د. أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية: الفكر العربي ليس في أزمة ونحتاج إلى الثقة بأنفسنا

د. أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية: الفكر العربي ليس في أزمة ونحتاج إلى الثقة بأنفسنا

إن مسيرة الدكتور أحمد عبدالله زايد مدير مكتبة الإسكندرية تشهد على نشاطٍ يجمع بين الإنسانية والمهارة والتمرس والمُكنة التي جعلته عالمًا اجتماعيًا فوق العادة، فمنذ أن قدم من إحدى القرى بمركز مغاغة محافظة المنيا عروس الصعيد ليلتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة في نهاية الستينيات من القرن العشرين شابًا نابهًا محبًا للعلم، سرعان ما تفوق ليصبح من أوائل دفعته ويكون محط أنظار أساتذته الذين لمسوا فيه باحثًا واعدًا.

 

رسالته للماجستير حول «الاتجاهات الكلاسيكية والنقدية في علم الاجتماع» مازالت مرجعًا مهمًا لكافة المشتغلين والدارسين لعلم الاجتماع، لا في مصر وحدها بل في العالم العربي، إن لم يكن في العالم، وتأتي رسالة الدكتوراه ليستكمل فيها مسيرة التميز النظري والمنهجي الذي بدأه في رسالة الماجستير، فيقدم دراسة مهمة في مجال علم الاجتماع السياسي حول جماعات الصفوة القديمة والجديدة في الريف المصري تكشف عن وجه آخر من مهارة التمرس في الإبداع النظري والمنهجي والقدرة على قراءة جانب من الواقع الاجتماعي وفهمه وتأويله تأويلاً أدهش كل من قرأ هذا العمل.
انطلق «زايد» في مشروعه العلمي متطرقًا لمجالات متنوعة في علم الاجتماع، أيضًا تعمق زايد في دراساته في علم الاجتماع السياسي، فكتب عن الدولة وبناء القوة والنخب الاجتماعية والمجتمع المدني، وترجم العديد من الكتابات حول الحركات الاجتماعية، كما مثلت كتاباته ريادة علمية في العديد من الموضوعات، فكان له السبق في الاهتمام على مستوى البحث الميداني في علم الاجتماع بموضوعات الاستهلاك، والحياة اليومية، والخطاب الديني والعنف، ومنها موضوعات تضمنت طرحًا علميًّا مبتكرًا على المستوى النظري والمنهجي، وفي مجال ثالث اهتم أحمد زايد بدراسة مسار الحداثة في مصر بداية بمقالته «حول الإسلام وتناقضات الحداثة» 1966، حتى كتابه حول «تناقضات الحداثة في مصر» 2005، الذي يتساءل فيه عن قضايا الحداثة في مصر وإشكالياتها ومعضلاتها التاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية، مع تحليل لبعض أنساق البناء المجتمعي لكشف التناقضات في هذا البناء الحداثي والتراثي، وكان له السبق في صك اصطلاح الحداثة البرانية الشكلية ليصف به واقع الحداثة في مصر.
وفي اهتمام أحدث كتب أحمد زايد حول مظاهر التدين الشكلي والخطاب الديني العديد من الدراسات بداية من كتاب صور الخطاب الديني في مصر 2006 حتى كتاب الخطاب الديني من السياق إلى التلقي 2017، وهو اهتمام يمثل جرأة وريادة علمية وفتح آفاق لاهتمام الباحثين بهذا المجال.
هذا الإنتاج العلمي بالإضافة إلى العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي أشرف عليها تؤكد أننا أمام رجل مهموم بالعلم وتطوراته النظرية والمنهجية ومهموم بقضايا المجتمع ومشكلاته. إننا أمام باحث له مشروعه العلمي المتفرد والأصيل.
