«مسالك البصري» القراءة حين اصطدامها بسؤال الفن

يحدث أن يتعدد زمن القراءة ومكانها؛ كما يحدثُ أيضًا أن تكشف القراءة، زَمنًا ومكانًا، أقنعتها أو تُخفيها... فالقراءة - في العمق - تقاسمُ موهبةٍ، كما قال المفكر عبدالكبير الخطيبي؛ وهي أيضًا تقاسم فكرٍ، حتى وإن كان هذا التقاسم اختلافًا. فما الذي يمكن أن نتقاسمُه في هذه القراءة لـ «مسالك البصري» التي سَلكهَا التشكيلي والناقد الفني بنيونس عميروش في هذا الكتاب؟
أصاب بنيونس عميروش باختياره «مسالك البصري» عنوانًا لكتابه الثاني بعد كتابه الأول «قراءات في التصوير المغربي المعاصر - الجزء الأول». أصاب لأن المسلك طريق وسلوك، ولأنه يرتبط في غالب الأحيان بالوعورة: نقول «سار في مسلك وعر»؛ والمسلك أيضًا نهج. وإذا كان النهج يعني «خط له طريقًا يسير عليها»، فإنه يعني كذلك «تتابع النفس من شدة الإعياء».
يتخذ «البصري» في هذا الكتاب عدة مسالك ضاربة في الزمان والمكان، تتصادى أرجاؤها وأحيازها ما بين انبلاج الحداثة برموزها التاريخية والفنية، والمعاصرة في أوجهها وأشكالها الفنية وإعلانها القطع مع ما مضى.
ما قيمة نقد أو كتابة في الفن إذا لم نجد السؤال يزعج أو يقلق ما تتم مقاربته بصرًا ونظرًا. والبصر يضعنا دائمًا في موقف المسافة، كما هو الحال أيضًا مع النظر.
ومع المسافة التي تبعدنا أحيانًا عما نقرأه أو نكتبه وتقربنا منه أحيانًا أخرى، سنجد أمامنا حزمةً من المسالك تفرض علينا فكّها ومن ثم تضعنا أمام حيرة الاختيار والاختبار. مع المسافة، إذًا، سيبدو لنا أن القراءة قد أخطأت وأصابت في الوقت نفسه: أخطأت التعبير عن الإحساس الأول الذي التقطه البصر قبل النظر؛ وأصابت لأنها تفضح اختلالاتنا تجاه ما نقرأه ونراه، ذلك لأن «اختلالاتنا وأفكارنا الزائغة ناشئة عن المعركة التي نخوضها ضد لا حقائق، ضد مجردات، وعن إرادتنا التغلب على ما لا وجود له...». وهنا يمكننا أن نقول، إن القراءة تستيقظ عندما تصطدم بالسؤال. يبدأ التأول بعد النقد. ونقد قبل أن تعني «بين الحسن والرديء وأظهر المحاسن والعيوب، تحيل في اللسان )لسان العرب( إلى ما يلي» :وأرنبة لك محمرة، يكاد يفطرها نقده، أي يشقها عن دمها، ونقد الطائر الفخ ينقده بمنقاره أي ينقره، والمنقاد منقاره (...) ونقد الرجل الشيء بنظره ينقده نقدًا ونقد إليه: اختلس النظر نحوه، وما زال فلان ينقد بصره إلى الشيء إذا لم يزل ينظر إليه. والإنسان ينقد الشيء بعينه، وهو مخالسة النظر لئلا يفطن له...» هل سيكون على من يمارس النقد أن تعتمل فيه كل هذه المعاني؟! أكيد. ذلك لأن القراءة، حينما يتعلق الأمر بسؤال الفن، تكون في موقف اللمس، حيث تندس هذه الحاسة في العين لتصل وتفصل، في الوقت نفسه، المضيء والمعتم.
أول ما يسترعي الانتباه في «مسالك البصري» هو هذا التجاور -التزامن مع/بين التاريخي والفني. إذ أن بنيونس عميروش يحرص، في قراءته لتجارب وأعمال الفنانين التشكيليين، على وضع العمل الفني في مجريات الحدث أو الأحداث التي تزامنت معه أو أتت قبله، وكانت سببًا من أسباب إنتاجه. وهو ما نلاحظه، على سبيل المثال لا الحصر، حين يتحدث عميروش في «ثورات السيرة والأسلوب - من الفن إلى اللا فن» عن دافيد، گويا وبيكاسو، يقول عن أحدهم : «... خلد غويا روح المقاومين الأسبان ضد الاحتلال الفرنسي، كما عبر عن انتصار وطنه ومقاومته في حرب الاستقلال، من خلال ملامسة الوجدان الإنساني في قالب مشهدي درامي قوي ومؤثر للغاية.
كما خص أحداث 3 مايو 1808 بثلاث لوحات أخرى، تأتي في مقدمتها «عدوان المماليك» المتعلقة بتوصيف قتل المماليك المرسلين من لدن الأسبان جراء قمع نابوليون والعدوان الإسباني الفرنسي في ساحة المدينة، وتعد اللوحتان من أكبر آثار گويا التي تدخل في إطار ذكرى عصيان مايو 8081...».
وهو إذ يورد الحدث التاريخي إنما لكي يضيء زمنية العمل الفني البراني أما جوانيته فيرصد معناه بخبرته وتمكنه بأدوات ومفردات منتج العمل نفسه بحكم أنه أولًا وأخيرًا فنان تشكيلي مدرك بصرًا ونظرًا للشيء الفني.
