ثمار الجفاء!

ثمار الجفاء!

  في بدايةِ جائحةِ كورونا التي فرضت التباعدَ الاجتماعي قلنا إنَّ آثارَ العزلةِ والتقوقعَ لن تكون آنية بل ستكون عميقةً وبعيدةَ الأثر، وللأسف ها هي نتائج العزلة وثمار الجفاء تطرح مواسمَها في البنيةِ النفسيةِ والاجتماعية للفرد والمجتمع، وإنْ بدا ذلك بصورةٍ متفاوتةٍ وفقَ عوامل مختلفة ترتبطُ بالثقافةِ وطبيعةِ التجربةِ التي فرضتها الجائحة.
 ها هي النتائج تُطلّ برأسها في العلاقات الاجتماعية ليس فقط بين الأباعد والتي أصبحت العلاقة معهم مرتبطة بشكل واضح بالحاجة والمصالح المتبادلة إلا فيما ندر، بل بين المقرّبين والأقارب، وقد يصل الأمر في حالات مؤلمة  ليشملَ من هم من الدرجة الأولى؛ إذ أصبح محور اهتمام الفرد المعاصر هو الذات والعائلة الصغيرة، وما يليهما علاقة خاضعة للمصلحة وللقلب المتقلب.
«كورونا» جمدت المتحرك من الحياة، همّشت المُسلّمات، واكتسحت مساحات دافئة كانت محوطة بسياج من التسامح والتغاضي، فتحت كوة في جدار النفس فدخل منها البرد، هرَّبت غيومُ الود الممطرة بلا موسم فعمَّ الجفاء والجفاف، وغابت تلكَ التفاصيلُ الصغيرةُ المتبادلةُ التي كانت تزيد الوشائجَ وتوثّق العلاقاتِ وتجعلها دافئةً نابضةً متواصلة، كأنما غيّرت مجرى نهر متدفق وأوقفت عنه الامداد فجفّ أو كاد.
كثيرًا ما تعود بنا ذاكرةُ القلب إلى الماضي القريب، حيث كان التواصل بين الأقارب والمعارف يتم على فترات متقاربة، والسؤال عن الحال ترتبط به تساؤلات دافئة نابعة من مخزون باطني نقي من الحب والاهتمام عن التفاصيل حتى الصغيرة منها، وتبادل الهموم الصغيرة والكبيرة، والإصغاء بكلّ الحواس، أما اليوم فالسؤال عن حال الآخرين غالباً ما يرتبط بوسائل التواصل الاجتماعي باللايك أو التعليق أو بكتابة رسالة ولا يكون إلا في الهموم الكبيرة كالمرض الشديد أو الموت أو بالأحداث المفصلية، مثل التخرّج أو الزواج والتي تستدعي أحيانًا المشاركة والحضور الفعلي الذي عكر صفوه حسُّ الواجب والاستثقال، يمكنك أن تستشعر لهفة الكلمة ونبضها أو بردها وحياديتها حين يكون مبعثها الواجب الاجتماعي فحسب.
غابت تفاصيلُ المحبةِ المرفرفة التي ترسمُ فسيفساءَ الأمن الاجتماعي، تلك التفاصيل التي كانت تشرق شمسًا في النفس، وتبدد عتمةَ الإحساس الثقيل بالوحدةِ والعزلة، وترسم لوحةً للعلاقات الإنسانية والاجتماعية الدافئة النابضة بكلّ ما هو داعم ونقي وجميل، تراجعت طرقُ التواصل الاجتماعي الفعلية بالتواجدِ الجسدي والقلبي والتي ترمّمُ الروحَ، وتسندُ النفسَ المنكسرةَ في حالةِ الحزن، وتضيئها بالبهجةِ وتشعشع فيها الطمأنينةَ والامتنانَ في مناسباتِ الفرح، لتحلّ محلها الشاشاتُ الباردة، والرسائلُ المُعدّة مثل قوالب مكرورة ومستنسخة بلا نبضٍ وحياةٍ التي مهما اكتست ثوبَ بلاغةٍ وبيان تظلُّ قاصرةً عن التعبيرِ والتأثيرِ أمام كلمةٍ واحدةٍ ينقلها الهواء دونَ وسائط.
 فهل آن الأوان للاعتراف بعمقِ الأثرِ الذي خلّفته الجائحةُ في طبيعةِ العلاقاتِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ في مجتمعنا العربي الذي من أهم ميزاته عمق الترابط والتكافل؟ وهل علينا السعي للتشخيصِ ورتقِ ذاكرة القلب، ورسم شمس محبة دافئة قبل أن تتفاقم الأعراض وتتسرّب أكثر إلى مفاصل حياتنا الاجتماعية وتنتقل لأبنائنا رسائل الجفاءِ ومواسم البرد؟! ■