تولى زايد العديد من المراكز والمناصب العلمية، أهمها عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة (2005-2009)، ومدير مركز البحوث والدراسات الاجتماعية (2003-2004)، ومقرر مجلس العلوم الاجتماعية والسكان بأكاديمية البحث العلمي وعضو المجلس القومي للمرأة، ومستشار برنامج القضايا الاجتماعية بمركز المعلومات واتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري، ومستشار ثقافي لمصر بالرياض (1998-2001)، وشارك في العديد من الندوات التي أقامتها اللجنة الوطنية لليونسكو بمصر ولبنان والسعودية، وشارك في عدد من لجان اعتماد البرامج العلمية في الجامعات على المستويين الوطني والعربي، كما نال عضوية العديد من اللجان والجمعيات العلمية بالداخل والخارج، ونال العديد من الجوائز العلمية، منها جائزة الدولة للتفوق العلمي والعلوم الاجتماعية عام 2004، وجائزة الدولة التقديرية عام 2007، وجائزة جامعة القاهرة للتميز في العلوم الاجتماعية 2001، وعمل محاضرًا وأعير للعمل بجامعة أم درمان بالسودان وجامعة بيليفيد بألمانيا وجامعة قطر، والإمارات العربية المتحدة، وحضر العديد من المؤتمرات العالمية والإقليمية في (ألمانيا، إسبانيا، كينيا، سيريلانكا، الصين، اليابان، فرنسا، الأرجنتين، بلجيكا، إيطاليا، الكويت، لبنان، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، الأردن، سورية، سلطنة عمان).
أسس زايد منتدى القراءة وهو جمعية أهلية تعمل على تشجيع القراءة وتنمية مهارات وتكوين أساس معرفي مستنير للباحثين في العلوم الاجتماعية، وقد تولى منصب مدير مكتبة الإسكندرية خلفًا للسياسي البارز الدكتور مصطفى الفقي.  مجلة «العربي» التقت الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية وكان هذا الحوار:
• بداية... ماذا عن رؤيتك لمستقبل الثقافة في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تحولات مجتمعية مستدامة؟
- الثقافة بوصفها تشكل الأطر الفكرية ومخططات الحياة التي توجه مسيرة الحياة في المجتمع والتي تشكل أساليب حياة الناس ورؤيتهم للعالم، وكثيرًا من عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم، هذه الثقافة هي التي تشكل فعل الوعي وهي التي تشكل أيضًا فعل التأطير المستقبلي، وسؤالنا هو حول المستقبل، ما هو مستقبل الثقافة وما الدور الذي تلعبه الثقافة في التكوين المستقبلي للمجتمعات العربية؟ هذا هو السؤال الذي يحب أن يُطرح. وأعتقد أنه إذا كنَّا نؤمن بأن الثقافة هي التى تشكل فعل الوعي، فإنها هي التي تشكل أيضًا فعل التأطير والتغيير المستقبلي، فلا بد أن يكون وعينا قادرًا على أن يدرك أولاً طبيعة التحولات العالمية، طبيعة التغيرات التي تحدث في هذا العالم الذي يطلق عليه كثير من المسميات (عالم عدم اليقين، وعالم المخاطر، وعالم الفوضى، وامبراطورية الفوضى كما يقول المفكر العربي سمير أمين،  رحمه الله، والعالم الذي يشهد تغيرات كثيرة وكبيرة جدًا ومتعددة الجوانب في كل المجالات، فالعالم يموج بتدفقات يومية في التكنولوجيا والأفكار وفي المعتقدات، وفي الأجندات، وفي التغيرات السياسية وفي الصراعات، وفي كل الأطر والميادين تجد أن العالم يتغير يومًا بعد يوم، وبسرعة شديدة، وهذه التغييرات تترك آثارًا كبيرة على المجتمعات العربية، ويجب أن ندرك طبيعة هذه الآثار، ويجب أن ندرك الدور التفكيكي لها، لأن هذه التغييرات التي تحدث على المستوى العالمي، تحدث على المستوى الأدنى على مستوى المجتمعات التي تدور في فلك النظام العالمي تحدث فيها تغيرات تفكيكية هائلة في مجال الثقافة على وجه الخصوص، وتجعل الناس في هذه المجتمعات يتشاجرون حول العرق والسلالة وحول المستقبل والهوية ويتناقشون ويتجادلون في جدالات عقيمة، قد تؤدي في بعض الأحيان إلى الدخول في صراعات، وقد تصل إلى أن يكون هناك عدم استقرار سياسي كما يحدث في بعد البلدان العربية التي نراها الآن، نجد أن المجتمع نفسه يدخل في حالة من الفوضى، يجب أن ندرك ذلك لكي نؤسس لفعل ثقافي ولفعل تغييري متميز، يجب أن ندرك طبيعة هذه التحولات والتأثيرات الإيجابية والسلبية لها، وثمة تغيرات وآثار إيجابية كبيرة فيها فوائد تكنولوجية وفوائد في نقل المعلومات والمعارف وتشجيع الابتكار وكل المجالات المتصلة بمجتمع المعرفة، ولكن في الجانب الآخر هناك آثار سلبية كثيرة يجب أن نعي بها، ويجب أن يكون الفعل الثقافي في هذه الحالة، موجهًا نحو التقليل من هذه الآثار نحو تحليق أطر ثقافية لدى الشباب تجعلهم على قدرة كبيرة من الوعي بهذه التغييرات والوعي بتراث وتشكيلات العالم. 

