لماذا اخترت هذه القصص؟
بُنيت هذه القصص على أفكار طريفة ومدهشة، وأجاد كتّاب بعضها اختيار الطريقة التي يعبّرون بها عن أفكارهم، فيما تركها بعضهم الآخر كما تبادرت إلى أذهانهم لأول وهلة، ولكن الأهم في الكتابة الأدبية ليست الفكرة بحد ذاتها، وإنما طريقة كتابتها؛ لأن الأفكار الجيدة لا تكفي وحدها لكتابة أدب جيد، غير أن العكس صحيح تمامًا، فالكتابة الجيدة تجعل من الأفكار الصغيرة والبسيطة أكثر أهمية وإشراقًا. أدناه اخترت نصوصًا قصصية مبشرة بكتّاب جيدين في المستقبل متى ما لاقوا العناية والتشجيع، ونحسب أنه ما من تشجيع على الكتابة الجيدة أكثر من القراءة الجادة.
المرتبة الأولى: قصة «تقدير» لـفهد رباح الرباح / الكويت
يظهر في هذه القصة استثمار الكاتب فهد الرباح لاختلاف زوايا النظر بين الشخصيتين الرئيسيتين إزاء حدث واحد؛ فتارة تُحكى القصة من وجهة نظر الأم، وتارة من وجهة نظر الابنة. وقد بنى الكاتب الحكايتين على سبيل الافتراض عندما عنون كل واحدة منهما: «ما كانت سترويه الأم»، و«ما كانت سترويه الابنة»، وهذا ملمح مهم يدل على أن كل شخصية احتفظت بوجهة نظرها لنفسها ولم تبدها للطرف المقابل، فبقيتا حوارًا داخليًا للشخصيتين تهجس به كلٌ منهما على حدة.
في هذه القصة تبحث كل شخصية عن التقدير من الشخصية الأخرى، فيما تعتقد كل منهما أنها تقدمه بسخاء، ولكن الطرف الآخر يواجهه بسوء فهم/ وقلة تقدير، وهكذا أصبح العنوانان الفرعيان، بعد عنوان رئيس من كلمة واحدة نكرة وهي «تقدير»، مفتاحين لقراءة النص الذي يقول أكثر من منطوق كلماته، وقد بدا أن الأم لا تفهم حساسية المرحلة العمرية التي تمر بها ابنتها، فأخطأت تقدير ما يرضيها وما يسخطها، وانعكس ذلك على الابنة التي ظنت أن الأم يمكنها أن تنتقم من ابنتها.
يحسب للقصة أنها لم تقدّم خطابًا تربويًا مباشرًا، ولم تُشر إلى أصل المشكلة بلغة مُوجَّهة، وإنما تركت زوايا النظر تعتمل في دواخل الشخصيتين، تاركة للقارئ مأمورية فهم أصل القضية، ولكن وددنا لو أفصح النص عن السمات العمرية للابنة حتى يسهل فهم حالتها النفسية؛ فقد رأيناها طفلة من زاوية الأم، وخلاف ذلك من زاويتها هي، على الرغم ما قد نفهمه بأنها ربما تكون في مرحلة المراهقة، ولكن أمها تراها لا تزال طفلة، ومن جهة أخرى وددنا لو كان المكان أكثر وضوحًا، لأن الجزء الأول يقدم لنا الحدث وكأنه جرى في البيت كما تفترض البديهة، ولكننا فوجئنا بأن الأم قد أبلغت ابنتها بمفاجأة أخذها إلى مدينة الألعاب أمام فتيات المدرسة بأكملها! فهل جاءت الأم إلى المدرسة وأعلنت شيئًا كهذا لابنتها في طابور الصباح مثلًا؟ أم أن فتيات المدرسة كلها كنّ مدعوات في البيت قبل إعلان الأم عن مفاجأتها؟ من الجلي أن المكان غائم في الجزأين، وغير كاف لتحديد الصفة التي تشغلها الأم في المدرسة.
