الفضاء الافتراضي.. التعددية بديلاً للانغلاق الطائفي!

الفضاء الافتراضي.. التعددية بديلاً للانغلاق الطائفي!

فن صناعة الكراهية يبدو اليوم، عنوانًا كبيرًا لأحداث نراها في العالم العربي بشكل خاص، تمتد آثاره على خارطة العالم، تقريبا، عبر أعمال عنف مباشرة بين الطوائف المختلفة في أرجاء واسعة من العالم، تأخذ أبعادًا سياسية، في حالات عدة، وقد تتجلى مظاهرها في احتقانات لا تتعدى حدود تبادل الخطابات العنيفة، ومع الأسف فإن هذه المظاهر العدائية التي تظهر مشاعر التقاتل البدائية، ترفع جميعًا شعارات دينية، وهو تناقض يوضح مدى ما قامت به البشرية من افتئات على القيم الأساسية للأديان بوصفها رسالات سماوية أخلاقية، لتبرير تحيزات تقوم على مبررات مشحونة بتضييق مساحة الهوية للفرد، على حساب العديد من الانتماءات التي يتم تهميشها، لأسباب سياسية في الأغلب يقودها أصحاب مصالح السلطة والسياسة ممن يتوسلون الدين وسيلة للوصول إلى السلطة.

ويمتد مجال هذا الاحتقان الطائفي والعرقي والمذهبي والديني من حدود الواقع إلى الواقع الافتراضي، على شبكة الإنترنت، حيث تقوم أغلب المنظمات التي ترفع شعارات دينية، بعمل مواقع إلكترونية تستقطب العديد من الأتباع، ممن يغلب عليهم التعصب، الذي يتجلى في التعقيبات والردود التي ترد منهم على الموضوعات المنشورة.

واستكمالا للموضوع المنشور في هذه الزاوية العدد الماضي بعنوان «الفيس بوك من المواطنة الافتراضية إلى فن صناعة الكراهية» أود توضيح أن «الفيس بوك» هو نموذج من بين نماذج عديدة أخرى لما يعرف بالشبكات الاجتماعية على الإنترنت، ولذلك فهو يتضمن من بين القيم التي ابتكر على أساسها، ولأجلها، فكرة التواصل والاتصال مع الآخر، على عكس المواقع الإلكترونية المؤسسة لغرض، أو المنتديات التي تستقطب أنصار الفكرة الواحدة، أو المذهب أو الطائفة أو حتى أنصار القبيلة الواحدة. والتي يتسم المشتركون بها بنوع من الانغلاق والتعصب ونبذ كل ما يتعارض مع ما يعتنقونه.

لهذا أتصور أن الشبكات الاجتماعية يمكن أن تلعب دورًا مهمًا يماثل دور المجتمع المدني في الحياة الواقعية في محاولة تغيير الذهنية القائمة على الواحدية، وتضليل الأفراد بمزاعم انتمائهم لانتماءات محدودة، وتضخيم إحساسهم بهذه الانتماءات، سواء كانت قبلية أو دينية أو طائفية أو مذهبية.

مجتمع هويته الفن!

يحضرني الآن فكرة انتبهت إليها إثر زيارتي لسويسرا قبل عدة سنوات، من خلال زيارة عدد من متاحف الفنون وأكاديميات الموسيقى في زيورخ وبازل، وتتعلق بالدور المحوري للفنون في مجتمع متعدد الهويات مثلما هو شأن المجتمع السويسري، فـ«الفن بوصفه وطنا» مقولة ذائعة في سويسرا تعبر عن الذهنية التي تراكمت في هذا البلد لتخلق تناغما بين الثقافات الأربع التي تتشكل منها، وهي الثقافة الأصلية للبلد، ثم الثقافات الإيطالية والفرنسية والألمانية. واليوم وعلى الرغم من هذا التباعد الكبير بين السمات الأساسية للشخصية التي يجسدها كل فرد من تلك الجنسيات، فإننا في سويسرا لا نسمع عن أي نوع من أنواع الاختلافات العرقية أو المذهبية أو الطائفية بين سكان سويسرا، ولهذا يضرب المثل بهذه الدولة في التناغم الاجتماعي.