فهم التغييرات
ومن الناحية الأخرى، ثانيًا يجب أن يساعدنا الوعي على أن نفهم طبيعة التغييرات التي تحدث في المجتمعات العربية نفسها، على مستوى الوطن العربي كله، طبيعة التحالفات والتغييرات، وطبيعة الصراعات الظاهرة وغير الظاهرة بين التكوينات العربية المختلفة، وأن نعي أيضًا بالتغييرات داخل كل دولة على حدة وداخل كل مجتمع على حدة، والتغييرات في البنية الطبقية والتغييرات في طموحات وتكوينات الشباب، خاصة أن لدينا كتلةً شبابية هائلة في الوطن العربى، ويجب أن تكون هذه الكتلة محل اعتبار ونظر من وجهة النظر الثقافية. يجب أن تلعب الثقافة بجانب التعليم دورًا كبيرًا في التأطير الصحيح العلمي والفكري والفني والوجداني لهذه الفئات العريضة من الشباب بدلاً من أن نتركها تتعرض لتأثيرات سلبية من فرط وعمق التواصل أو الدخول في عالم التواصل الاجتماعي، وثقافة الاستهلاك التي تفرضها العولمة من ناحية أخرى. 

تأطير الوعي الشبابي
لا يجب أبدًا أن نترك الشباب لكى تنمو غريزتهم على حساب عقولهم، لا بد أن نبني العقول وأن نوطِّن الوجدان، ولا بد أن نكوِّن هؤلاء الشباب تكوينًا معرفيًا ووجدانيًا ونفسيًا يمكنهم من أن يواجهوا هذا العالم المتغير، وأن يعرفوا أوله من آخره، وأن يفهموا أن العالم قد تشكَّل من خلال إسهامات كبيرة جدًا من ضمنها الإسهامات العربية، وليست الإسهامات العربية أو الإسلامية هي الوحيدة، وإنما هناك إسهامات ضخمة جدًا تمتد من الحضارات القديمة إلى العصور الحديثة، فهم فيها مفكرون وفلاسفة ورجال فقه وفنانون، رجال سياسة، فيجب أن نؤطر هذا الوعي الشبابى، وهذا هو الدور الذي يجب من - وجهة نظري - أن تلعبه الثقافة في المستقبل، وأن يكون لها دور في بناء الوعى الإنساني الثانوي، وفي بناء الوعي بالمتغيرات العلمية، وفي بناء التأطير الأخلاقي القوي الذي يؤدي إلى انبعاث أخلاقي رهيب يجعل المجتمعات العربية قادرة على أن تكون لديها قدرة على أن تخرج من دائرة القصور وأن تتجاوز دائرة التقاليد ودائرة الماضي لتنطلق إلى آفاق العقل والتأمل والنظر في الذات في مقابل اكتشاف المشكلات التي تظهر في العالم وأساليب التعامل معها، وتلك مهمة كبرى بلا شك.
