسلوك والممارسة، غير أن الاقتراب من معاني ودلالات القيم، رهين بما تفرزه من مظاهر وظواهر تعكس مدى تمثل المجتمع المدني لها، لذلك، لم يكن غريبًا أن يراهن الشعر على تخليق الحياة وتعزيز السلوك عبر التمثل الإيجابي لدور هذه القيم، ومنها الوعي بالحقوق والواجبات ونبذ العنف والخلاف والدعوة إلى الحرية وحب الوطن وكذا التعايش والتسامح وقبول الاختلاف. 
وحين نستحضر الشعر العربي نستحضر تنوع موضوعاته، وكيف تفاعل الشاعر مع محيطه وعبّر عن مبادئه وقيمه، وبالتالي كيف نقل إحساسه ومشاعره إلى الآخر، مثلما نستحضر كيف ساهم في زرع قيم التضامن والتسامح والدعوة إلى التماسك والتساكن وكيف دعا إلى محاربة التطرف والإرهاب، في ظل التحولات التي عرفها المجتمع الإسلامي، عبر التاريخ. 
لقد نادى الشعراء، على اختلاف انتماءاتهم وتباين مرجعياتهم بضرورة تحقيق السلم والأمان ونشدان الفرح والجمال، كما دعوا لتجسيد حب الوطن والدفاع عنه بكل غال ونفيس، مثلما نعثر في قصيدة لمحمود درويش:
وطني يعلمني حديد سلاسلي
عنفَ النسور ورقة المتفائل
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا
ميلادَ عاصفة وعرسَ جداول
سدوا علي النور في زنزانة
فتوهجت في القلب شمس مشاعل
وهي قصيدة شهيرة تجسد علاقة الشاعر بوطنه، وتغنيه في أكثر من مناسبة، بالأمجاد والبطولات. قصيدة ذات ملمح غنائي ترسم بالكلمات والصور مدى التضحيات الجسيمة التي يقدمها الإنسان العربي مقابل تحرير وطنه وصد أعدائه، ولنا في الشعر العربي قصائد كثيرة تغنت بالوطن وأفردت له مساحات تعبيرية تنم عن إخلاص ووفاء لتاريخه العريق، وهو ما عبر عنه الشاعر أحمد شوقي ذات قصيدة، حين كان في منفاه خارج مصر، فتجلت أمامه صورة بلاده فاستحضر معالمها وبث أشواقه وحنينه إليها يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني
شخصه ساعة ولم يخل حسي
وكأن الإنسان لا يشعر بقيمة وطنه إلا حين يفارقه أو يبتعد عنه، لسبب أو لآخر. فالوطن يسكن دواخله عبر الماضي والذكريات. 
ولم يقتصر الأمر على حب الوطن في حدوده الجغرافية الضيقة؛ بل امتد لحب البلاد العربية كافة، لما بينها من قواسم مشتركة، وقد كانت قضية فلسطين من أبرز القضايا التي وحدت شعراء العربية وجمعت كلمتهم تحت لواء الوحدة والقومية، ويكفينا أن نقدم مثالًا للشاعر المغربي «حسن الأمراني» الذي خص ديوانًا كاملًا عن مدينة القدس، وهو مثال يختزل قيماً كثيرة تجعل من سفرته إلى القدس، ليس باعتبارها فضاءً مكانيًا يمثل ماضي الأجداد وتراثهم فحسب؛ وإنما مكانًا رمزيًا ينفتح على الراهن والمستقبل أيضا، حيث المشترك العربي اللغة والدين والتاريخ ووحدة المصير يقول الشاعر: 
يا قدس نبضك بعض نبضي
يسري إلى كلي وبعضي
ولأنت مفتتحي ومختتمي
وأنت إلى زمان الحشر أنت دمي وعرضي
فإذا رضيتِ رضيتُ 
يجسد هذا الدفاع الطوعي رغبة الشاعر في التعايش وتحقيق السلام بين الشعوب، من خلال بث روح الوحدة العربية والتضامن الإسلامي. ولما كان الشاعر المغربي مرتبطاً بقضاياه الفكرية والقومية والمجتمعية، فقد احتفى عبر اللغة الواصفة، بموضوعات الحرية والهوية والتاريخ والحلم وقيم الحب والجمال، فهو إذ يتوسل بعناصر الوجود المتنوعة من ماء ونار وهواء وتراب، يستفيد مما تقدمه له من إمكانيات وإيحاءات لحظة التعبير، وإذ يتوسل أيضا بالواقع في تجلياته المختلفة ويستثمر بعض المعاني والإشارات، ويربط الحاضر بالماضي والتاريخ بالراهن والمستقبل، يحول كل ذلك إلى رموز وأفكار وقضايا. يقول محمد بنيس في إشارة رمزية إلى سقوط الأندلس: 
وغرناطة تسقط كل عشية
ولا أحد يحتضنها
غرناطة متروكة للثلج
أمام الزائرين القادمين من ذاكرة مشوهة
وقرطبة في قلعة النسيان تردد هذيانها
فغرناطة وقرطبة، في فهم الشاعر، ليستا مدينتين أندلسيتين سقطتا بفعل التخاذل والإهمال فحسب؛ وإنما كناية عن سائر المدن العربية الحالية التي تتساقط يومًا بعد يوم بفعل تنامي الحقد والتطرف وشيوع الكراهية والعنف بين الناس، لذلك وجد الشاعر نفسه مدعوًا للمساهمة في ربط جسور التواصل بين الماضي والحاضر من أجل غد باسم يفضي إلى حديقة عربية تعبق بالتاريخ والثقافة والفن وتتلون بألوان المحبة والإخاء والتسامح بين الشعوب. 
