استقطاب وانقسام أم أزمة عميقة؟

استقطاب وانقسام  أم أزمة عميقة؟

يسود في الآونة الأخيرة مصطلحي «الاستقطاب» و«الانقسام» في الأدبيات التي تتحدث عن الأوضاع السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية، حيث أصبحت هناك حالة من الشد والجذب بشكل غير مسبوق بين الأطراف السياسية وما تبقى من النخب المجتمعية التقليدية، نتج عنها الحدية في التمسك بالمواقف، ودخول مفردات الإقصاء، وأحيانًا العنف اللفظي في الخطاب السياسي، واقحام مؤسسات المجتمع والدولة في الصراع بين أطراف عدة وصل بعضها إلى إدخال القضاء لتصفية الحسابات والاختلافات في الأفكار والمواقف، فما العوامل التي أوصلت الأمور إلى هذه الدرجة؟

 

العوامل الاقتصادية
قبل الحديث عن العوامل الاقتصادية التي دفعت بالأوضاع الحالية في عدد من المجتمعات الغربية، تجدر الإشارة إلى أن استخدام مصطلحي «الاستقطاب» و«الانقسام» لوصف هذه الأوضاع قد يفتقد إلى الدلالة الدقيقة. فبدون شك أي مجتمع ديمقراطي يعيش حالة من التعددية والانقسام في الآراء والمواقف تجاه العديد من القضايا، حيث يدافع كل فريق عن مواقفه وأفكاره ورأيه، وبإمكان أي طرف إقناع طرف آخر لتغيير رأيه، وهذا يحدث فى العديد من الأحيان. وبالنسبة للاستقطاب هناك قضايا ومشكلات وأهداف معينة تستقطب أفرادًا أو مجاميع حولها نتيجة لاهتماماتهم الشخصية أو الفكرية فيعملون على تحقيقها عبر الوسائل المتاحة في مجتمعاتهم، كما أن الاستقطاب السياسي ظاهرة طبيعية في المجتمعات الديمقراطية، وتتم بناء على المصالح والمبادئ والقيم وغيرها، ويخيل للمرء أن استخدام مصطلحي «الاستقطاب» و«الانقسام» قد يهدف إلى التغطية على حقيقة الأوضاع التي أثرت في العملية السياسية وغيرت الأساليب والممارسات والخطاب السائد فيها، ولا شك بأن الأوضاع الاقتصادية لعبت دورًا كبيرًا في التأثير على الجوانب السياسية والثقافية والفكرية علاوة على التطورات التكنولوجية.
منذ نهاية الحرب الباردة والنزعة إلى العولمة، سادت موجة اقتصادية عالمية عنوانها «الخصخصة» عندما تمت خصخصة الشركات الحكومية المختلفة وصولاً إلى شركات الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والغاز والاتصالات وغيرها، وخلقت هذه العملية تفاوتًا كبيرًا جدًا في دخول قياديي الشركات والعاملين الآخرين فيها وتم تسريح الكثير منهم لتقليص المصاريف وإحلال التكنولوجيا مكانهم، ناهيك عن التراجع في الحقوق عبر التضييق على النقابات أو أحيانًا رفض تكوين نقابات لهم، ونتج عن الخصصة ارتفاع الأسعار وتقلص العديد من الخدمات، وأدى ذلك إلى تآكل الطبقة الوسطى إلى حد كبير جدًا وتراجع دورها الذي تقوم به على المستوى السياسي والتنموي، فقد كانت الطبقة الوسطى أشبه بكفتي ميزان تميل إحدى كفتيه نحو القوى اليمينية المعتدلة تارة، وتميل الثانية نحو القوى اليسارية المعتدلة تارة أخرى، ومع تراجعهما أصبح اللجوء إلى القوى الأكثر تطرفًا من الجانبين أو البحث عن بدائل جديدة، وهذا ما يفسر ازدهار الحركات اليمينية المتطرفة والقوى الشعبوية التي تتحالف معها في معظم الأحيان وهي ذات أفكار وبرامج إقصائية، خصوصًا مع المهاجرين ولا تؤمن بالعمل وفق مؤسسات الدولة، بل تعمل على إفراغها من مضمونها الديمقراطي وتتدخل بكل شيء لفرض أفكارها الخاصة.
لقد دفع ما سبق الأطراف الأخرى إلى التكتل لمواجهة موجة التطرف والعنصرية والعمل على إحباط مشاريعها الاقصائية، والمشكلة الرئيسة بين الطرفين أن أجندتهما لا يوجد فيها أرضية مشتركة في معظم موضوعاتهما، فهناك تناقض تام في الكثير من القضايا والمواقف والرؤى بطريقة لا يمكن أن يتم التوفيق بينهما، إذ ترى الأطراف المختلفة أن قضاياها أصبحت قضايا مصيرية لا مجال للتفاوض فيها أو إيجاد الحلول الوسط، ووقعت الممارسة الديمقراطية ومؤسساتها في دوامة هذه الأوضاع، حيث تراجع دور المؤسسات فيها إلى حد كبير.
 والخصخصة كانت ضمن مشروع أكبر وهو اقتصاد السوق الذي وضع اقتصادات الدول رهينة بأيدي الشركات والاقتصاديين التكنوقراط الذين يعملون وفق أسس أكاديمية صرفه لا يوجد فيها أي اعتبارات إنسانية أو اجتماعية، وهيمنت تلك الطبقة من التكنوقراط على الشركات الكبرى وعلى الاقتصاد والقرار السياسي، إذ أصبح السياسيون رهنية بأيديهم بسبب الضرائب التي تدفعها الشركات والوظائف التي تخلقها والمشاريع التنموية التي تقوم بها.
لقد كان لاستبعاد العوامل الإنسانية والاجتماعية من العملية الاقتصادية أثر بالغ على أوضاع الأفراد، خصوصًا من ذوي الدخول المتدنية الذين لم يعد يرون أي اختلافات اقتصادية تذكر بين القوى السياسية التقليدية التي كانت تتنافس سابقًا لتحسين أوضاع المواطن وإحداث تغيرات اقتصادية فعلية لوضعه المعيشي، فاتجهوا إلى القوى الراديكالية بحثًا عن التغيير. 