والنقاش حول ما هو سويسري يعد جدلا شغل بال الأمة منذ تأسيسها في منتصف القرن التاسع عشر. وهو نقاش مقترن في مجالات عدة بمفهوم واحد يبرز ما هو سويسري باعتباره علامة حقيقية للنوع الجيد أو بوصفه أساس الديمقراطية، أو أنه نتاج أعمال دقيقة ومبتكرة إلى حد ما. وأصبحت مقولة «الفن بوصفه وطنًا» واحدة من المقولات الجدلية التي أسهمت في تأكيد أهمية الفن في سويسرا وفي دوره الحيوي في الجدل حول موضوع الهوية...

فالشخصية السويسرية ينتفي لديها ذلك الحس القومي الشائع لدى القوميات الراسخة لأسباب عدة لها علاقة بالتركيب الثقافي، والفنان السويسري وجد غالبًا في الفن محلاً وموطنًا لبحث هذه الجدلية.

فالفن في سويسرا ليس مجرد نتاج لأعمال، وحركات فنية تتطور وتنتج قيمتها بقدر التطور الكيفي والذهني، وإنما معادلة معقدة ترتبط بأزمة الهوية السويسرية. بلد يتألف من أربع لغات، أو أربع ثقافات بالأحرى، وتمثل المناطق الأصلية لهذه الثقافات أقطاب جذب قوية، خاصة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. أما فيما يتعلق باللغة الإنجليزية فهي اللغة التي تمثل لغة الاتصال بين سكان سويسرا من تلك الثقافات المختلفة. وإضافة للغة الإنجليزية يجد السويسريون عادة في لغة الموسيقى وسيلة أخرى للتواصل، ولغة الفن بشكل عام، ومن هنا يصبح الفن له دور جوهري في المجتمع السويسري.

لكنها أيضا يمكن أن تميط اللثام عن الكثير من خصوصية الثقافة السويسرية المتنوعة، اللامركزية والتي تعتمد أيضا على التفاعل المستمر مع الثقافات الأخرى كوسيلة من وسائل تأكيد هويتها كمنطقة تتعامد فيها الثقافات، تتقاطع وتتجاور، وتبحث دائما عما يحقق لها الاعتداد بالنفس في جوار ثقافات لها جذور تاريخية أكثر استقرارًا.

إن النموذج السويسري يكشف لنا كيف أنه اتخذ خطًا مغايرًا لما هو سائد في التعامل مع أزمات الهوية بشكل عام وهو أسلوب التناغم، وتقاطع الهويات وتجاورها، بديلا للاختلاف والانفصال والتشاحن ومن هنا تأتي الأهمية الكبيرة لتأمل ودراسة هذا النموذج.

لكن كيف يمكن أن يتحقق النموذج السويسري في المجتمعات العربية الإسلامية، في ظل التنامي الرهيب للصراعات المذهبية، وتزايد النعرات المتشددة التي تغذيها اليوم الجماعات الإرهابية المتشددة بشكل أصبح مثيرا للقلق؟

مجتمع مدني افتراضي

أقتطف بداية هذه الفقرة من الكتاب الذي كنت أشرت إليه في المقال السابق للفيلسوف الهندي الحائز على نوبل أمارتيا صن بعنوان «الهوية والعنف» حيث يقول «إن التعرف الأساسي على ما تتسم به الهويات من تعددية سوف يكون له تأثير مناهض لمحاولة رؤية الناس حصريا بناء على انتماءاتهم الدينية، مهما كان مدى تدينهم داخل مجال الدين. إن محاولات مجابهة الإرهاب من خلال مساعدة الدين في بريطانيا وأمريكا أدت إلى تعظيم صوت رجال الدين وغيرهم من أعضاء المؤسسات الدينية في مسائل لا تدخل ضمن مجال الدين، وذلك في وقت كانت فيه أدوار المسلمين السياسية والاجتماعية في المجتمع المدني، بما يشمل ممارسة الديمقراطية، في حاجة إلى تعزيز وتأييد أكبر. إن ما فعله التطرف الديني للحط والتهوين من قيمة الفعل السياسي المسئول للمواطنين (بصرف النظر عن الدين الذي ينتمون إليه) عُمِدَ إلى تقويته بدلا من استئصاله ومحوه، بالإقدام على محاربة الإرهاب عن طريق محاولة تجنيد المؤسسات الدينية على الجانب الصحيح من الخط الفاصل المزعوم. وفي التقليل من الهويات السياسية والاجتماعية باعتبارها تتعارض مع الهوية الدينية، كان المجتمع المدني هو الخاسر، بالضبط في وقت تتعاظم فيه الحاجة إلى تقويته».

