سحر القراءة وألغازها وضرورتها حسب ألبرتو مانغويل
ألبرتو مانغويل Alberto Manguel ،باحث ومبدع أرجنتيني لامع، وهو حالة ثقافية متفردة، فقد جعل من القراءة، في الآن نفسه، شغفًا وحرفة، وتوقف في أكثر من كتاب عند تاريخها وألغازها وتحولاتها وسحرها، وحاضر في منتديات ومحافل بمختلف بقاع العالم، مضيئًا معنى أن نأخذ بين أيدينا كتابًا، ومدافعًا عن فكرة دمقرطة القراءة وجعلها متاحة كالهواء للجميع.
غير أن ما يستوقفنا على الخصوص في سيرة «ملتهم الكتب»، كونه التقى، في إحدى مكتبات بوينوس أيريس، حيث كان يشتغل وعمره لم يتجاوز 16 سنة، بالمبدع الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، كان بورخيس قد فقد بصره، واقترح على فَتَانا أن يصبح «قارئًا خاصًا» له يقرأ عليه في المنزل في حصص أسبوعية محددة ما تيسر من نصوص، وسوف يعلق مانغويل بعد مرور عدة عقود على ذلك اللقاء كما يلي «لم أكن أدرك الهدية الاستثنائية التي قدمها لي القدر: أن أكون أمام أكبر قارئ في القرن العشرين، وربما في تاريخ الأدب». وقد ورد هذا التعليق في (الصفحة (148 من كتاب «جنتلمان المكتبات» (حوارت، ترجمة جمال جلاصي، الصفحة السابعة للنشر والتوزيع (2021 الذي سوف نعتمده في هذه الورقة.
والمثير في الحكاية هو أن مانغويل ظل وفيًا لهذه المصادفة، وقبل الهدية، وكرس مجمل حياته لقضية أساسية هي» الانتصار للقراءة»، فإلى أي حد حددت هذه الصفة الاختيارات الحياتية للمراهق مانغويل؟ وهل كان لديه استعداد قبلي ومؤهلات ومهارات كامنة جعلته، فيما بعد لا يدخر جهدًا في التعريف بأحوال القراءة والكتب والمكتبات حتى أصبح خبيرًا دوليًا في هذا المجال، وألف مؤلفات ثمينة أضاءت الموضوع من جوانب عدة آخذة بعين الاعتبار تلويناته وتحولاته؟
من المؤكد أن القراءة تجربة وجدانية وذهنية ووجودية عميقة تُشغل أكثر من مستوى في النفس البشرية، فهي تخاطب من الإنسان الفكر والخيال والحواس، وتشده إلى عوالم بعيدة وتحثه على الحلم، وهي سفر ومغامرة يتلبسان شكل ملامسة دلالات محتملة يوحي بها نص متعدد، إنها بحث في خبايا الذات وشرفة للإطلالة على تجارب الآخرين، وتمرين على التسامح وعلى قبول الاختلاف، لذا نجد مانغويل يدافع عن فكرة أساسية مفادها أنه «لا توجد طريقة صحيحة أو خاطئة للقراءة، كل قارئ يعرف أفضل طريقة للقراءة» (ص 16). وتعميقًا للفكرة السابقة لم يتردد مؤلف «تاريخ القراءة» في أن يكشف عن حنينه إلى قراءات الطفولة ونضارتها، مسجلًا أنه» عندما نكون أطفالًا نقرأ بطريقة بناءة، مع حرية نخسرها بعد ذلك ،إننا نتخطى المقاطع التي تزعجنا، ونغير بعض المشاهد في أذهاننا ونبني نصوصًا نحبها من الكتب التي نقرأها» (ص151 )، وهو يلتقي في ذلك مع عبقري آخر هو الرسام بابلو بيكاسو الذي اعترف ذات حوار أنه كان عليه أن يتعلم الرسم مرة أخرى كما لو كان طفلاً. الطفولة إذن هي فردوس بعض القراء النهمين ،كما أكد مانغويل أنه «لا فروق تذكر بين أدب يُنظر إليه بوصفه شعبيًا، وأدب يُعتبر كلاسيكيًا بل إن الأهم أن نجد في هذا الأدب سعادتنا وصورة حية للعالم» (ص 92). إن القراءة هي على ما يبدو، إحدى الطرق المؤدية للسعادة، وهي طريق غير مكلفة وتخبئ لنا أكثر من مفاجأة سارة.
لقد ربط مانغويل بين القراءة والحياة، واقترح علينا كذلك صيغة للتعامل مع الكتب بعد أن تزف ساعة الرحيل، حيث قال: «أعتقد أننا نخلق رابطة حية مع الكتب بدافع الصداقة والاحترام لها، أود فتحها مرة أخرى: يقول مربو النحل إنه في اللحظة التي يموت فيها مربي النحل، يجب على شخص ما أن يخبر النحل على الفور بأن المربي قد مات ،أود أن يقوم شخص ما بهذا من أجل كتبي» (ص 38). القراءة ههنا تصبح التزامًا وطقسًا له قدسيته ومعاشرة تُـؤخذ بجدية في جميع مراحلها، وهي غالبًا ما تُقدم على أنها مغامرة فردية، لكنها مع ذلك تسمح للقراء بأن يشكلوا ما يمكن تسميته بالأقلية الساحقة التي يكون لها تأثير عميق ووقع يحسب له ألف حساب على محيطها؛ إذ «يمكن للكتاب أن يمس عقل مجموعة صغيرة من الناس، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تغيير في الخيال الجماعي من خلال الإرسال الذي ينتقل من القراءة، يكفي أن تمر فكرة في مخيلة عدد قليل من الناس لتتطور وتتوسع للوصول في النهاية إلى الأغلبية» (ص 33)، بمعنى أن فعل القراءة قد تكون له وظيفة تخريبية ناعمة، ويشبه اشتغاله، في بعض الجوانب، الاشتغال بمختبر يهيئ منتوجات موجهة للمستقبل.
