طه حسين وكرامة العلم وصدق العالم

طه حسين وكرامة العلم  وصدق العالم

يعرف الناس طه حسين بجرأته في إبداء الرأي إلى درجة التحدي، لكن قلة تذكر جرأته في الدفاع عن كرامة العلم والعلماء. وشخصية الرجل متكاملة في هذا الشأن، فهو ليس شجاع القلم جبان النفس، وهو ليس مواجهاً في العلن مرائياً في السر، بل هو يعامل الفكر بالجرأة نفسها التي يعامل بها الإنسان مهما علا مقامه، وبالتواضع إذا اقتضى الأمر التواضع، بصرف النظر عن طبيعة فكره الأكاديمي أو السياسي.  

 

تصدّيه لقرار الحكومة
فبعد تعيينه عميداً لكلية الآداب في الجامعة المصرية سنة 1930م بنحو السنتين، اتصل به وزير المعارف في حكومة إسماعيل صدقي، وأبلغه أن الحكومة تريد أن تمنح بعض الساسة درجة الدكتوراه الفخرية، وأن الملك فؤاد سيزور الجامعة بغية تقديم تلك الشهادة لهم، فكان رده عليه: «أنا عميد كلية جامعية ولست عمدة في قرية حتى تصدر إلى الأوامر»، ورفض في حزم الاستجابة لطلبه، فما كان من الوزير إلا أن اتصل بمدير الجامعة أحمد لطفي السيّد الذي راجع طه حسين في الأمر فتلقى منه الرد نفسه، وعندئذ اضطر السيد إلى جمع مجلس الكلية وعرْض القضية عليه، وإذا بالمجلس يؤيد طه حسين في رفضه، فلمّا زار الملك الجامعة ومعه رئيس الوزراء صدقي ورئيس الوزراء السابق عدلي يَكَن ووزير التربية، دخل إلى إحدى بعض قاعات الدراسة فيها، وإذا المحاضر يتحدث في تطور الدستور الإنجليزي، موحياً أنه يعرّض بالملك الذي كان قد عطل العمل بالدستور، فكيف وقد هتف الطلبة بحياة عدلي يكن متجاهلين الملك ورئيس الوزراء صدقي معاً؟ لذلك أجاب وزيرُ المعارف الملكَ حين سأله عن معنى ذلك التصرف بالقول: «هذا من تدبير طه حسين». ولم يمض على ذلك إلا خمسة أيام حتى صدر القرار بنقل طه حسين من الجامعة إلى وزارة المعارف، غير أن طه رفض تنفيذ ذلك القرار، لأن الجامعة مؤسسة مستقلة فلا سلطان لوزير المعارف عليها، فما كان من رئيس الوزراء إلا أن استدعاه وسأله عن سبب رفضه، ويزعم الدكتور محمد الدسوقي الذي نشر مذكراته للفترات التي عمل فيها سكرتيراً لطه حسين أن طه أجاب رئيس الوزراء بقوله في وزير المعارف: «هذا الوزير حمار، ولا أحب أن أتعامل معه، كما أنه ليس من حقه أن يصدر هذا القرار»، فقال له رئيس الوزراء: «لا تتعامل مع الوزير، وتعامل معي!»، فأجابه طه حسين: «ولا أتعامل معك»، فقال له رئيس الوزراء: «إذن فأنا حمار مثل الوزير!»، فاعتذر طه من ذلك بأنه لا يقصده، وانتهى الأمر من بعدُ بصدور القرار بإحالة طه حسين على التقاعد، ويغلب على الظن أن هذا الحوار غير دقيق، وأن المرجح أن ناقله قد تصرف بلفظه ورواه بالمعنى، وأن طه حسين ربما استعمل كلمة جاهل أو لا يفهم شيئاً أو ما أشبه ذلك بدلاً من كلمة حمار، المهم أنه لم تمض إلا سنتين حتى أعيد طه حسين إلى التدريس في الجامعة، وسنتان أخريان حتى أعيد إلى العمادة.

