البكاء على الأندلس

البكاء على الأندلس

روى لي باحث عربي كبير، أنه عندما كان طالبًا وتوجه إلى باريس للحصول على دكتوراه، سأله الأستاذ الفرنسي الذي سيشرف على أطروحته عن الموضوع الذي ستدور حوله الأطروحة، فأجابه: سأكتب عن الأندلس، فردّ عليه الأستاذ: إذًا ستتخصص في البكاء...
كان هذا الأستاذ الفرنسي يعرف ضعف العرب إزاء الجرح الأندلسي، وكون هذا الجرح لا يزال ينزف في وجدانهم إلى اليوم، دون أن يتمكنوا من معالجته أو الشفاء منه، فعلى الرغم من كل ما حققه العرب من إنجازات ثقافية وحضارية في تاريخهم، مازالت الأندلس نقطة ضعف في نفوسهم، ولم يعرف النسيان يومًا طريقه إلى ذاكرتهم، ومن أدلتي الشخصية على ذلك، ما سمعته من الزعيم المغربي علاّل الفاسي عندما زارنا في الخمسينيات من القرن الماضي، وخطب فينا نحن طلاب كلية المقاصد الإسلامية، داعيًا إلى تشكيل جيش عربي لاستعادة الأندلس، وقد اعتبرنا يومها دعوة الفاسي هذه قمة الوطنية، تمنينا لو نكون في عداد هذا الجيش.
هذا مثَلُ على الرومنطيقية التي ترفض أن تغادرنا، ونرفض نحن أن نقتنع بأن الأندلس ذهبت ولن تعود، وأن أفضل ما يمكن أن نبذله من أجلها اليوم هو أن نتعاون في دراسة تاريخها مع العلماء الأسبان، الذين انتقلوا من اعتبارها غزوًا إسلاميًا لبلادهم، إلى التعامل معها على أنه من دونها لم يتشكل التاريخ الأسباني على النحو الذي تشكّل عليه، فقد استمرت الأندلس ثمانمائة سنة، وهي حقبة كانت أطول بكثير من حقبة القوط الغربيين أو الحقبة الرومانية، وأنتجت آدابًا وعلومًا وفلسفات، ومن دوائر الترجمة في مدنها نُقل كل ذلك إلى مدن أوربا وجامعاتها وساهم في النهضة الحديثة. 
الأسبان المعاصرون تخلّوا عن نظرتهم السابقة إلى الأندلس على أنها كانت غزوًا لبلدهم، وعلى العرب أن يتخلّوا عن نظرة احتكارية إلى الأندلس، فهي إرث مشترك، إنها عربية وأسبانية معًا وليست ملكًا لأحد الشعبين وحده، بل هي بوجه من الوجوه ملك البشرية جمعاء، لأن ما أنجزته تجاوز مساحتها الجغرافية إلى العالم برمته، ومن مظاهر ذلك أن الشاعر الفرنسي لوي أراغون بنى ملحمته الشعرية «مجنون إلسا» على الأحداث المأسوية التي وقعت في غرناطة النصريّة عند سقوطها. وقد ذكر مرة أنه رسا على شاطئ الأندلس سنوات ولم يتمكن من نسيانها يومًا، فسحرها مسّ قلب شاعر لا هو عربي ولا هو أسباني، الأندلس إذًا ملك الإنسانية جمعاء. 
لقد تغيّر الأسبان في السنوات الأخيرة، فمن معاداتها إلى احتضانها، عادوا إلى مكتبة الإسكوريال وباقي مكتباتهم ومحفوظاتهم، بدراسة حقبة ليست كأي حقبة أخرى في تاريخهم أو في تاريخ العالم، ومن أطرف ما ذكره أحد مستعربيهم، أن الأسبان في القرون الوسطى تمكنّوا من  طرد الموريسكبين، لكنهم عجزوا عن طرد الأندلس وهو ما يذكر أن الأندلس لم تكن غزواً، بل حقبة تاريخية حافلة بالإنجازات. 
لقد آن الأوان للتعامل مع زمان الوصل في الأندلس تعاملًا مختلفًا خاليًا من الدموع، إن الأندلس تخصّنا كما تخصّ الأسبان وعلى المؤرخين والباحثين المعاصرين من كلا الشعبين أن يبدأوا من هنا سعيًا لتجاوز الوجد المستحيل الذي آن لنا أن نتخلص منه ■