المرتبة الثانية: قصة «صاحب القهوة» للميس نبيل أبو تمام / الأردن
تبدو فكرتها عادية، ولكن تكرار لازمة الببغاء «صانع القهوة، بائع القهوة، صاحب القهوة ... مات»، أحدث فرقًا في إيقاع النص وأعاد ترتيب فواصله تبعًا لحضورها، فقد وردت لأول مرة في فاتحة القصة أشبه بخبر لا يُعلم قائله، مُشكّلةً مدخلًا نعرف من خلاله أن صانع القهوة وبائعها وصاحبها (لاحظ الترتيب الذي يفضي بواحدها إلى الآخر) قد مات، وسنتعرف في فقرة تالية على الظروف التي عاناها هذا الرجل المعدم بعد أربعين عامًا من حياته، قبل أن نكتشف أن هذه العبارة ليست سوى لببغاء كان يملكه هذا الرجل، وما انفك يكرر: «صانع القهوة، بائع القهوة، صاحب القهوة»، قبل أن يرد عليه الناس جوابًا على مناداته: مات. سينسى القارئ لوهلة كلمة مات التي طالعته في المرة الأولى، وينشغل بالسارد الذي يحكي قصة عمه ومرضه وقد ألفى نفسه وريثًا وحيدًا، غير أن هذا العم لم يترك من متاع الدنيا شيئًا سوى هذا الببغاء الذي يكرر: «صانع القهوة، بائع القهوة، صاحب القهوة... مات»، مضيفًا إليها الكلمة الأخيرة التي حفظها من جواب الناس.
يستشعر القارئ أن الكاتبة مدركة تمامًا بأن القصة يمكنها أن تنهض على جملة واحدة فقط تحررها من رتابتها وعاديتها، كنغمة تضبط الإيقاع كله، ونحسب أنها لولا هذه النغمة لفقدت قدرتها على الإمتاع، وهنا تكمن أهمية الاعتناء بالفكرة البسيطة عن طريق الكتابة غير البسيطة وإن بدت كذلك، فبالنسبة للقارئ لا شيء جديداً ولا مفاجئًا في قصة كهذه، ولكنها ارتكزت على شيء آخر جعلها واحدة من القصص التي اخترناها لهذا العدد.
المرتبة الثالثة: قصة «محاولة أخرى» لياسمين عبدالفتاح / مصر
تشي هذه القصة بكاتبة لديها إمكانات الكتابة القصصية متى ما التزمت بالدربة والقراءة، لأنها قصة تحوي سمات تجعل منها قصة جيدة؛ فقد بدا واضحًا خط سير الحدث وتصاعده حتى بلوغه نقطة النهاية، بينما ترسم حكاية كاتبة تبحث عن ناشر لروايتها، ولكن دور النشر ما انفكت تقابل رسائلها الإلكترونية بالرفض أو عدم الرد، فراحت تطرق أبواب دور النشر أملًا في أن تقبل إحداها بنشر روايتها الثانية بعد تجربة أولى لم تلق رواجًا، غير أن رؤيتها لصاحب إحدى دور النشر مودعًا إمرأة عند المصعد وهو يبالغ في الاحتفاء بها، جعلها تدرك أن الأمر لا يعتمد على كتابتها وحسب، فقررت شطب تلك الدار من قائمتها.
في المجمل ليست الفكرة جديدة في هذه القصة، ولا الحدث ومآلاته مما لم تُسبق إليه، ولكن روح الكاتب حاضرة في هذا النص، وهي/ أو هو يعرف كيف يتحكم في أدواته الكتابية لصياغة حدث وشخصيات تتفاعل مع الزمان والمكان وبقية عناصر القصة الأخرى. ما يحتاجه كاتب هذا النص هو تخيّل ما يصفه حتى يرسمه بشكل أكثر واقعية، وأن يعتني بلغته التي هي أساس كل شيء، وسبيله إلى ذلك هو القراءة.