تواضعه ودماثته
ومع اعتداد طه حسين بآرائه وصلابته في مواقفه، كان جمّ التواضع لا يخجل من الاعتراف بالخطأ، ومن ذلك اعتذاره من النقد الذي كتبه في أدب مصطفى لطفي المنفلوطي وتوكيده أن نقده لم يكن نقداً بالمعنى الصحيح بل كان بحثاً في صحة المفردات على الطريقة الشائعة في ذلك العهد من حياته، عهد الشباب، حين كان في الثامنة عشرة، وأنه عوّل فيه على معجم واحد، وهذا خطأ يَخجل منه، كما يُنسب إليه الإقرار بأنه لم يفهم كتاب العقاد «عبقرية عمر»، وبأن ذلك قد كان عيباً فيه لا في العقاد، كما أنه يعترف بأن إلغاءه تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية كان خطأ، فقد ظن أن ذلك يتيح للتلاميذ أن يألفوا النطق بلسان عربي فصيح، وإذا هم لا يتعلمون العربية ولا الإنجليزية.
وحين طرح عليه طالب دكتوراه تونسي سنة 1965م أسئلة تتصل بأدبه وما كُتب فيه، لم يستنكف عن الاعتذار إليه من تأخره في الرد على رسالته وهو لم يتأخر إلا خمسين يوماً  وأن يعلل التأخر بالإرهاق الذي كان يعانيه وكان حين أُرسلتْ إليه رسالة ذلك الطالب معتلاًّ حقاً، مضطراً إلى الامتناع من الصيام، شاكياً البرد، مستسلماً أحياناً للنوم وهو جالس. 