• ماذا عن رؤيتكم لدور مكتبة الإسكندرية التنويرى عربيًّا وإفريقيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا، وماذا تحقق من استراتيجيتكم للنهوض بالعمل الثقافي خلال المرحلة المقبلة ووضعها على الخريطة العالمية؟
- لا شك أن للمكتبة دورًا تنويريًا مهمًا على المستوى المصري أولاً والعربي والإفريقي والعالمي، لأن المكتبة توجد في الإسكندرية وهي امتداد للمكتبة القديمة، التي كانت موجودة في مدينة الإسكندرية التي نقول عنها إنها تعكس روح التعددية والتقاء الديانات والأفكار والثقافات، بحيث إن الإسكندرية كانت وظلت فترة طويلة عبر تاريخها أيقونة لحمل الثقافات المختلفة ونشرها وتبادل وخلق نوع من التفاعل فيما بينها، والمكتبة بُنيت في نفس المكان الذي بنيت به المكتبة القديمة، فهي تود دائمًا أن تحمل هذه الروح وأن تكون بوصفها، كما ينص قانونها أنها منارة من مصر على العالم، وأنها تقدم في المجال العلمي والثقافي والفني في هذه المستويات الثلاثة، إسهامات يمكن أن تعكس هذه الروح في التعددية وفي نشر الأفكار بهذه البلدان وخلق حوار على المستوى المحلي والمستوى العربي والإفريقي والدولي، ورؤيتها تتحرك في كل هذه الدوائر. 
وفي هذا الإطار لدى المكتبة كثير من الفعاليات، إما في شكل مجلات علمية وندوات ومؤتمرات، وفي شكل حوارات مثل برنامج حوارات الإسكندرية الذي يقدم حوارات حول أهم القضايا التي تهم العالم العربي، ومحاولة المشاركة في مؤتمرات على المستوى العالمي، فلدينا كثير من المراكز البحثية التي تقدم مؤتمرات لها صبغة عالمية، فالمكتبة تتعاون وتتفاعل ولديها اتفاقيات تعاون مع كثير مع البلدان العربية والبلدان الإفريقية، والآسيوية وحتى من أمريكا اللاتينية وأوربا، والمكتبة لها باع كبير جدًا في تفعيل هذه الرؤية من الاتصال والتشبيك والتفاعل الدولي الذي يعكس هذه الروح من التعددية كما ذكرت في البداية، والخطة والرؤية التي أقدمها للمكتبة تعكس هذه الأفكار أيضًا، وانطلقت من كل هذه الدوائر العربية والإفريقية والعالمية، وقدمت مقترحات من أهمها إنشاء جوائز عالمية باسم المكتبة، بحيث تكون جوائز محلية وعربية ودولية باسم مكتبة الإسكندرية، والعمل على نشر التراث العالمي كله في شكل كتب مختصرة تقدم للشباب وتلخص لهم التراث العالمي، وهو ما تتبناه المكتبة ونطلق عليه «سلسلة التراث الإنساني للنشء والشباب»، لكي ينغرس في عقل الشباب أن العالم الذي نعيش فيه لم يبن على فكرة واحدة، ولن يبنى على رأي واحد ولا دين واحد، وإنما بُني على أفكار متعددة جاءت من هنا وهناك، وساهم فيها علماء ومفكرون وأنبياء وفلاسفة هي التي شكلت هذا العالم الذي نعيش فيه، هذا فضلاً عن الاهتمام بمصر والتراث المصري، ونفكر في عمل متحف كبير للتراث المصري، ولدينا أيضًا مركز التوثيق الحضاري، الذي يقدم توثيقًا لكل أشكال التراث المادي وغير المادي في مصر، ويقوم بدور كبير في هذا المجال، فالمكتبة تعمل على كل هذه المستويات من حفظ التراث إلى نشر الثقافة والفنون المختلفة ومن ضمن الأنشطة المهمة جدًا التي نهتم بها تدريب النشء الصغير واكتشاف المواهب وتشجيعهم على تقديم ابتكارات ليس فقط على المستوى الفني والأدبي والتشكيل الفني، وإنما أيضًا على المستوى العلمي، ونقدم لهم جوائز ونقيم لهم مسابقات في هذا الصدد، ونحن بصدد أيضًا أن ننشئ مسابقة قومية للقراءة، بحيث تنشط عملية القراءة ويكون هناك اهتمام قوي بالقراءة، حتى نُعيد الشباب مرة أخرى إلى الكتب، والمكتبة لا بد أن تلعب دورًا في هذا المجال في المستقبل.