ولم يكن الشاعر المغربي المعاصر بمعزل عن قضاياه الفكرية والوجودية والمجتمعية، فقد احتفى عبر اللغة، بموضوعات الحرية والهوية والتاريخ والحلم وقيم الحب والجمال، فهو إذ يتوسل بعناصر الوجود المتنوعة من ماء ونار وهواء وتراب، يستفيد مما تقدمه له من إمكانيات وإيحاءات لحظة التعبير، وإذ يتوسل أيضا بالواقع ويستثمر بعض تجلياته وإشاراته، يحول كل ذلك إلى رموز وأفكار وقضايا يقول محمد بنعمارة:
امرأة رمانة
تشفي
جرح الشاعر
وتضمد أحزانه
كانت كالموج
لها المدّ
لها الجزر...
تخاطبني
بنشيد الإغراء
أنا بنت البحر
وعاشقة إنسانة
إنها بعض الدلالات التي يرومها الشاعر لحظة الكتابة، حين يجعل من المرأة/ الفاكهة شفاء لجرح محتمل، أو إيقاعًا لمشهد مكتمل حيث المد والجزر، رؤية شعرية ضاربة في العمق تستدعي إعمال فكر لكشف أسرار المرأة/ القصيدة. وبهذا المعنى، نلفي القصيدة عالمًا من الرموز والمعاني حين تحتفي باللغة والصور في تحرير وتصوير مواقف الشاعر من قضايا المجتمع والإنسان وموضوعات القيم والجمال. 
ولا نعدم أيضا، أن نجد أشعارًا تعضد كل المعاني والدلالات التي تسعى إلى إعطاء معنى جديد للحياة يضمن تماسك المجتمع ويقوي العلاقات بين بني البشر، فثمة إشارات قوية تجسد مختلف القيم النبيلة، على رأسها التضامن والتسامح وحب الإنسان لأخيه الإنسان، فالشاعر ظل وفيًا لقيمه الدينية والتاريخية والحضارية وظلت ذاته مشدودة إلى تحقيق العدل والمساواة والدعوة إلى التعايش وقبول الآخر ونبذ أشكال العنف والتطرف، فهذا الشاعر رياض المعلوف يقول في هذا السياق:
وإن المحبة نور مضيئ
    دجى ليل أحقادنا الأسود
هو الصفح خير دواءٍ وبرءٌ
    لكل حقود مسيء ردي
وليس التسامح ضعفًا ولكن
    هو النبل بل كرم المحتد
وغير بعيد عن هذا المعنى، يقول الشاعر عيسى الناعوري أيضا، في قصيدة له:
أخي في العالم الواسع 
    في المـــغرب والمشـــرق
أخي الأبيض والأسود
    في جـــوهـــرك المطلــق 
أمد يدي، فصافحهـا
    تجـــد قلبي بها يخفــق
فالمحبة والصفح والتسامح والنبل والكرم من القيم النبيلة التي ينجذب إليها الشاعر، ويعتبرها خطوة من بين خطوات إنسانية كثيرة، تحقق كرامة الإنسان وتسمو بإنسانيته. ولا يكون التسامح إلا بالتراحم والتعايش واحترام الآخر، وإن اختلفت الرؤى وتباينت الأفكار، كما لا يكون إلا بطرح العنف وترك الأحقاد والغضب. مثلما نعثر في قول عنترة:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
    ولا ينال العلا من دأبُه الغضب
أو مثلما نجد في معنى زهير بن أبي سلمى في قصيدته الشهيرة، ذات الحمولة الوعظية والحِكمية، بحكم خبرته الطويلة بالحياة، وتحول تجربته إلى دروس وعِبر. 
