السيلفي والهوية المفقودة

السيلفي  والهوية المفقودة

أن تفكر معناه أن تتساءل؛ أي أن تفلت من سلطة العادة ووهم الاعتيادي، وأن تسلك طريق التمرد ضد البداهات والأحكام المسبقة والمعارف الجاهزة واليقينيات المطلقة، ومعناه أن تعبر عن اندهاشك مما يبدو للعين غير المدربة مجرد سلسلة من الحوادث العشوائية بالتساؤل عن حقيقتها، وما تخفيه من نظام يحكم منطقها؛ فاندهاش الفكر يعبر عن نفسه بالتساؤل، كما عبر عن ذلك، ذات مرة، الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، وأسمى سؤال هو ما انطلق من الذات وعاد إليها محملًا بمعارف وإجابات تنير لها طريقها نحو نفسها، وتنتشلها من التيه والضياع الذي تعيشه، وهي تسعى إلى مطابقة نفسها مع غيرها. 

 

وما عبارة سقراط الشهيرة «يا أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك» إلا جواب عن هذا السؤال الذي يجعل من الذات مرآة، أو شاشة يطل من خلالها الإنسان على ذاته والعالم من حوله، فيتعرف على هذه الذات بالمطابقة بين ما تعيه هذه الذات من جهة، وما تعيشه من تجارب وتمر به من أحداث من جهة ثانية، بالرغم من اختلاف الأزمنة والأمكنة، وإدراك اختلافها عن غيرها من الموضوعات والذوات الأخرى.
لا شك في أن سؤال الوعي بالذات يجعل مبدأ المطابقة والاختلاف طريقًا آمنًا تسلكه الذات في التعرف على ذاتها وإدراك هويتها انطلاقًا مما تعيه وترغب فيه، وما ترسمه على جدران الواقع من ممارسات وأفعال تميزها عن غيرها، وتضفي عليها قيمة بوصفها ذاتًا أخلاقية حرة تتحمل مسؤولية أفعالها من جهة، وبوصفها غاية في ذاتها غير قابلة للاستعمال أو الاستعباد من جهة ثانية. وإذا كان الزمان والمكان بعدين أساسيين للواقع المادي، ومحددين لبنية الوعي لدى الإنسان، بحيث لا يمكنه إدراك هويته إلا بالقبض على ما هو ثابت فيه (جوهره) انطلاقًا من التفاعل مع هذين البعدين اللذين يظلان في ترابط دائم ما دامت الذاكرة قائمة فيه، (الذاكرة عنصر جوهري في تشكيل الوعي والهوية الشخصية لدى الإنسان)، فإن تسرب الآلة والتكنولوجيا الجديدة إلى هذا الواقع قد غير من بنياته؛ فصرنا لا ندرك هذا الواقع، ولا نعيشه إلا انطلاقًا مما تتيحه لنا هذه التكنولوجيا الجديدة من وسائط (الهواتف الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعي، وشبكة الإنترنت على وجه الخصوص)، وأدى هذا التطور إلى تغيير جذري في طريقة إدراكنا لذواتنا وللعالم من حولنا، مس علاقتنا بالمكان/ الفضاء والزمان واللغة أيضًا، ما دامت اللغة وسيطًا ضروريًا بين الإنسان والعالم.
وعليه، فظهور الوسائط الرقمية وانتشارها الواسع في عالمنا اليوم ليس معناه أن عالمنا هذا قد تغير، بل طريقة إدراكنا له وتعبيرنا عنه هي التي تغيرت؛ فلم يعد بإمكان الذات والعالم من حولها أن تمر، بالضرورة، عبر مصفاة الفكر أو الرغبة، بل صارت الصورة وعاء، ومعبرًا لا مفر منه لاستيعاب الذات والعالم في هذا «العصر البصري» الذي نحياه بتعبير ريجيس دوبري. لقد صارت هذه الوسائط (الهاتف الذكي، أو السمارتفون، الشاشة، والآلة الفوتوغرافية، والحاسوب) والشبكات الاجتماعية بطائق عبور لعالم افتراضي لا يمل التمدد والانتشار، ولا تهدأ شهوته عن التهام الحياة الشخصية والحميمية للأفراد أيضًا، مثلما صارت وسائط بيننا وبين الآخرين، بين ما نحسه وما نقدمه للنظر، ويستعجله الاستهلاك المعمم. وإذا كان أخذ صورة ذاتية (السيلفي) عن طريق السمارتفون قد بدا، في بداياته، سلوكًا بسيطًا وعفويًا لا يحتاج لتفكير أو تأمل في دلالاته، فإن انتشاره في الناس، صغيرهم وكبيرهم، في كل مناطق العالم بات اليوم دالًا على تحولات جذرية في علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، وعلى طريقة جديدة في الإنوجاد وعرض الذات في زمن الثورة الرقمية، فهل يمكن اعتبار السيلفي تساؤلًا عن ذات متشظية في زمن الرقمية والافتراض؟ وهل السعي المتواصل إلى التقاط صور ذاتية تعبير عن هوية مفقودة أم عن نرجسية مفرطة؟