عيون التراث
• وماذا عن مشروع «عيون الفكر العربي والتراث الإسلامي الحديث»؟
- فيما يتصل بنشر التراث ومشروع عيون الفكر العربي فلدينا أربع جهات تقوم بنشر عيون التراث، إضافة إلى دور النشر الخاصة، ويتم التنسيق مع جهات عديدة تقوم بهذه المهمة الخاصة ويتم التنسيق مع جهات عديدة تقوم بهذه المهمة، ومنها الهيئة العامة للكتاب ودار الكتب وقصور الثقافة حتى يتم نشر التراث الإسلامى الحديث.
• ما تقييمك لدور المكتبات والهيئات الثقافية في عصر التحول الرقمي، وماذا عن مشروع رقمنة الكتب داخل مكتبة الإسكندرية وإطلاق مشروع رقمنة الكتب صوتيًّا؟
- لا شك أن العصر القادم هو عصر الرقمنة، ولذلك فإنه يفرض علينا اعتبارات كثيرة جدًا أن تكون مكتبة لها مواصفات تختلف كثيرًا عن المواصفات التي نعرفها اليوم.. فقد نرى مكتبة في المستقبل ليس فيها كتب ورقية، فمن الممكن أن تكون المكتبة كلها ديجيتال والقراءة والاستعارة الديجيتال وكل شيء ديجيتال، هذه هي النقطة الأولى، أما النقطة الثانية فإننا يجب أن نتواكب مع هذا التحول الكبير، ونحاول أن نحوِّل أكبر عدد ممكن من الكتب إلى كتب «مرقمنة»، ومكتبة الإسكندرية تتواكب كثيرًا مع هذا التوجه، وتحوِّل عددا كبيرا جدًا من كتبها، ومن الممكن أن يكون نصف الكتب أو أكثر من نصف الكتب الموجودة في المكتبة هي كتب مرقمنة الآن، ولدينا إمكانيات ضخمة للرقمنة، فلدينا معمل كبير لديه حرفية شديدة في رقمنة الكتب وفي تدقيقها، وفى إخضاعها لبرامج الرقمنة الحديثة، فالرقمنة التي يمكن من خلالها أن تتصفح الكتاب وتتجول داخله باسم المؤلفين أو اسم الموضوع، فهناك بعض التطبيقات التي يمكن استخدامها للمساعدة على قراءة الكتاب المرقمن.

الرقمنة الصوتية
أما النقطة الثالثة التي تتعلق بالرقمنة الصوتية، فقد بدأنا هذا الاتجاه، ونحن الآن في الألف الأولى في هذا الصدد، وهذه المكتبة مهمة جدًا للمكتبات الخاصة بالمكفوفين، ولدينا داخل المكتبة مكتبة مخصوصة لهذه الفئة تمكنهم من القراءة واستخدام التطبيقات الحديثة في الكمبيوتر لقراءة الكتب، أو النصوص المكتوبة بشكل «ورد» يمكن قراءتها من خلال هذه البرامج التي تستخدم الصوت مع الكلمة، بحيث مَن لديه عدم القدرة على القراءة بعينيه يستطيع أن يقرأ من خلال هذا التطبيق عبر جهاز الحاسب الآلي، ويستطيع أيضًا أن يكتب، وكل هذه الأمور تضعها المكتبة في اعتبارها وتتعامل تعاملاً دقيقًا ومحكمًا من أجل أن تواكب التطور الحادث في المستقبل في العالم الذي يتوقع أن يكون في المستقبل مرقمنًا بالكامل.
