إجهاد التعاطف... الأسباب والعلاج

إجهاد التعاطف... الأسباب والعلاج

التعاطف مع الآخرين ورعايتهم في محنهم وأزماتهم صفة نبيلة ومطلوبة بدون شك، لكن الانغماس فيه بشدة يقتضي بعض التحذير؛ فقبل ثلاثة عقود أو نحو ذلك، لاحظ أستاذ علم النفس الأمريكي الدكتور تشارلز فيغلي- المهتم بموضوعات الصحة العقلية، والضغوط النفسية في نطاق الأسرة- أن للرعاية ثمناً - أو خطراً- أطلق عليه «إجهاد التعاطف»، وهو المصطلح الذي يشير إلى الإنهاك الجسدي والروحي والضغوط النفسية الثانوية التي يتعرض لها الأفراد والمهنيون الذين يقومون برعاية المرضى وسواهم من ضحايا الحوادث والكوارث والصدمات.

 

 لقد ذكر فيغلي أن الأشخاص الذين يقدمون الرعاية يعانون أحيانًا من الألم، كنتيجة مباشرة لتعرضهم لأمور صادمة متعلقة بمتلقي الرعاية، واعتبر ذلك تبعة طبيعية، غير مرغوبة، للعمل مع أشخاص يعانون، وقال إنه أمر متوقع، وقابل للعلاج، ويمكن تجنبه، وأكد على أهمية الوعي به كخطوة أولى من خطوات العلاج، وذلك من خلال إجراء اختبارات تقييم درجة التعرض للخطر، وحذر من مغبة هذا النوع من الإجهاد وأثره السلبي على حياة القائم بالرعاية والمقربين منه، ولاسيما عندما تبقى الحكايات والصور ورائحة الموت في ذاكرته دون حراك.
ودعا إلى تبني تدابير متنوعة للحد من تلك الآثار الجسيمة المحتملة، كاستراتيجيات رعاية الذات، والقيام بأنشطة تجدد الطاقة و»تشحن البطارية»، والتأمل، وكتابة المذكرات كنوع من التنفيس، والحصول على مساندة الأسرة والزملاء، وهذا إلى جانب الاستفادة من برامج تسهيل عملية التعافي مثل برنامج «الطريق إلى العودة للمنزل» الذي يستغرق بضع جلسات، تتضمن أساليب لإدارة القلق، ومهارات رعاية، وتعزيز مقاومة المعاناة مع الآخرين، وتبدو مثل هذه التدابير ضرورية أيَضا لمن يعانون بصمت من جراء رعاية مسنين أو أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة في المنازل، أو تربية أطفال، ممن يتعاطفون بشدة مع معاناة هؤلاء أو غيرهم من الأقارب، والأصدقاء، والجيران، ثم يجدون أنفسهم مجهدين ومحاصرين بمشاعر الحزن، والقلق والاكتئاب والرغبة في الانعزال، والبكاء من غير أسباب واضحة. 

الأعراض في سبعة مجالات
وفقا لـ فيغلي، يمكن لأعراض إجهاد التعاطف أن تظهر وتؤثر في سبعة مجالات:
1 - المجال الإدراكي، حيث تراجع التركيز، والارتباك واللامبالاة، وغير ذلك.
2 - المجال العاطفي، مثل الشعور بقلة الحيلة، والقلق، والخدر. 
3 - المجال السلوكي، الذي يمكن أن يبرز على هيئة اهتياج، وانسحاب، وفرط يقظة.
 4 - المجال الروحي، مثل فقدان الهدف، والتشكيك في المعتقدات الراسخة، وقصور الرضا عن الذات. 
5 - مجال العلاقات الشخصية، عندما يتراجع الاهتمام بالحميمية، ويفضل الانعزال، وتزيد الصراعات الشخصية. 
6 - المجال الجسدي، مثل التعرق، وتسارع ضربات القلب، والشعور بالدوار. 
7 - مجال أداء العمل الذي قد يظهر في صورة انخفاض الدافعية، والغياب المتكرر، والإحساس الدائم بالإرهاق.  ومن بين ما تحذر منه العديد من المواقع المهتمة بالموضوع، والتي تساهم بتقديم النصائح والاختبارات النفسية لتقييم مستوى إجهاد التعاطف، بعض علامات كتغير أنماط تناول الطعام، وأنماط النوم؛ والعزلة، والعزوف عن التمتع باستراحات، وإجازات؛ والشعور بالملل من العمل؛ وسرعة الغضب، والاحساس بالإنهاك النفسي؛ وإهمال رعاية الذات؛ والاصابة بالاكتئاب والقلق، وعدم القدرة على التركيز.  