عوامل فكرية وثقافية
هنالك عدد من العوامل الفكرية والثقافية ساهمت بالدفع في الانقسامات الحادة أو اللجوء إلى الأطراف الأكثر راديكالية بحثًا عن بدائل، فلا شك كان لتهاوي الأيديولوجيا عالميًا أثر بالغ في التأثير على الواقع الاجتماعي ليس في الغرب فحسب، بل في معظم أنحاء العالم. وهناك أثران بالغا الأهمية، يتلخص الأول في الدور الذي لعبته الأيديولوجيا خلال قرنين تقريبًا على المستوى العالمي والمحلي، إذ ساهمت أفكارها في الربط بين مكونات المجتمعات المختلفة سواء عرقية أو دينية أو ثقافية وحولت اهتماماتها من اجتماعية أو عرقية إلى فكرية تتشكل قيمها وبرامجها ورؤيتها ومواقفها إلخ... بناء على منطلقاتها الأيديولوجية وتحاول صياغة الواقع، قدر الامكان، بما يتماشى مع أفكارها ورؤيتها، لكن مع انهيار المعسكر الاشتراكي تهاوت الأيديولوجيا بسبب أطروحاتها الشمولية التي تقيد الأفراد والمجتمعات والدول، واتضح صعوبة، إن لم يكن استحالة، تطبيق الأيديولوجيا أيًا كانت على الواقع، ونتج عن ذلك عودة الكثير من الأفراد الذين تبنوا أفكارًا أيديولوجية، في الشرق والغرب، إلى ثقافاتهم ومرجعياتهم الاجتماعية والعرقية، وقاد ذلك إلى تشظي المجتمعات وانقسامها على أسس اجتماعية وعرقية ودينية ومذهبية أدت في النهاية إلى تقوقع عديد من الفئات على نفسها وأصبح الاندماج المجتمعي ظاهريًا وليس فعليًا.
أما العنصر الثاني لتأثير تهاوي الأيديولوجيا فقد انعكس على الجانب السياسي، فمنذ أن أصبح العالم أحادي القطبية مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، تراجعت الأيديولوجيا وتقلص إلى حد كبير الاختلاف بين الأحزاب التي كانت تتنافس سابقًا للفوز في الانتخابات، كـ «العمال» و«المحافظين» في بريطانيا، وأحزاب اليمين واليسار المعتدل في فرنسا وغيرهما، إذ تحولت معظم الأحزاب اليسارية من الناحية الاقتصادية تدريجيًا إلى اقتصاد السوق ولم تعد هناك اختلافات تذكر بينها وبين الأحزاب اليمينية والمحافظة من زاوية اقتصادية، ولم يعد المواطنون يلمسون أية فوارق اقتصادية فعلية بينهما، ما أدى إلى البحث عن بدائل، فوجد الكثير من الناخبين ضالتهم في الأحزاب الشعوبية واليمينية المتطرفة التى ازدهرت شعبيتها بعد تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين بسبب الصراعات والحروب والعولمة، وأخذ ينظر لهم على أنهم السبب وراء تدهور المستوى المعيشي والاقتصادي للمواطنين وأصبحوا الشماعة التي تعلق عليها أسباب التراجع الاقتصادي في العديد من الدول الغربية.
أدی تهاوي الأيديولوجيا، كما سبقت الإشارة، إلى العودة للجذور الاجتماعية والدينية والثقافية والعرقية للكثير من الفئات التي كانت تنتمي إلى أحزاب مؤدلجة، خصوصًا اليسارية، ونتج عن ذلك بروز الثقافات التقليدية التي لم تشذبها إلى حد كبير عقود طويلة من الفكر أو الثقافة المدنية، وتزامنت مع ذلك أطروحات التعددية الثقافية، ومن أبرز منظريها  تشالرز تايلور  وول كمیلیكا، التي ترى في إحياء الثقافات التقليدية للشعوب واحترام ثقافات الأقليات والمهاجرين سبيلًا للتعايش بين أفراد المجتمع. لكن أثبتت التجارب أن هذه الأطروحات جاءت بجوانب سلبية أكثر من جوانبها الإيجابية، فمن جانب أدت العودة إلى الثقافات التقليدية إلى تقوقع الفئات المختلفة وتحولت مكوناتها الثقافية إلى منظومات منغلقة على نفسها وكرّست بذلك حالات من الاستقطاب على أسس اجتماعية وثقافية والنفور أيضًا من الثقافات الأخرى.
كما أدت التعددية الثقافية إلى فتح المجال للاستقطاب السياسي، إذ قام السياسيون بتسييس التشكيلات الاجتماعية وتحويلها إلى كتل انتخابية يمكن استمالتها لتحقيق أهداف سياسية أبرزها الوصول للسلطة، ومن ثم تمنح بعض المميزات التي تتميز بها عن الفئات الأخرى في المجتمع، وقد يخلق ذلك ردات فعل من الفئات الأخرى التي من الممكن أن تطالب بميزات تتعلق بها، ما یساعد على اتساع الهوة بين مكونات المجتمع ويتغرز الانقسام والاستقطاب.
ولعل الظاهرة الأخطر لتسييس التشكيلات الاجتماعية والعودة إلى الثقافات التقليدية هي بروز الهويات الفرعية وتجذرها في المجتمع على حساب الهوية الوطنية، ومشكلة الهوية إنها تستقطب فئة ما وتستبعد الفئات الأخرى، الأمر الذي يدفع الفئات الأخرى للإنغلاق على نفسها ويقود ذلك الى التشرذم الاجتماعي وربط العديد من المطالبات والقضايا على أساس الهوية وانعكاس ذلك على العملية السياسية، التى أصبح جانبًا كبيرًا منها يقوم على الاستقطاب الاجتماعي، والعِرقي، والإثني، والديني، والمذهبين لا الفكري أو الوطني، بمعنى تراجع الاختلاف الفكري والبرامجي والأيديولوجي الذي كان يشكل أبرز أسس التعددية القائمة في المجتمعات الديمقراطية إلى تعددية عرقية ودينية وثقافية منغلقة على نفسها تعزز من الانقسام المجتمعي.

