نماذج نسائية في أدب العميد

نماذج نسائية في أدب العميد

يخرج أدب طه حسين (1889 - 1973) متكئاً على أبعاد اجتماعية، بدءاً من سيرة حياته في كتابه «الأيام»، إلى أعماله القصصية المتنوعة.
ولا غرو، فللمرأة مكانة كبيرة في حياة صاحبنا، إذ نشأ طفلاً معاقًا (ضريرًا) شديد الحاجة إلى أمه وعطفها أكثر من بقية إخوته.
ولما اشتد عوده، وبلغ مبلغ الرجال كانت المرأة في حياته زوجاً وصديقة ورفيقة كفاح وأمًّا لابنيه (أمينة ومؤنس).

ولذا جاءت صورة المرأة في أدبه ثمرة طبيعية تعكس كل خصائص حياته الخصبة المتنوعة الثرية.
شهد أدبه صوراً ونماذج نسائية لافتة كالأم الصعيدية والكاعب الصعيدية (الرزان) والغانية (الغازية) اللعوب تاجرة الأسرار دهقانة الغوايات، والمرأة المنتمية لعائلة ثرية، المختالة بجاه أسرتها، والمرأة الفقيرة الكادحة التي يجبرها الفقر على السقوط، والمرأة المحرومة من العطف المبتلاة بمحنة الضُّرة، وغيرهن من النماذج التي وجدت في مجتمع مصر في القرن العشرين، ذلك المجتمع الذي عانى من فوارق طبقية، وهوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء، وكذلك صنوف من الجهل والمرض في ريفه العميق، ونجوعه القصيَّة، الأمر الذي جعل الأنثى تُعاني الأمرّين من الجور وضغط العادات والأعراف، ونظرة المجتمع الذكوري البطريركي، إذ يسيطر الرجلُ ماديًّا وفكريًّا وأسريًّا؛ ليكون حقُّها في النهاية مهضومًا في ذلك المجتمع.

صورة الأم
تطالعنا صورة الأم الصعيدية، التي يحنو قلبها، لكن تصرفاتها وسلوكياتها تعبر عن جفاف البيئة الاجتماعية وقسوتها، فهي تهفو إليه، وتكترث له، وتعطف عليه، ولكنها لا تدلله، ولا تجعل من عاهته مبرراً لإفساده، حيث يكون الحنان الظاهر مفسدة في عُرفها، يدلنا على ذلك المشهد الذي وصفه طه حسين في كتاب «الأيام» عندما هرع لائذاً بغرفة الكرار، حيث السكاكين والسواطير الحادة التي أهوت على قفاه، فأسالت دمه: «وما أسرع ما ألقت أمه نظرة إلى الجرح، وما أسرع ما عرفت أنه ليس شيئاً ذا بال.. وما هي إلا أن انهالت عليه شتماً وتأنيباً ثم جذبته من إحدى يديه حتى انتهت به إلى زاوية من زوايا المطبخ فألقته فيها إلقاءً وانصرفت إلى عملها».
وللأم في كتاب «الأيام» مواقف من العطف والحنان المتواري خلف ستار الحزم مع الأبناء.
وفي كتاب «المعذبون في الأرض» نجد «أمونة» التي تضرب ابنتها عقب اكتشافها أنها خرجت دون إذن: «تناولتْ عوداً يابساً من سعف النخيل كانت تصطنعه في تقليب الخبز وإنضاجه ثم استقبلت الفتاة ملوحة بهذا العود اليابس، وأخذ العود يقع ما بين كتفي الفتاة في عنف شديد، وثَبَتْ له كأنما دفعها إلى الوثوب لولب في الأرض، أو جذبها إلى الوقوف سببٌ في السقف..».
ثم يستأثر الغضب بـ «أمونة» فإذا هي لم تبق امرأة، وإنما استحالت إلى «جنية» ثائرة، فكبت الفتاة على وجهها، وجمعت شعرها بين يديها، وجعلت تجذب الفتاة من شعرها في غير رفق، وتدفع بقدميها وجهَها في غير نظام..».
تضغط الأم على فم الفتاة وتهددها بالموت، وهي تردد: يا للعار، يا للفضيحة.
وكذلك نجد نموذج «محبوبة» في نفس الكتاب.
«المعذبون في الأرض» صورة لتقديس الأعراف الاجتماعية حتى لو كانت القسوة والغِلظة على فلذة كبدها هما طريقها التربوي.
وهكذا يقف النسق الثقافي المُضمر وراء سلوكيات الأمهات اللائي رُبين في قالب حديدي صارم من القسوة والقهر والخوف والعيب، ليصدرن هذه المفاهيم إلى أولادهن، فتدور الدائرة، وينمو مجتمع يؤمن بتلك القيم السلبية.

المرأة الخارجة عن السياق
زنوبة، ماجنة متحدية خلعت برقع الحياء، لا تقيم وزناً لآداب بيئتها، تمتهن قيم الجماعة الصارمة. أجادت الرقص والغناء، كما برعت في الفتنة والغواية، ووقع في حبائلها كثير من شباب القرية ورجالاتها، «ثم بحثت وبحثت حتى اختارت لنفسها رجلا من الخفراء غريباً عن المدينة.. قوي البنية طويلاً ضخماً مخيفاً، لكنه على ذلك ضعيف النفس، سيىء الخلق، مدخول الضمير، فاتخذته زنوبة لنفسها زوجاً أو خليلاً وعاشت معه عيشة يُقرها القانون، وتنكرها الأخلاق، وينكرها الدين..».
أما هنادي في «دعاء الكروان» فهي موزعة النفس، بين الجموح والخروج على سياق المنظومة الاجتماعية، وبين الرضوخ والخوف.
ولقد وقعتْ في حبائل المهندس الشاب غير آسفة على ما تورطت فيه من خطيئة: «كنت أحسبها محزونة لما تورطت فيه من خطيئة.. ولكني بعد أن أنفقت معها ليلة كاملة وتبينت من أمرها ما تبينت استقبلت الصبح ونفسي تذوب أسى وحسرة على هذه الفتاة التي تنظر وراءها فترى حُبًّا مضيعًا، وتنظر أمامها فترى خوفًا مروعًا..».
ثم تأتي النهاية، أو العاقبة الأخلاقية، حيث تُعاقب الفتاة هنادي بالقتل على يدي خالها، كما عوقبت أمينة بالذبح، واخترق السكين قلب مارتا، ودفنت ملزمة حية تحت التراب.
وهكذا يتضح موقف العميد من هذا النموذج الخارج عن إطار المنظومة الحديدية لمجتمع النصف الأول من القرن العشرين في مصر.
حتى شخصية «خديجة» المرأة المستورة بنت العائلة المرموقة، تنتهي حياتها بالموت انتحارًا، احتجاجًا على أهلها الذين أجبروها على الزواج من رجل لا تريده: «لقد أُكرهت خديجة على الزواج إكراهًا، ومس حياءها النقي ونفسها الطاهرة منه دنس، لم يستطع الحب الزوجي أن يغسله فغسله الموت!».
وهكذا، صوَّر أدب طه حسين نماذج نسائية عبرت عن مجتمع مليئ بالقيود والأعراف الظالمة، رُحن جميعًا ضحية له، وكانت النهايات متفقة تماما في مصائر الشخصيات على إيقاع العقاب الصارم على مَن تسوِّل لها نفسها بالتمرد ■