نحو منظور براغماتي للتعددية الثقافية

نحو منظور براغماتي  للتعددية الثقافية

تشكل التعددية الثقافية تيارًا أساسيًا وجديدًا في الفلسفة السياسية والاجتماعية المعاصرة، سواء نظرنا إليه من جهة المشكلات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي ناقشها، أو النظريات التي قدمها، أو المناقشات التي أثارها ولا يزال يثيرها على المستويين الأكاديمي والعام. ويلحظ المتابع للمناقشات الفكرية والسياسية المعاصرة، بيسر، مدى اللبس في استعمال هذا المفهوم في الفكر الغربي أو في الفكر العربي المعاصر على حد سواء، بحيث يستعمل مفهوم التعددية الثقافية ليغطي ظواهر عديدة اجتماعية، ولغوية، ودينية. 

 

وعملًا على تحديد دقيق لهذا المفهوم، يسهم في المناقشة المفيدة، فإنه يجب الإشارة إلى أنّ الدارسين يميزون بين ثلاثة تعريفات أساسية: أولها، تحديد وصفي، يستعمل في مجال العلوم الاجتماعية، وبخاصة في علم الاجتماع، ويشير إلى عدم التجانس العرقي والديني والثقافي في مجتمع من المجتمعات، وإلى التعدد الذي يطبع المجتمعات المعاصرة بدرجات متفاوتة، والناتج إما عن تنوع تاريخي أولي، أو سياسي نابع من عملية تشكيل الدولة القومية، أو من الهجرة التي يصطلح عليها بالهجرة ما بعد الاستعمارية، وثانيها، تعريف فلسفي يحيل إلى تقييم هذا التنوع من منظور العدالة الاجتماعية، بحيث يتحول التنوع إلى قيمة ومعيار في عملية تحقيق العدالة، وهنا يطرح سؤال أولي على كل نظام سياسي ألَا وهو: ما مدى احترامه للتنوع الاجتماعي، ورعايته لحقوق الأقليات، والحفاظ على ثقافتهم ولغتهم؟ وهذا يعني ضرورة تعميق قيم الحرية والمساواة، واقتراح مفهوم للعدالة الرمزية يعبر عن ثقافات الأقليات في المجال العام، ويركز التعريف الثالث على المؤسسات والبرامج السياسية والتعليمية التي تجسد معايير العدالة، ويجيب عن السؤال الآتي: ما مدى استجابة المؤسسات الثقافية والتعليمية والسياسية للتنوع الثقافي القائم في مجتمع معين؟
ولقد ظهرت التعددية الثقافية بوصفها تيارًا سياسيا واجتماعيا ضمن سياق تاريخي يميز بالدرجة الأولى المجتمعات الغربية الليبرالية، وما عرفته من تطور على المستوى الحقوقي، وبخاصة في قيمتي الحرية والمساواة، وكذلك ما فرضته الهجرة، وبخاصة بالنسبة للمجتمعات التي تتميز بالهجرة المكثفة كالولايات المتحدة الامريكية وكندا واستراليا، أو بسبب الماضي الاستعماري كفرنسا وبريطانيا وهولندا. ولكن هذا لا يعني أنّ مسائل التعددية الثقافية مسائل خاصة بمجتمعات بعينها دون سواها، وإنما القصد من ذلك، أن مسائلها مطروحة بدرجات متفاوتة، ولا تخضع لتدابير موحدة، وإنما تكتسي طابعًا براغماتيًا، وبخاصة من الناحية الإجرائية والتطبيقية. 
ويحتل مفهوم الثقافة مكانة مركزية في هذا التيار السياسي والاجتماعي المعاصر، وذلك في مقابل مفهومي الاقتصاد والطبقة الاجتماعية في النظرية الماركسية التي تعطي الأولوية للاقتصاد بوصفه عاملًا مقررًا في تطور المجتمعات، أو مفهومي الحرية والمساواة في النظرية الليبرالية التي تهتم أكثر بالجانب السياسي والقانوني والمؤسَّساتي، أو مفهوم الجماعة والتراث والخير العام في النظرية الجماعتية التي يمثلها في الفكر المعاصر فلاسفة كثيرون أمثال ألسادير ماكنتير في إنجلترا، ومايكل ساندل في الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى حد ما الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور.