1- السيلفي ومأزق الأنا الرقمي
يكشف السيلفي أو البورتريه الذاتي، من خلال مظاهره المتعددة، عن منعطف حاسم عرفه عالمنا منذ سنوات مع ظهور الرقمية، خاصة منذ بداية الألفية الثالثة، وعن انقلاب جذري أحدثته التكنولوجيات الجديدة على مستوى الحركة التي يسير بها الوعي الإنساني في التعرف على ذاته وإدراك العالم من حوله؛ ذلك أن الذات أو الأنا الواعية لم تعد قادرة على التعرف على ذاتها انطلاقًا مما تستبطنه من معارف وأفكار أو رغبات، بل انطلاقًا مما تنتجه وتستهلكه من صور عرضية لا تسمح بإعادة امتلاك الأنا في شكل محكي داخلي، وفي شكل فكر مبني وتساؤل فلسفي، أو حتى في شكل مناجاة. فمن الواضح أن مرحلة الداخل التي كانت تتوافق مع عصر الحداثة قد ولت وصارت محلها مرحلة جديدة في النظر إلى الذات: إنها مرحلة الخارج التي تتوافق مع مرحلة الحداثة الفائقة التي بات فيها العالم يكتب بالصور لا بالكلمات؛ أي إنه لم يعد يسكن المفهوم كبناء ذهني مجرد، وكحضن للانفعال الذي يلتقطه الوجدان ويعيد صياغته وفق حالات النفس التي تأبى التنميط، وصارت الإيموجات (مفرد إيموجي وتعني في اللغة اليابانية ما يكتب بالصور) هي من تتكفل بترويض الانفعالات وإبداعها في أشكال من التسلية والترفيه والتواصل السريع بين الناس، لكن في صورة نمطية يتساوى فيها جميع الناس مهما اختلفت المشاعر تجاههم؛ فرمز القلب مستودع لكل حالات الحب نحو الزوجة، والعشيقة، والرفيقة، والصديقة، والأم، والأب، والابن، والأخ... إلخ. 
لقد تساوت كل الانفعالات في كل الحالات ومع كل الناس، وبتنا نعيش في عالم مفرط في التواصل يشكو الناس داخله من الوحدانية والعزلة، كما يقول المفكر والمترجم المغربي سعيد بنكَراد في مقدمة ترجمته لكتاب إلزا غودار «أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، تحولات الأنا في العصر الافتراضي».
ماذا يعني أن يأخذ المرء هاتفه ويأخذ صورة لنفسه وفي مختلف حالاته؟ ألا يحيي بهذه الممارسة حكمة سقراط القديمة: «يا أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك»؟ لكن وفق إبدال جديد صار فيه الفضاء أفقيًا لا عمق له، وباتت شهوة تقلص المسافة داخله تزداد شراهة يومًا بعد يوم؛ فالبعيد أصبح قريبًا، والغريب والانتظار وغير المتوقع لم تعد تقبلهم الحياة الافتراضية، التي لم تعد الزمنية فيها قادرة على تحمل غير اللحظة ضمن «المباشر المتصل» أو «اللايف»، وهي لحظة لا تقود إلى الانفتاح على زمنية ممتدة في ممكنات الذاكرة، بل منكفئة على نفسها فيما يشبه حركة مكرورة بإيقاع واحد. وإذا كان برغسون يدك للهوية الذاتية أوتادًا في الذاكرة، ما دام الوعي ذاكرة في عمقه، أي حركة متصلة في الزمن بين آناته الثلاث، فإن السيلفي يضرب للهوية أوتادًا في «الهنا والآن» ويودعها في صور تشبه الواقع، لكنها لن تكونه أبدًا، عوض إيداعها في كلمات ومرويات (الثقافة هي الذاكرة الحية للأفراد والشعوب على السواء)، فتشعر الذات، تبعًا لذلك، بنوع من التمزق أو الانكسار في الحاضر، وهذا لا يقوم سوى بتقوية الإحساس بالتيهان، والقلق، وغياب المعنى عما تفعله الذات وتريده. ولما تصير هذه الممارسة معممة، فإن هذا يعني أن مجتمعنا يجتاز أزمة حقيقية للهوية، خاصة بمرحلة تحول جذري تنصب على أسس الأنا استنادًا إلى التطورات التكنولوجية وإفرازات العصر الرقمي، مثلما يعني أن المجتمع يعي، من خلال السيلفي التساؤل الهوياتي الخاص به كقلق وجودي لا يتوقف.
يبدأ هذا القلق الوجودي عند الإنسان منذ طفولته المبكرة لما يكتشف نفسه أول مرة في المرآة، فيسعى إلى التماهي مع ذاته بمحاولة القبض عليها. لكن فشله المتكرر في تحقيق ذلك، بقدر ما يولد لديه إحباطًا، يدفعه إلى البحث عن ذاته والتعرف عليها عند الآخر، انطلاقًا من تواصله اللغوي اللساني، الذي كلما تطورت لديه ملكاته وقدراته، كلما خبر أكثر كيف يتعرف على ذاته وينتزع الاعتراف بها من الآخرين، خاصة وأنه لا قيمة لوعي ذاتي بمعزل عن اعتراف الآخرين (هيجل). هذا الأمر يجعل وجود الغير ضروريًا من أجل تحقق الوعي بالذات، ولو على قاعدة الصراع ضدًا على كل أشكال النفي والاستلاب التي قد يمارسها الغير على الذات.
هكذا، فحلول الشاشة محل المرآة، والصورة محل الكلمة، ومن ثم محل الفكر الذي كان يمثل لدى ديكارت جوهر الذات وأساس هويتها، والآخر الافتراضي محل الآخر الواقعي، قد جعل من ممارسة السيلفي شهادة حية على انقلاب جذري في مبدأ الهوية الذاتية وطريقة إثباتها؛ فإعادة تعريف الذات تتم اليوم استنادا إلى هذا الجوهر السائل في عالم الافتراضي (الصورة)، بحيث لم يعد الإمساك بالأنا ممكنًا دون بديل لها (الأنا الافتراضية)، ويجعل ممارسة السيلفي تبدو أيضًا وكأنها إحياء لمرحلة المرآة، لكن بصورة لا تعرف التوقف، خاصة وأن الذات التي تقدمها الصورة غير تلك التي تتشكل في خطاب الآخر. إنها ذات هشة ينخرها الشك من كل جانب، بل هي ذات تشبه أداتها، سائلة غير مستقرة، هجينة ومستلبة داخل الصورة وفي نظر الآخرين. وبما أنها غير مطمئنة في وجودها الخاص، فإنها ستظل تنتظر (مادامت الإرادة في العالم الافتراضي مستلبة عكس العالم الواقعي الذي تكون فيه الإرادة فاعلة) تأكيدها لنفسها من خلال الحصول على أكبر قدر من اللايكات أو الجيمات، خاصة لما يُقذف بهذه الذات الرقمية في غياهب الشبكات الاجتماعية بوصفها «غيرية رقمية» متعددة الوجوه.
قد تحصل الذات على قدر من المتعة والإشباع من خلال هذه اللايكات، ما دامت متصلة بالشاشة وبالإنترنت، لكن بمجرد ما تنقطع عن هذا العالم الافتراضي، تحس بنوع من الاغتراب في عالمها الواقعي، وكأن وجودها لا يكتمل إلا عبر الاتصال بالعالم الافتراضي، لكنه اكتمال وهمي لا يتحقق إلا عبر الصورة المزيفة. إن الذات هنا مجرد سيمولاكر، نسخة أصلية لهويتنا الرقمية، ذاتية لا تفلح في العثور على إحداثية لنفسها، كما أنها في توتر دائم مع ذات واقعية وبديلها. إنها شبيهة بذاتية بلا ذات، أو جسد بلا روح.