صراحته واعترافه بأثر الغربيّين فيه
وهو في رده على ذلك الطالب لم ينكر تأثره بأعلام الغربيّين، بل كان صريحاً في إعلان تأثيرهم فيه، لكنه نفى تأثره بمرجليوث، مؤكداً بأنه لم يقرأ دراسة هذا المستشرق إلا بعد سنة من صدور كتابه «في الشعر الجاهلي»، وتلك الصراحة جديرة بحمله على الاعتراف بأثر مرجليوث فيه لو كان ذلك الأثر واقعاً حقاً، ولا سبب يبعثه على إنكاره عندئذ وقد ذكر عدداً لا بأس به من الغربيّين المؤثرين فيه. ولعل أول هؤلاء الغربيين المستشرق الإيطالي كالو نلّينو  (1872 - 1938) الذي حاضر في الجامعة المصرية سنتي 1910 و1911 وجَمعتْ ابنته ماريا محاضراته ونشرتها بعد وفاته سنة 1954 بعنوان: «تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية»، وقد قدّم لها طه حسين بنفسه، وكان قد سمع تلك المحاضرات من فم نلّينو الذي يصفه بـ«أستاذنا الإيطالي العظيم» وينسب إليه طبْع الحياة «العقلية بطابع النقد الحديث» رائياً ألّا نظير له «في التوجيه العميق للنهضة المصرية إلا زميله الأستاذ سنتلانا» في ميدان الفلسفة الإسلامية، وهو ينسب في كتابه «في الأدب الجاهلي» إلى نلّينو فضل اتبّاع «مذهب الأوربيين الذي استحدثته الجامعة المصرية» وأشركه في الفضل «من خَلَفه من المستشرقين».
وفي رده على رسالة الطالب التونسي يؤكد تأثره الشديد «بعلماء اليونانيّات الفرنسيين» وبدراساتهم للأدب اليوناني خاصة، ويعرب عن إعجابه الشديد بكتاب أَلفريد كروازيه وأخيه (موريس)، يعني كتاب «تاريخ الأدب اليوناني»، مشيراً إلى حضوره دروس الأول في جامعة السوربون، والمطلّع على كتابَيْ طه حسين في الشعر الجاهلي يلحظ تأثره الواضح بذلك الكتاب، وهو تأثرٌ لا انتحال كالذي زعموه خطأً في الأخذ من مرجليوث، كما أنه اتّباع للطريقة نفسها في شعرين مختلفين لكن متشابهين، لا معالجة لشعر واحد من كاتبين مختلفين كمعالجة مرجليوث وطه حسين للشعر الجاهلي؛ ذلك أن صاحبنا قد قاس الشعر الجاهلي على الشعر اليوناني وما يحوم حول صحته من شكوك، وكأنه أراد تأييد نظرية الشك بالشعر الجاهلي منذ المفضّل الضبيّ والأصمعيّ وابن هشام (ت 218هـ) حتى أيامه بنظرية الشك بقديم الشعرين اليوناني والروماني، لمشاركة هذين الشعرين للشعر العربي القديم في نقله بالرواية الشفهية وتعرضه للنحل جرّاء ذلك، وهو يتساءل عما بقي بعد نقد علماء اليونانيّات من اعتقاد القدماء في شأن الإلياذة والأوديسة وهوميروس وهيزيودوس وغيره، ملاحظاً الفرق بين ما كتبه هيرودوت في تاريخ اليونان وتيتوس ليفوس في تاريخ الرومان وما يكتبه المحدثون، يعني من الأوربيين، في تاريخ هاتين الأمتين، والشبه بين «ما كان يتحدث به ابن إسحاق ويرويه الطبريّ من تاريخ العرب وآدابهم، وما يكتبه المؤرخون والأدباء عن العرب في هذا العصر، ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعد بهذا المنهج الحديث»
- يقصد منهج ديكارت- ولم تخلص من الأوهام والأساطير.
ولم يتأثر طه حسين بالنقاد الفرنسيين فحسب، بل تأثر كذلك بالأدباء كجول لومتر (1853 - 1914) الذي أوحى إليه عنوانَ كتابه في السيرة، ولعله يعني «على هامش السيرة»، كما أوحت إليه مقالات شارل سانت- بيف (1804 - 1869) الموسومة بـ «أحاديث الإثنين» عنوانَ «أحاديث الأربعاء» الذي اعتمده طه حسين في صحيفة السياسة، لكن طه حسين يجزم أن الناقد والمؤرخ الفرنسي أفاريست ليفي بروفنسال (1894 - 1954) هو «أقرب المستشرقين إلى طريقتنا في التفكير في جميع دراساته عن إسبانيا المسلمة»، وأن الأدب الفرنسيّ بعامة قد أثّر في دراساته هو في وقت من الأوقات. 

الكتّاب الأوربيون مثله الأعلى
لقد كان الكتّاب الأوربيون، ولاسيما الفرنسيون، سواء كانوا مستشرقين أم لا علاقة لهم بالشرق أو بالإسلام، نقاداً أم مؤرخين أم منشئين، مَثَلَ طه حسين الأعلى، حتى كاد ينسب مصر إلى أوربا، وكاد يتقمص شخصية الأوربيين؛ ولا يُستغرب ذلك ممن كانت زوجته ونور عينيه فرنسية، ولذلك حاول أن يمارس حرية الرأي والتعبير على طريقة الشعوب الأوربية الديمقراطية، وأن يحافظ على كرامة العلم وترفّع العلماء ومكانتهم السامية، وأن يأبى ممالأة رجال السياسة والخضوع لسطوتهم وابتزازهم ولو أفضى به الأمر إلى التعرض للقمع وخسارة المركز والرتبة والمال، كما حاول أن يجمع إلى عزته العلمية تواضعَه ولطفه وصدق قوله وصراحته. 