وإذا كان معلومًا أن العلماء في العلوم الاجتماعية يختلفون كثيرًا في تحديد مفهوم الثقافة، بحيث خصصت لهذا الغرض، كتب قائمة بذاتها، فإن تيار التعددية الثقافية ينظر إلى الثقافة بوصفها عنصرًا تكوينيا في حياة الأفراد والمجتمعات، يجب أن يحظى بالتقدير اللازم، لأنه يحدد هوية الفرد والمجتمع على حد سواء، وأن المطلوب هو الاعتراف به، بوصفه صورة جديدة من صور العدل المعاصر يسمح بازدهار الأفراد والمجتمعات، ويحقق تطلعاتها نحو عالم عادل ومنصف. وهذا يعني، كما قالت الفيلسوفة الأمريكية نانسي فريزر، إننا قد انتقلنا من منطق إعادة التوزيع، وتوزيع الخيرات المادية على وجه التحديد، بحسب ما تراه النظرية الكلاسيكية في العدل، ومنها على وجه التحديد النظرية الماركسية في شكلها الاشتراكي، إلى منطق الاعتراف الرمزي بالمكونات الثقافية للمجتمعات والجماعات، وهذا ما نقرأه، على سبيل المثال لا الحصر، عند الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور باسم سياسة الاعتراف أو مواطنيه جيس تولي، وويل كيمليكا، أو الفيلسوف الأمريكي مايكل ولزار، أو البريطاني بيكو باريك. 
ينتقد هؤلاء الفلاسفة، على اختلاف مشاربهم ونظرياتهم، النظرية الليبرالية، بوصفها نظرية لم تأخذ بعين الاعتبار مكانة الثقافة، والاختلاف، والهوية في تصورها للفرد أو الجماعة، أو المجتمع، وأنها قد قدمتهم بطريقة مجردة، لا تعكس سياقًا تاريخيًا محددًا. وتعد نظرية العقد الاجتماعي، كما قدمها الفلاسفة المحدثون أمثال توماس هوبز، أو جون لوك، أو جان- جاك روسو مثالًا لهذا الطرح المجرد والمتخيل الذي يتصور الأفراد والمجتمعات بمعزل عن ثقافتهم وتراثهم، أو بتعبير آخر، يتصورهم منفصلين عن هوياتهم الثقافية. 

النظرية الليبرالية
من خلال هذا المعطى العام، وصف الفيلسوف البريطاني من أصل هندي بيكو باريك، النظرية الليبرالية النابعة من ميراث نظريات العقد الاجتماعي، بأنها نظرية موسومة بالواحدية الأخلاقية (monisme moral)، لأنها لا تعترف بتعددية القيم. والحق، فإن مشروعه الفلسفي يتجذر في رؤية نقدية للتاريخ الفكري الغربي كله، يبدأ من أفلاطون وينتهي عند المفكرين المحدثين والمعاصرين أمثال جون ستيوارت مل وجون رولز وغيرهما. وتقوم أطروحته الأساسية على فكرة مؤداها أن الفكر السياسي الغربي لا يمنح شرعية كافية للتنوع القيمي، ولا يعترف بها بوصفها قيما كونية، وإنما هي مجرد قيم خاصة، عليها أن تخضع للقيم الغربية الكونية التي تمثل الحداثة في مقابل مختلف أشكال تراث الأمم الأخرى، مؤكدًا على أن ثمة طريقة واحدة فقط للوصول إلى الخير، وتمثل هذه الواحدية الأخلاقية، الخيط المشترك للفكر الفلسفي الغربي. ويقصد باريك من وراء مصطلح الواحدية: «الفكرة القائلة بأن ثمة طريقة واحدة فقط للعيش هي إنسانية بالكامل، أو صحيحة، أو أفضل، وأن جميع الطرق الأخرى فاسدة ومعيبة بقدر ما هي أدنى من الطريقة الحقيقية للعيش الكريم» (بيكو باريك، سياسة جديدة للهوية، المبادئ السياسية لعالم يتسم بالاعتماد المتبادل، ص 17-18). وهذا يعني أن باريك يعرف الواحدية على أنها اختزال لجميع أشكال التنوع والتعدد القيمي في مبدأ واحدي أعلى. والمثال النموذجي لهذه الواحدية هي النظرية النفعية أو نظرية المنفعة في الأخلاق والسياسة على حد سواء. 