ممرضو أوربا الوسطى
   يعد قطاع الرعاية الصحية، ولاسيما التمريض من أكثر القطاعات التي يتعرض العاملون فيه لإجهاد التعاطف، حيث يعيش العاملون، الذين عادة ما يشعرون بالرضا لمساعدة الآخرين، مواقف يجمدون فيها مشاعرهم، أو يشعرون باليأس والغضب في استجابتهم للضغوط النفسية التي يعيشونها عند مراقبة المرضى وهم يمرون بصدمات وأمراض مستعصية،  فمن الممكن أن يصاب مقدم الرعاية بحالة من التوتر والانشغال باستعادة الأحداث الصادمة التي عاشها المريض، أو يتجنب تذكرها ويعاني ضغوطًا نفسية متراكمة تشكل حالة من الاحتراق الوظيفي الذي يأتي من التعرض الطويل للضغوط المختلفة في مكان العمل. 
وقد استهدفت دراسة ناتاليا أوندريجكوف وجوليا هالاموف من معهد علم النفس التطبيقي بجامعة كومينيوس المنشورة بمجلة علوم التمريض الدولية، كمثال، استكشاف خبرات هذا الاجهاد واستراتيجيات التوافق معه لدى الممرضين في أوربا الوسطى باستخدام مدخل نوعي وضح العوامل المسببة للضغوط النفسية وإجهاد التعاطف، في ضوء نموذج فيغلي المشار إليه، ومن خلال استبانة وزعت عبر شبكات التواصل الاجتماعي في 2020 طرحت أسئلة مفتوحة حول تجارب ضغوط المهنة وإجهاد التعاطف وسبل رعاية الذات وتحقيق التوازن في الحياة كاستراتيجيات للسيطرة عليه لدى 86 من ممرضي أوربا الوسطى- التشيك، وسلوفاكيا، والمجر- غالبيتهم من النساء وممن تتراوح خبراتهم ما بين خمس وستة وثلاثين سنة ويبلغ متوسط أعمارهم أربعين سنة.  
وكشفت النتائج عن عومل عاطفية تتضمن صور المشاعر والصعوبات العاطفية، ومشاعر قلة الحيلة والتوتر والغضب والارتباك، حسب وصف الممرضين، وعوامل سلوكية تتجسد في أفعال التعامل مع تشخيص المرضى والحالات المتغيرة في غرفة الطوارئ، والمرضى الأطفال، ومن بين عوامل العلاقات الشخصية، التعامل مع الناس، والتغذية الراجعة السلبية من فريق العمل، والمرضى وعائلاتهم. وأشار الممرضون إلى مشكلات وصراعات مع فريق العمل، والوقوع تحت ضغوط الرعاية الزائدة بالمرضى، ومن العوامل الجسدية الشعور بالإرهاق والإنهاك من جراء ثقل عبء العمل، وتضمنت العوامل الروحية، التعامل مع قضية الموت، وصعوبة تحقيق التوازن في الحياة، وضيق الوقت المخصص للأسرة، بينما اشتملت الجوانب الإدراكية على قضايا تحمل المسؤولية، والتعامل مع المواقف الخارجة عن السيطرة، وضغوط ناتجة عن كون الممرض مسؤول عن حماية حياة المريض وصحته، وعدم ايذائه بارتكاب خطأ، وعدم القدرة على حل المشكلات والتوافق مع المخرجات غير الناجحة، وغير المتوقعة. ومن عوامل أداء العمل، شح الموارد، وسوء إدارة نظام الرعاية الصحية، وغياب الدعم، وقصور تقدير العاملين بالرعاية الصحية، وتكبد عناء السفر للوصول إلى العمل، وضغوط ساعات العمل الطويلة بلا راحة، بسبب عدد المرضى الكبير. 
وأشار الممرضون إلى مشاعر خبروها أثناء شعورهم بإجهاد التعاطف، من خلال عبارات مثل: «أنا لست طيبة، وبإمكان أي شخص إثارة عصبيتي» و»عندما أصبت بإجهاد التعاطف شعرت بالحزن، واللامبالاة، ولم يعد لدي مزاج ملائم لفعل أي شيء»، و « أقوم بعملي بلا مشاعر» و»أشعر باليأس»، و» أشعر بالخوف الشديد، ولا أمل لدي»، و»أشعر بقلة الحيلة، و» أشعر أني مجهد عقلياً وغير قادر على مساعدة المرضى»، و»ليس لدي الوقت المناسب، ولا القدرة الكافية للمساعدة». و»لا أستطيع عمل أي شيء، لقد فاض الكيل».
وعن سلوكياتهم في وقت الإجهاد تحدث الممرضون المشاركون عن قلة صبرهم، وسرعة انفجار غضبهم، وتصرفهم على نحو عدواني، ورغبتهم في العزلة والهروب من تحمل المسؤوليات، وتراجع تواصلهم مع من حولهم. 