2- السيلفي رغبة نرجسية
يمكن القول إنه بقدر ما أنا أوسيلفي فأنا موجود، لكن في فضاء بلا حدود وفي زمنية غير مستقرة، وهو ما يجعل الذات وكأنها معلقة في السماء، تعيش لحظة صعبة ومشكوك فيها. ولهذا السبب، نشعر أحيانًا بأننا نجد صعوبة في العيش، بل وفي الوجود أكثر، وصعوبة في إثبات أنفسنا، ونشعر بالكثير من القلق الذي يعتقد، البعض منا، أن التخلص منه رهين بمزيد من الصور واللايكات التي تحيل الذات إلى بطل أو أيقونة، ما دام باستطاعة كل واحد منا أن يصبح مخرجًا - موزعًا لصورته الخاصة، ويكون أيضًا ممثلاً في فيلمه. إنه نوع من التسويق الذاتي للأنا، كما تسميه إلزا غودار، تصبح فيه الأنا ماركة مسجلة في سوق التداول الرقمي، انطلاقًا من عملة اللايكات والمتابعات، فيحصل تضخم في التقدير الذاتي للأنا يساعد على ملء فراغ نرجسي، يعبر عن نفسه في الاحتفاء المبالغ فيه بالذات، والزهو، والإعجاب والتمجيد الذاتي من خلال المزيد من الصور وعرضها في الشبكات الاجتماعية بحثًا عن لذة عَرضية، ما دامت الأنا قد دخلت في دوامة وهمية، وهي تبحث عن الإحاطة بنفسها دون أن تصل إلى ذلك. إنها مستلبة في صورتها ولن تقوى على الفكاك من أسرها من أجل الذهاب إلى الآخر ورغبته. 
وهنا يصبح التقاط السيلفي فعلاً مَرَضيًا: استخدام الآخر باعتباره وسيلة وليس غاية، وسيلة للبحث عن إشباع لرغبة نرجسية، لأن الاضطرابات التي تعرفها الأنا لها تبعات على الرغبة. ففي عالم حلت فيه الصورة محل الفكر، وفعالية التأويل وبناء المعنى، لا يمكن للرغبة أن تكون إلا مريضة، لأنها محرومة من إمكانية تحققها. إن الرغبة هي توتر بين الموضوع وإشباعه الذي يتميز بالانتظار، وهو ما يقتضي زمنية قابلة للانتشار في الفضاء. والحال أن ما نعاينه راهنًا، بالإضافة إلى نوع من المزايدة على الرغبة المرتبطة بمجتمع الاستهلاك، هو ضرورة أن يكون هناك إشباع مباشر لا يقبل الانتظار. وحيث إن هذا النمط من الإشباع يعجل بموت الرغبة، ولا يترك للذات فرصة لإبداع حلول واقعية لتحققها، فإنه يولد رغبات جديدة لا حد لها ولا فضاء لإشباعها إلا داخل الصورة، انطلاقًا من مجرد استيهامات تجعل الأنا تعيش نوعًا من الاستمناء الذاتي.