ويمكن النظر إلى ساحة الإنترنت بشكل عام بوصفها خارطة افتراضية موازية للواقع، فهناك مئات من المواقع التي تكرس للعزلة الطائفية، وإثارة النعرات المذهبية، سواء بشكل مباشر او غير مباشر، لجماعات أهلية طائفية، أو منظمات

تشدد على توضيح هويتها الطائفية، وهذه في أغلبها كما هو شأن مثيلاتها في الواقع تستقطب تابعين، يرون فيها تمثيلا لهويتهم، أو تأكيدًا لانتماء مركزي، لا يرون سواه، أو على الأقل يمنحونه أولوية أولى أو منتديات شبيهة، وفي هذه جميعا عادة ما نجد إثارة لموضوعات جدلية من شأنها إثارة المزيد من تعصب هؤلاء التابعين، عبر دغدغة مشاعر الغيرة الدينية بإلقاء الضوء على ممارسات عدائية من قبل طوائف أخرى أو أضداد، ما يكرس دائرة مقيتة من سوء الفهم وإثارة المزيد من التشاحن والكراهية.

وهذه المساحة الافتراضية تتمتع بنفس ما تتمتع به في الحياة الواقعية من سمات الانغلاق على الفكرة الواحدة، وعلى الطائفة، مما يمنع عنها الكثير من الخصائص الإيجابية التي توفرها شبكة الإنترنت بفضل مفهومها وطبيعتها كفضاء معرفي مفتوح.

ولا أريد التمثيل على مثل هذه المواقع، فهي بالعشرات لمن يريد أن يطلع عليها، حتى لو كانت منتديات مغلقة على أعضائها فهي متاحة على الأقل للتصفح.

لكن ما أود التوقف عنده هنا هو المزايا التي تتمتع بها الشبكات الاجتماعية الافتراضية في مواجهة تلك المواقع الموجهة للفتن وتقييد انتماءات الأفراد، وتغذي خيالهم بأن مجال انتمائهم الأساسي لا يزيد على صندوق صغير يكفي للطائفة أو المذهب.

انفتاح بدلاً من انغلاق الطائفة

فالمواقع الاجتماعية تخرج من هذا الإطار لأنها تجمع أكثر من شخص له هوية مختلفة لكنها تخلق الحوار بين تلك الهويات وتحاول أن يجد كل منها مساحات المشترك أكثر من مساحات الاختلاف وبينها مساحات التحيزات الطائفية.

بالنسبة للفيس بوك كنموذج يمكن القول إنه، من البداية، يضم العديد من الاختلافات الفئوية حيث يجمع أشخاصًا يختلفون في الأعمار، والطبقة، والمستوى الاجتماعي، واللغة، والجنسية، والوظائف، بل وحتى الاختلاف على مستوى القيم مثل التمسك بالقيم المحافظة التقليدية أو التحرر.

لكنه يحقق التفاعل والتقاطع بين كل تلك التحيزات والانتماءات المختلفة، على أرضية تتضمن حدًا أدنى من الحوار، لذلك قد يتيح الفيس بوك فرصة التفاعل بين هذه الهويات المختلفة بالفعل.

وعلى سبيل المثال فقد يجمع الفيس بوك مثلا بين المسلم المتحرر العارف بأكثر من لغة والمسيحي الأوربي من الطبقة الوسطى، والآسيوي العامل في مهنة عادية. أو بين فتاة أوربية مسلمة من البوسنة أو كوسوفو مثلا، غالبا لا تعرف العربية، مع مسيحي عربي شرقي محافظ نسبيا لكنه يشعر بأن القيم التي تعبر عنها الفتاة المسلمة الأوربية قريبة منه بسبب انتمائها هي لقيم المجتمع الأوربي العلماني الذي تعيش الكنيسة في خلفيته، على الرغم من كونها مسلمة. كما قد نجد على «الفيس بوك» حوارا بين كاتب عربي كبير في العمر، له رؤاه التقدمية، وأفكاره عن الحياة من وجهة نظر شديدة التحرر، مع أشباه له «قيميًا» من أجيال تصغره بأكثر من ثلاثة عقود مثلا.