تأثير التكنولوجيا
بدون شك تركت التطورات التكنولوجية آثارًا ثقافية عديدة على المجتمعات وبشكل متفاوت، ويمكن الإشارة هنا إلى نقطتين بارزتين من تلك المؤثرات، الأولى تتعلق بدور وسائل التواصل الاجتماعي الكبير في كسر الاحتكار التقليدي للوسائل الإعلامية في المجتمعات الغربية التي كانت تستخدم في غسيل العقول وتوجيهها في خدمة بعض النخب المهيمنة على المجتمع وتهميش عدد من الشرائح والقوى التي تختلف معها. لكن كان لظهور وسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في تعبير القوى والشرائح والقطاعات المهمشة عن نفسها وأخذت تتكتل في تجمعات وتصيغ مطالبها وتنشر أفكارها وقيمها في مقابل تراجع دور وخطاب النخب السياسية التقليدية التي لم تعد تقدم حلولاً فعلية لمشكلات المجتمع، وقد أدى ذلك إلى ابتعاد عدد من المجاميع التي كانت تتبع الأحزاب والنخب التقليدية عنها واستقطابها من قبل أطراف أخرى سبقت الإشارة إليها.
كما نتج عن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بروز شخصيات ومجاميع ذات أطروحات فئوية وشعبوية تلتف حولها أطراف وفئات ترى فيها ممثلاً لها ولمطالبها وطموحها السياسي في التغيير، على الرغم من محدودية فهمها وخبرتها السياسية، ولعل أبرز مثال هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب الذي استطاع الفوز في انتخابات العام 2016 وكان سبيله الوحيد تقريبًا التواصل مع الناخبين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي بالدرجة الأولى حيث قاطعته، بل ووقفت ضده تقريبًا، جميع الوسائل والمؤسسات الإعلامية المعروفة في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن حالة الانقسام والاستقطاب الجارية في عديد من الدول الغربية قد تؤدي إلى نتائج سلبية جدًا على العملية السياسية في العديد منها، إذ قد تساهم التحولات في ميزان القوى الاقتصادية العالمية تدريجيًا إلى الشرق ودول الجنوب إلى المزيد من الانقسامات الاجتماعية مالم تعالج الأسباب الفعلية التي سببت وأجّجت في الوقت نفسه هذه الظاهرة ■