وضد هذه الواحدية، يدافع باريك على تعددية القيم، وبخاصة في ظل الحاجة الملحة للتكيف مع العولمة، وهجرة ما بعد الاستعمار، التي تتطلّب إعادة تصميم جديد للعلمانية بهدف جعلها أكثر شمولًا للديانات غير الغربية الناشئة في فضاء سياسي شكله التراث المسيحي وحركات العلمنة في القرنين الماضيين، ويأخذ هذا المشروع شكل حوار بين الثقافات لا يحتل فيه العقل الغربي، المتمركز حول الثقافة والقيم الغربية فقط، موقعًا محددًا. هذا من جهة أولى، وأما من جهة ثانية، فإن ذلك يستوجب مناقشة بعض القيم المركزية لليبرالية السياسية، وإعادة تفسيرها وفقًا للقيم الثقافية المختلفة والمغايرة للثقافة الغربية. 
وفي تقديره، فإنه غالبًا ما يكون تصور مناقشة تتم بوساطة العقل الغربي وحده، وسيلة لنزع الشرعية عن المطالب غير الليبرالية أو غير الأوربية التي تتهم بأنها غير عقلانية أو مناهضة للحداثة أو قمعية، مستعينة بقوة الإمبريالية لفرض الخطاب الليبرالي الداعي إلى التحرر من التقاليد والانعتاق من التراث. ومع ذلك، فإن هذا الحوار بين الثقافات الذي يمثل حجر الزاوية في مشروعه الفلسفي، يُلقي بظلال من الشك على طريقة تسوية بعض المسائل الحساسة، ولا سيما النزاعات المحتملة بين الحقوق الفردية وحقوق الجماعات، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالقيم الدينية، وحقوق المرأة على وجه التحديد. 
في مقابل هذه النظرة النقدية للنظرية الليبرالية، يعمد الفيلسوف الكندي ويل كيمليكا في مشروعه السياسي باسم التعددية الثقافية إلى التوفيق بين مبادئ الليبرالية و الثقافات الخاصة، وذلك من الجمع بين الحقوق الفردية والحقوق الجماعية، مبينا أن الليبرالية لم تكن تاريخيًا معادية لهويات الأقليات. ولذا، فإن أصالة موقفه تكمن في محاولة تجاوز التعارض الحاد بين أنصار الجماعة (الجمعاتيون)، الذين يقولون بأولوية الجماعة على الفرد، ويعملون على استعادة التراث القديم، وبخاصة النظرية الأرسطية في الأخلاق القائمة على فكرة الخير الأسمى، ويتسمون بنزعة دينية محافظة، وبين أنصار النزعة الفردية من الليبراليين الذين يقولون بأولوية الفرد، والحرية و المساواة، مبينا ذلك بأدلة مستقاة من تاريخ الليبرالية تؤكد أن القيم الأساسية التي تستحضرها الليبرالية تتطلب الاعتراف بالحقوق الجماعية فيما يتعلق بالأقليات الثقافية واللغوية والدينية، وإن الانتماء إلى ثقافة مسألة أساسية للفرد الجماعة، ويجب أن تتضمن الليبرالية التي تضع الحقوق الفردية في قلب مفهومها للمجتمع: «احترام الحقوق الثقافية، ومن خلال تخصيص تدابير وقائية للحفاظ على ثقافة الجماعات تجاه الأغلبية، ووضع قيود مؤسسية تهدف إلى إحباط أي مبادرة قسرية تجاه أعضاء الجماعة، فإنَّها تظهر اهتمامًا حقيقيًا بمنع أي انتهاك لحقوق الأشخاص». (ويل كيمليكا، المواطنة متعدِّدة الثقافات، نظرية ليبرالية لحقوق الأقليات، ص 29). 