وهذا هو تحديدًا ما يميز الفيس بوك وغيره من الشبكات الاجتماعية عن المساحات الاِِفتراضية الأخرى.

إشكالية عميقة

وقد يبدو الحديث عن «الفيس بوك» كنموذج لإمكانية تغيير الأفكار الخاصة بوهم الهوية مفرطا في التفاؤل، في ضوء مستوى الأمية الذي يسود مساحات واسعة من العالم العربي، ما يجعل من إمكانية استخدام تقنيات الاتصال الحديثة وعلى رأسها شبكة الإنترنت، ترفا لا قبل لأحد به، مع ارتفاع مستويات الفقر كذلك مما يجعل حتى اقتناء جهاز كمبيوتر هو شبه مستحيل إن لم يكن معجزة.

وهذا صحيح، ربما، لكنني أظن أن الشبكات الاجتماعية لا يمكن أن تقوم بدور علاجي لأمراض المجتمع الاجتماعية قدر ما يمكنها أن تقدم النموذج عبر التفاعل بين دوائرها، وهي دوائر لا يستهان بها عدديا اليوم، في الوقت نفسه.

كما أنه يمكن أن يكون في هذه الشبكة ما يقدم الكثير من الدلالات التي تحتاج إلى البحث من قبل المتخصصين في مجالات التواصل الاجتماعي والإعلام الافتراضي وعلوم الإنترنت.

لكن اللافت في الوقت نفسه أن الموضوع الديني، أو المذهبي، لا يأخذ اهتمامًا عدديًا كبيرًا من قبل مستخدمي الفيس بوك كما قد يكون متوقعا في مقابل انتماءات أخرى.

وعلى سبيل المثال فإن هناك بعض المجموعات الاجتماعية الافتراضية، التي تنشأ على الفيس بوك والتي تبدو في نشأتها مجرد تنفيس عن رغبات في تأكيد شعبية الهوية التي تنتمي إليها مجموعة معينة وبينها مثلا المجموعات التي ترفع اسم النبي محمد(صلى الله عليه وسلم)، أو التي ترفع اسم السيد المسيح، أو السيدة مريم، فقد لا يزيد عدد المشتركين الذين يعبرون بموافقتهم الضمنية على هذا الانتماء الذي ترمز له المجموعة أو «الجماعة الافتراضية» على مليونين أو ثلاثة ملايين. بينما سنجد أن عدد المستخدمين من أنصار فريق مثل ريال مدريد الإسباني يفوق خمسة ملايين شحص، بينما يصل عدد المستخدمين لشبكة «الفيس بوك» من محبي لاعب كرة مثل كريستيانو رونالدو ما يربو عن 15 مليون شخص!

يقول صن «إن هويتنا الدينية أو الحضارية يمكن أن تكون شديدة الأهمية، لكنها عضوية جماعة واحدة بين جماعات كثيرة يتمتع بعضويتها كل منا. والسؤال الذي ينبغي أن نسأله ليس ما إذا كان الإسلام (أو الهندوسية أو المسيحية) دينًا محبًا للسلام أو محبًا للحرب، لكن كيف أن المسلم المتدين (الهندوسي أو المسيحي) يمكن أن يجمع بين معتقداته أو ممارساته الدينية وملامح أخرى للهوية والالتزامات والقيم الشخصية. أما رؤية الانتماءات الدينية أو الحضارية لشخص ما باعتبارها هوية تبتلعه تمامًا فإن ذلك تشخيص عميق الإشكالية».

 

 

إبراهيم فرغلي
  




 





الشبكات الاجتماعية يمكن أن تلعب دوراً في تضخم إحساس الأفراد بانتماءاتهم القبلية أو المذهبية





العنف الطائفي والمذهبي كثيراً ما أدى إلى الاضطرابات السياسية





القتال والعنف في الواقع انتقل إلى العالم الافتراضي





العنف يتولد من توهم الأفراد أن هويتهم تنحصر في انتمائهم لجماعة واحدة فقط وإغفال كل الانتماءات الأخرى