خاتمة
حاصل القول، إننا في هذا العصر الرقمي نعيش بأناتين: أنا واقعية تسلك دروب الواقع، وتدبر شؤونه، وتتفاوض مع إكراهاته، ولو بالاحتماء بوهمية العالم الافتراضي، وهنا تسكن الأنا الرقمية (الأنا الثانية) التي لا تعيش إلا في المباشر المتصل، ولا ترى لنفسها وجودا إلا داخل الصورة، أي من خلال العرضي والزائل. لذلك، فرغباتها مخصية وإشباعها وهمي، مادام أن الآلة تقدم نفسها للذات على أنها قادرة على إشباع جميع رغباتها، وهو ما يحيل الواقع إلى مجرد نفق يجب أن يقود إلى الافتراضي. لذلك كلما أوغلنا في عوالم الافتراض ازداد ابتعادنا عن أنفسنا وعن المقيمين معنا في الواقع، وكلما قطعنا الاتصال به ازددنا اغترابًا عن تلك الذات الافتراضية التي تسعى، بشكل مرضي، إلى إثبات ذاتها واكتمالها بتحويل صورها إلى أيقونات كلما ارتفع منسوب اللايكات في المواقع الاجتماعية. 
إننا نعيش، كما يقول سعيد بنكَراد، ضمن الوهم في الواقع، ونعيش الحقيقة في الشبكة؛ لذلك قد تحيل موضة السيلفي، بطريقة مذهلة، على الظلال المنعكسة على جدران كهف أفلاطون، لا يرى الناس في هذا «الكهف الحياتي» سوى ظلال لا تتبين العين حقيقتها إلا في ظلام الشبكة ■