وَمَـــــن يَـــكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضــــلِهِ
    عَلى قَومِهِ يُستَغـــــنَ عَنهُ وَيُذمـَمِ
وهو المعنى الذي يعكس طبيعة الرؤية التواقة دومًا، إلى تحقيق السعادة الإنسانية، بما يضمن للذات الشاعرة تناغمها الكوني وانسجامها الروحي، وفي ظل المعاني السابقة، بما تحيل إليه من تعايش وحوار حضاري، نعثر على قصيدة لمحمد الحلوي، نظمها خلال زيارته لبلاد الأندلس، جاء فيها:
أندلوسياً يا ملتقى الفكر والشعــــــــــر
ويا حلم المبدع الفنان
هبط الشرق ها هنا يغرس الخيـــــــر
ويبني معاهد العرفان
ويعلي بالحب والسلم ما لم
يعل بالحقد والعداوة باني
في مزيج من عبقرية شعب
عربي ومبدع إسباني
بسوى الحب والتسامح ما كـان
ليحيا بأرضكم دينان
وهي قصيدة ترصد لحظة تاريخية من لحظات الحوار الحضاري التي جمعت بين المسلمين والمسيحيين في أفق متسامح يعمق الوعي بالتعايش والتآخي، في سياق الحضارتين معا، ولعل في مثل هذه الحالات، وغيرها كثير مما يمكن الاستئناس به في سياق الشعر والتسامح، تجسيدٌ لأفق يقوم على المحبّة والاحترام والفهم المتبادل، ما دامت المرجعية لله تعالى تبدّد كل المزاعم والاعتقادات الأحادية، مصداقًا لقوله تعالى: (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا * إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالتسامح أحد المبادئ الأساسية التي تبناها الإسلام ودعا المسلم كي يتمثلها في سلوكه ومعاملاته وأن يعززها في إبداعه وكتاباته، والحق أن الشعر عبْرَ مساره الطويل تغنى بالقيم من خلال ترسيخ الحق في الوجود وتعزيز سمة الاختلاف بين بني البشر، فالارتقاء بالإنسان رهين بما يتصف به من عفو وسماحة ومغفرة، ومنه قول أبي العلاء المعري: 
إذا عثرَ القومُ فاغفرْ لهم 
    فأقدامُ كل فريق عُثر
وقول الإمام الشافعي: 
لما عفوت ولم أحقدْ على أحد
    أرحتُ نفسي من هَمِّ العداواتِ
إِني أُحَيِّ عدوي عند رؤيتِه
    لأدفعَ الشر عني بالتحياتِ
وكما كانت الدعوة إلى حب الأوطان ونصرة الإنسان، كانت الدعوة إلى التضامن والتآخي والإحسان وتجديد الثقة في النفس، من المحطات المهمة في تاريخ الشعرية العربية. يقول الشاعر أبو الفتح البستي في قصيدة طويلة يدعو فيها الإنسان إلى التحلي بالفضيلة ومكارم الأخلاق والابتعاد عن الكراهية والضغينة وما يفسد النفس البشرية:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
    فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وإن أساء مسيء فليكن لك في 
    عروض زلته صفح وغفران
وكن على الدهر معوانًا لذي أمل
    يرجو نداك فإن الحر معوان
هكذا كلما تقدمنا في عرض النماذج والشواهد وجدنا أن موضوع القيم شكل أحد الثوابت الأساسية التي ميزت تجارب عدد من الشعراء وأضفت عليها بعدًا إنسانيًا وجماليًا في ذات الآن، فبالشعر تم الاشتغال بموضوع القيم فتشكلت مظاهره وتجلياته عبر صور تعبيرية بديعة تمتح من الواقع والمجاز والتخييل، أو ترفد من جماليات الأسلوب وبلاغة التأويل. 
إجمالا، حين يتغنى الشعر بالقيم ويجعلها وسيلة لترسيخ التعايش والتسامح بين الأفراد والجماعات، أو يوظفها غاية لمناهضة العنف والتطرف وتجريم القتل والتقتيل، يحق للشاعر أن يعلن انتصاره وانحيازه للإنسان في تفاعله التاريخي والإبداعي مع الوجود والذات والآخر، أما الحديث عن الانزياحات اللغوية والأساليب البلاغية ذات الصلة بموضوع القيم فذاك متروك إلى وقفة تأملية وتحليلية أخرى، تلامس رؤى الشعراء ومرجعياتهم الشعرية ■