والمفهوم الأساسي الذي يستعمله هذا الفيلسوف في دفاعه عن التعددية الثقافية هو مفهوم الثقافة المجتمعية (culture sociétale) الذي يعرفه على هذا النحو: «إنها ثقافة مركزة في منطقة معينة، وترتكز أكثر على لغة مشتركة تستخدمها مجموعة واسعة من المؤسسات، وليس على المعتقدات الدينية المشتركة أو العادات العائلية أو الشخصية أو أنماط الحياة. إن الثقافات المجتمعية القائمة ضمن الديمقراطية الليبرالية الحديثة تعددية حتمًا، فهي مؤلفة من مسيحيين ومسلمين ويهود وملحدين، ومغايرين ومثليين؛ ومهنيين حضريين، وكذلك من مزارعين ريفيين، ومحافظين واشتراكيين. ومع ذلك، فإن هذا التنوع متوازن ويؤطره التماسك اللغوي والمؤسَّسي؛ هذا التماسك الذي لا يظهر من تلقاء نفسه، بل يكون ناتجًا عن السياسات التي تنفذها الدولة». (ويل كيمليكا، المواطنة متعدِّدة الثقافات، نظرية ليبرالية لحقوق الأقليات، ص 52).
وبالنسبة لكيمليكا، فإن الأمة هي أولًا وقبل كل شيء ثقافة مجتمعية، توفر لأعضائها أنماط حياة ذات مغزى، قادرة على تعديل جميع الأنشطة البشرية. ولذا فإن الثقافات لا تشير فقط إلى ذاكرة أو قيم مشتركة، بل تعني وجود مؤسسات مشتركة، ولكي توجد، يجب أن تتجسد هذه الثقافة في المدارس أو وسائل الإعلام أو في الحكومة، وأن تكون حاضرة في جميع مستوياته. 

التعددية الثقافية
ولقد عرفت التعددية الثقافية تطبيقات مختلفة في كثير من بلدان العالم، على رأسها بلدان أمريكا الشمالية، وأوربا والعالم، وبخاصة فيما يتعلق بالحقوق الثقافية المتمثلة في اللغة، والحفاظ على التراث الثقافي، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر، في الجزائر التي اعترفت في السنوات الأخيرة باللغة الأمازيغية بوصفها لغة وطنية رسمية. وعليه، فإنَّه وعلى الرغم من النقد الذي طال مختلف نظريات التعددية الثقافية، بحيث ذهب بعضهم إلى الإعلان عن موت التعددية الثقافية، إلا أن المتابع والمهتم بهذا الموضوع يدرك أن ثمة استمرارية في تنفيذ سياسات من نوع التعددية الثقافية، دون أن يطلق عليها بالضرورة هذا الاسم. 
وهذا يعني في تقديري، أنه يجب النظر إلى التعددية الثقافية بوصفها جزءًا من الحركة الفكرية العامة التي يشهدها العالم والمتمحورة حول قيم الفرد والحرية والمساواة، والتي تعزِّزها ظاهرة الهجرة الحالية والمستقبلية التي تشكل في حد ذاتها مثالًا للتنوع العرقي والثقافي والديني. ومما لاشك فيه، أن تدفقات الهجرة المصاحبة للعولمة ستغير من مجتمعاتنا المعاصرة، بشكل قليل أو كثير، وأنه يتعين على الدول والحكومات، أن تأخذ في الاعتبار هذا المعطى، وتقرر التدابير السياسية والإدارية المطلوبة، كما يتعين على الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية تعميق النقاش حول عناصر مفهوم التعددية الثقافية، ولعل أولها إعادة النظر في فكرة المواطنة المتجانسة والواحدية، ومحاولة الانفتاح على المواطنة التعددية، سواء من خلال مناقشة بعض نظرياتها، أو الإجراءات المتبعة في تطبيقها، أو محاولة تطويرها لتتناسب مع الثقافة المجتمعية المختلفة، ومنها ثقافتنا المعاصرة ■