إذًا فالعمل الفني في مقاربة عميروش له، يكون عملًا فنيًا فاعلًا؛ ذلك لأن المقاربة هنا تكون مزدوجة، أي أن العمل الفني يتعبر في «مسالك البصري» زمكانيًا؛ يفكك شيفراته عبر العرض والوصف، ثم يعيد تشفير ما تم تفكيكه. وهو ما يجعلنا نعتقد - ربما - أن الميل الأول هنا، في معظم مقالات هذا الكتاب، يكون لصالح العمل الفني بالأساس، أي للمفردات والخامات التي تشكل العمل... وهذا ما تمت الإشارة إليه في التقديم الذي جاء بعنوان «مسالك البصري أو إمكانية التفكير في الفن»، إذ كتب موليم العروسي ما يلي: «لذا أحسه يكتب عن الفن بدون عقد، تلك التي نجدها عند الذين يعمدون إلى تحويل المتن البصري إلى متن أدبي قبل الكتابة عنه. يعني أن بنيونس عميروش لا يضع المفهوم قبل العمل الفني، بل كأنه يترك للمفهوم فرصة التعرف على نفسه في الصورة».
على مدار قسمي الكتاب «وسائط الفن المعاصر: التحولات والامتدادات» و«الفن العربي المعاصر: قضايا ورهانات» ينسج بنيونس عميروش وشائج علاقة مزدوجة ذات مستويات متعددة أحيانًا ومتباينة أحيانًا أخرى، وهي: العلاقة مع داخل وخارج العمل الفني، من خلال موضعة العمل نفسه في موقع البين (بين الواقعي والافتراضي ،(أي بين الحدث الذي أنتجه أو كان سببًا في إنتاجه، والعمل الذي سيصبح هو نفسه (فيما بعد) حدثًا.
غالبًا «ما ننسى أن المرئي هو حيز العلامات وليس سطح الواقع؛ فأعيننا لا ترى العالم، بل إنها ترى المعنى...». أحيانًا، ونحن نشاهد عملًا فنيًا، نرى، أو بالأحرى، نتصور حدثًا جرى في زمن قريب أو بعيد يعيد حضوره على سطح القماشة أو في حيز عرض أدائي؛ وهو ما يمكن اعتباره، حسب عالمة الاجتماع والباحثة في مجال الفنون والصورة نتالي إينيك «الانتقال من التحليل الخارجي إلى التحليل الداخلي أو من التحليل السياقي إلى التحليل الجمالي».
وسواء كان الانتقال من السياقي إلى الجمالي أو من الجمالي إلى السياقي، فإن نظر بنيونس عميروش إلى التيارات الفنية، غربًا وشرقًا، يرصد القطائع التي عرفها تاريخ الفن والتحولات التي أدت إلى إنتاج وسائط فنية جديدة. نلمس هذا في حديثه عن الممارسات التصويرية Les pratiques picturales الحداثية والمعاصرة: «تفاقم تيار الحداثة، عمل على نشوء أنماط ما بعد الحداثة القائمة على تداخل الأداءات والتصورات النظرية، ما أدى إلى توالد الوسائط وتبديلها» مضيفًا أنه «مع نشوء الثورة البصرية الجديدة التي حولت الجاذبية المرئية من الصورة التناظرية Analogique إلى الصورة الرقمية Numérique انتقلت الصورة من الكيميائي إلى المغناطيسي عبر حامل جديد ينماز بالسلامة والسرعة الفائقة التي أذابت المسافة، ليتم الانزلاق إلى عصر الشاشة».
هكذا هي حال العمل الفني في «مسالك البصري»، محاط حينًا بهالة تذكرنا بزمنية وعطر الحداثة؛ وحينًا آخر بهالة الانتثار وأشعة بلور شاشة المعاصرة. والمعنى فيه يكون ظاهرًا وباطنًا. ظاهرًا للبصر يدرك عبر الحجب، وباطنًا للبصيرة لا يدرك إلا لأهل السؤال، ذلك لأنه «عين الحجاب على نفسه»، كما قال محيي الدين بن عربي.
وإذًا فهو لا ينكشف عملًا فنيًا إلا في البين حيث المقاومة على أشدها بين الهشاشة والسماجة، بين السائل والجامد، بين الحنو والعتو، بين البسط والقبض، بين الفراغ والملاء، بين الأداة والأداء...
فهل صار الفن «يلجأ إلى تجربة لم تعد معنيةً بهالة تحيط بالموضوعات، بل بهالة لا ترتبط بأي شيء أو لا شيء تقريبًا. هذه الهالة، هذا العطر، هذا الغاز، كما يحلو أن نسميها، تقول من خلال هذا المقام هوية العصر».
ويغلب علي الظن أن العمل القرائي الذي يقوم به بنيونس عميروش تجاه العمل الفني يلازم إلى حد ما قول الجاحظ عن بعض شعراء العرب أن منهم «من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا (أي كاملًا) وزمنًا طويلًا، يردد فيها نظره ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه؛ اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره إشفاقًا على أدبه...».
هل استطعت أن أرسم، كتابةً، الصورة التي كنت أفترض، بدءًا، أنها حادثة قراءة في «مسالك البصري»؟ ربما. ولكن الصورة التي تتراءى لي الآن بعيدة عن الصورة التي أردتها قبل وبعد ما افترضت أنه حادثة... ■