ويركز مانغويل في مجمل كتاباته وأبحاثه على القراءة، في ارتباطها أساسًا بالأدب، وهو يرى «أن هنالك شيئًا واحدًا نتعلمه من الخيال، ويتمثل في أنه عندما تنظر شخصية ما إلى العالم بأمانة، مثل «أبله» دوستويفسكي، فإن هذه الشخصية، في أمانتها، تتيح للجميع أن يحلوا محلها» (ص 41). الأدب يتيح لنا، إذن، أن تتعدد حيواتنا وتصبح أكثر غنى ويعطينا إمكانية تنسيب تجاربنا، كما «يمكن للخيال أن يمنح التماسك للفوضى التي تحيط بنا، ويمكن له أن يعبر في كلمات عن كل ما لا نستطيع تفسيره: يأسنا في مواجهة المعاناة المستمرة والمطلوبة، يأسنا في مواجهة ضيق الأفق» (ص150). وهنا تتحول القراءة إلى مقاومة وسند يرافقنا في مواجهة تجارب عصيبة.
والقراءة هي ممارسة متحولة وذات طابع حربائي، فالمرء لا يستحم، حسب مانغويل دائمًا، في الكتاب ذاته مرتين أبدًا، إذ أن أي كتاب يصبح آخر في كل مرة نعيد فيها قراءته، وفي ارتباط مع ذلك، يميز مانغويل بين القراءة وإعادة القراءة: ويعتبر أن «اكتشاف كتاب جديد أمر رائع، ولكن إعادة قراءة كتاب تعرفه، وبالتالي أحببتَه هي تجربة أكثر إثارة» (ص 59). ويمكن أن نزعم بأن شعورنا تجاه الإبداعات والكتابات التي استمتعنا بعوالمها تقترب، بشكل مدهش، من الشعور الذي نكنه لنساء ربطتنا بهن علاقة حميمة، هو شعور مزيج من الاعتراف بالجميل ومن الحنين وبقايا رغبة.
وكما أن للقراءة بعدًا فرديًا مؤكدًا، فلها أيضًا بعدها الجماعي أو الاجتماعي إلى درجة جعلت مانغويل يَجزم: «إذا كنت تريد معرفة شكل مجتمع معين، فراجع الطريقة التي يتعامل بها مع مكتباته، وتأمل الموضع الذي تشغله المكتبة» (ص 44)، وهذا الحكم قد ينسحب بيسر على الأفراد ومدى استعدادهم أو احتياجهم لأن يعيشوا بجوار الكتب وبجوار مكتبات تقتسم معهم فضاءاتهم الحميمة.
وإذا ما تمعنا في الأمر جيدًا ومجددًا سنصاب بالتأكيد بالدهشة من الطابع السحري والعجائبي الذي يكتسيه فعل القراءة، «فالكتاب، في حد ذاته، ليس شيئًا على الإطلاق، لكن لديه القدرة على أن يصبح شيئًا ما في عيون القارئ أو في عقله ومشاعره» (ص 06)، هذا القارئ الذي يقوم، في عملية مركبة ومعقدة، بإضفاء ملموسية متخيلة على عوالم تكون موجودة بالقوة فتنتقل إلى مرحلة تشكيل عوالم ممكنة وموازية للعالم الواقعي، كما أنها عملية لا يمكن التحكم في نتائجها خاصة فيما يتعلق بخلود عمل أدبي ما وديمومته «فبعض الكتب تبقى وبعضها الآخر يندثر، وهذا يعطي القارئ قوة عظمى» (ص 141) ويعطيه، حتى وهو في عزلته، سلطة الحسم في أحقية عمل ما في أن يظل متداولًا أو يكون الإهمال مصيره. أما كيف يقع التوافق بين قراء لا يتعارفون بل قد لا ينتمون إلى نفس البلد أو نفس الحقبة التاريخية في الاعتراف بالقيمة الفنية أو الفكرية الاستثنائية لعمل ما فذلك لغز حار الخبراء والعلماء في إيجاد جواب له ،لكن الشيء الوحيد الذي تم عليه الإجماع هو أن القارئ هو من يمنح الكتاب بطاقة العبور إلى الوجود بالفعل، وقد يؤمن له الخلود والبقاء قيد القراءة...
ويرفع ألبرتو مانغويل قبعته لعَينة خاصة من القراء (...)»أكثر أهمية من القارئ العادي تساهم في خلود الكتاب، هؤلاء هم المترجمون، فدون مترجمين، لن يكون هنالك أدب، ننسى أنه عندما نقول إننا قرأنا دوستويفسكي أو قرأنا كافكا، فإننا لم نقرأهما بالذات، بل قرأنا لمترجمي دوستويفسكي وكافكا» (ص 78)، وبهذا يخفف مانغويل من شبهة الخيانة التي لحقت دومًا بالترجمة والمترجمين.
وتأسيسًا على كل ما سبق يمكن أن نستخلص ما يلي: أن نقرأ معناه أن نختار، أن نجرؤ على الاختيار، وننحاز لمنظومة فكرية دون أخرى، ولنسق جمالي بعينه، ولقيم نعتبر أنها أجدر بالتبني ، ومن ثم، فقراءة كتاب قد تشكل أنسب مدخل لقراءة العالم وللانخراط في عملية تغييره، لأن القراءة لا تغير العالم ولكنها تغيرنا لنعمل بدورنا على التأثير في محيطنا محتمين بالمعارف والتحفيزات والدهشة التي تقدمها لنا الكتب ■