كيمياء التمرد والثبات 
لكن هذه الكيمياء التي جمعت هذا الخُلق وتلك القيم لم يستوعبها الوعاء المصري خاصة والعربي عامة في ذلك العصر، وكاد ذلك الوعاء ينفجر بذلك المزيج الغريب عن بيئته، لكنّ لتفاعلِ الأمزجة احتمالات أربعة على الأقل: 
1 - الركود إذا كان التفاعل ضعيفاً، ولاسيما إذا كان الوعاء صُلباً والصِمام محْكماً. 
 2 - والفوران واصطدام المزيج بالصِمام، إذا كان التفاعل شديداً والوعاء صُلباً والصمام محْكماً، ريثما يتغلب التفاعل على مقاومة الصِمام أو يبقى المزيج في الوعاء. 
 3 - والفوران ودفع المزيج للصمام العاجز عن المقاومة خارج الوعاء، إما لأنه غير محْكم، أو لأن للتفاعل من القوة ما يدفع الصِمام عن الفوهة ويتيح للمزيج الخروج. 
 4 - أو الانفجار لأن الوعاء والصِمام لا يحتملان قوة التفاعل لضعف في أحدهما أو فيهما معاً، أو لقوة التفاعل الفائقة. 
الاحتمال الأول هو الذي يشبه حالة الخروج عن السائد ثم التراجع عن الأمر والاعتذار منه؛ والاحتمال الثاني يشبه حالة التمرد على السائد والثبات على الرأي لكن من غير أن يتيح الظرف الفكري والسياسي للرأي المخالف أن يذيع وينتشر؛ والاحتمال الثالث هو الاحتمال الثاني نفسه لكن مع القدرة على تخطي الحواجر الفكرية والسياسة القائمة، مع شيء من الصبر والتضحية وتحمل القمع، ويشبه حالة طه حسين وأمثاله؛ وأما الاحتمال الأخير فهو الذي يحدث وقت الثورة العامة.

لغز إهداء الكتاب
هذا قد يفسر لنا السبب الذي حمل طه على تقديم كتابه «في الشعر الجاهلي» إلى عبد الخالق ثروت مع لقب صاحب الدولة، ومع المديح والإجلال، على غرار المؤلفين القدماء الذين كانوا يهدون كتبهم إلى الحكام والأمراء والولاة؛ فالظاهر أنه كان يطلب الحماية السياسية التي تسمح له بمواجهة الهجوم الذي كان يتوقعه ممن وصفهم بالساخطين والمزورّين، على أن هذا السلوك يجافي ما سوف نجده من خلق طه حسين، ولعله لجأ إليه عملاً بمبدأ الضرورة، وهو المبدأ الذي تخلى عنه في النسخة المعدلة من الكتاب. 
لكن هذا التقديم يطرح سؤالاً: لم يكن ثروت على رأس الحكومة المصرية في 22 مارس من سنة 1926 حين أنجز طه حسين النسخة الأولى غير المعدلة من كتابه ذاك ومهّد لها بذلك التقديم، بل تولّى الرئاسة في 26 إبريل، أي بعد ذلك التاريخ بشهر وأربعة أيام، بل لم يكن ثروت في ذلك المنصب حتى بعد خروج الكتاب من المطبعة في 3 إبريل بأكثر من ثلاثة أسابيع! فهل ما أشير إليه من تاريخ التأليف والطباعة غير صحيح، أم أن طه حسين كان يعلم بترشيح ثروت لرئاسة الحكومة خلفاً لعدلي يَكَن قبل تسميته رئيساً بما يناهز الشهر؟ الأمران محتملان، وربما اجتمعا معاً، أي عدم الدقة في التاريخ والعلمُ بالترشيح للرئاسة، وهذان لا يقدحان في خلق طه حسين، لأن انتقاء الدقة كان أمراً شائعاً، ولاسيما حين كانت الطباعة بعدُ بدائية، والكلام على تأليف الحكومات قبل أوانه من الأمور التي لا تزال شائعة حتى اليوم ■