التوافق مع الإجهاد 
وفيما يتعلق بالتوافق مع إجهاد التعاطف، أكد الممرضون المشاركون على أهمية مقابلتهم بالمحبة والابتسامة، والتعبير لهم عن مشاعر الامتنان سواء من المرضى أومن ذويهم، ووجود شركاء مقربين، إلى جانب مراجعة طبيب أو إخصائي نفسي لاستعادة التوازن، والكتابة عن مشاعر الإجهاد في محاولة تنظيم العواطف، وربما رعاية حيوان أليف وقضاء بعض الوقت معه، علاوة على ممارسة بعض الأنشطة الإبداعية كالموسيقى، أو الرسم، أو الطبخ، والانشغال بتنمية الذات وتعلم التحكم بها، والتواصل مع الأسرة والأصدقاء ومرافقتهم في رحلات أو ارتياد مطاعم أو دور سينما. 
كما أشاروا إلى العناية بالجسد بممارسة الاسترخاء، والتمارين الرياضية والسباحة، والحصول على النوم الجيد، وتناول الطعام الصحي، ولا بأس من زيارة مركز تجميل، والتمتع بجلسات تدليك، أو يوجا، او علاج بالأعشاب الطبيعية. 
ولمقابلة الجانب الروحي والجانب الإدراكي اقترحوا وجود هدف ما، والعمل على تحقيق أحلام المستقبل بصورة تغير أسلوب الحياة، وممارسة أنشطة ذات طابع ديني، وقراءة بعض النصوص الأدبية التي تعزز الشعور بالامتنان والتأمل، إضافة إلى أنشطة توسيع المعارف وتعزيز التفكير المنطقي الذي يساعد على تفهم الآخرين، كما تفيد القراءة في تنمية الخيال والهروب من الواقع لبعض الوقت، وفيما يتعلق ببعد أداء العمل، أكدوا على أخذ إجازة، أو العمل بدوام جزئي إن أمكن، والبحث عن عمل يتمتع ببيئة إيجابية مساندة، وحسن إدارة الوقت ووضع أولويات للمهمات وتفويض بعضها.  
ومن ضمن الدراسات المنشورة في 2023 دراسة بحثت مستويات إجهاد مئات الممرضين بمستشفيات إحدى الجامعات التركية، وطرقهم في التوافق والمواكبة، وكشفت نتائجها عن مستوى احتراق وظيفي منخفض، ومستوى منخفض- متوسط لأعراض إجهاد التعاطف، ومستوى منخفض للشعور بالقلق والاكتئاب، والأعراض الجسدية، وتقدير الذات السلبي نتيجة لتبني استراتيجيات توافق إيجابية، بينما أوصت دراسة أجريت في الصين شملت أكثر من سبعمئة شخص من مقدمي الاستشارات الصحية والاجتماعية عبر منصات افتراضية خلال فترة كورونا- الغالبية من النساء المتزوجات - بإعداد برامج تدخل لمقاومة إجهاد التعاطف. وأكدت على دور ممارسة التأمل والتعاطف مع الذات في التقليل من هذا النوع من الاجهاد، وقدرة برامج التدخل هذه على تحسين مخرجات الخدمات المقدمة ■