• كيف تنظر لمستقبل الفكر العربي الراهن بعد توليك مسؤولية مدير مكتبة الإسكندرية العريقة؟
- لست من أنصار أن ننظر للفكر العربي على أنه في أزمة، أو أن الثقافة العربية في أزمة، فأنا ضد خطاب الأزمة على طول الخط، وأرى دائمًا أن الذين يتحدثون عن الأزمة هم أنفسهم الذين يعانون منها، لأنه حتى لو كانت هناك أزمة فنحن نتحدث عمَّا نحققه حتى وإن كان بسيطًا، وأعتقد أنه بالرغم من أن الخطاب حول الثقافة العربية هو خطاب فيه قدر كبير من الانتقادات والامتعاض وعدم الرضا، والحديث عن الأزمة أحيانًا، فأنا لا أحب هذا النمط من الحديث، وإنما الطريق يعبَّد بالسير فيه، فأنا أؤمن بهذا المبدأ، وأننا لا بد أن نسير بدلاً من أن نجد أنفسنا ونقول إن الثقافة العربية ليست بخير وأن الثقافة العربية متخلفة عن الركب، ولكن دعونا نعمل، نكافح في كل الاتجاهات، نترجم ونؤلف، ونفكر ونطرح أفكارًا نظرية، وننظر ونتفلسف، فنحن نستطيع أن نفعل كل ذلك، والعرب فعلوا ذلك في الماضي وهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك في الحاضر، كانوا قادرين عليه في الماضي وهم قادرون أن يصنعوه في الحاضر، فلنترك هذا الخطاب الذي ينادي بجلد الذات والإحساس بالدونية إزاء المجتمعات الأخرى، والإحساس بالعجز، نحن بحاجة أن نثق في أنفسنا أكثر، وأن نقوى وندعم كل الطاقات والقدرات الشبابية المتخلقة في المجالات المختلفة، الرواية، المسرح، الشعر، فلدينا طاقات متميزة في العالم العربي يجب أن نشجعها ونساعدها على القراءة والاطلاع، ونساعدها على أن تتفتح وتكتسب مهارات مختلفة وأن تنفتح على الثقافة العالمية، وهذا هو الجهد الذي يجب أن نبذله بدلاً من أن نتحسر على أحوالنا ونعيش حالة من الأزمة التي لا طائل من ورائها.

الثقافة عماد الحياة
• مقولتكم الشهيرة «أنه لا تنمية دون ثقافة» ماذا تقصد بها وما مفهوم الثقافة لديها التي تقتصر على النخب أم الثقافة الشاملة؟
- بالطبع لا تنمية دون ثقافة، لأن الثقافة هي عماد الحياة، والثقافة هي مخططات الحياة التي تمكننا من أن نكوِّن رؤية للعالم، وأن نتعامل مع بعضنا البعض، وأن نثق في أنفسنا وأن نتصور للمستقبل وأن يكون لدينا القدرة على أن نتعامل مع البيئة، وأن نسخّر كل ما لدينا من إمكانيات في هذه البيئة من أجل التقدم، والثقافة هي التي تعيننا على الابتكار والإبداع، ولذلك لا تنمية بغير ثقافة، فالثقافة هي عماد التنمية، وكلما ارتقت المجتمعات في أطرها الثقافية ارتقت في الأطر التكنولوجية. وقد أذكر هنا بمسار التطور في المجتمعات الغريبة، فالنهضة الغربية بدأت بالفن في إيطاليا، انبثقت من عيون الموناليزا ولوحات دافنشي ومايكل أنجلو وغيرهما من الفنانين الإيطاليين ثم تحولت بعد ذلك إلى الفكر، حيث كتب ديكارت مقاله الشهير فى المنهج «أنا أفكر إذن أنا موجود» طرح هذه المقولة المهمة جدًا التي وضعت أسسًا للتفكير، وأن التفكير العقلي هو أساس الوجود، وأنه كلما فكر الإنسان كان موجودًا، وهذا الفكر ارتقى بعد ذلك بشكل أجود وأجمل في أعمال فلاسفة عظام من أمثال «كانط» «وبيجل» وغيرهما، ثم ارتقى بعد ذلك في فلسفة العقد الاجتماعي، حيث تم تحويل هذه الأطر الفلسفية إلى مواثيق سياسية أخلاقية أسست للدولة الحديثة، فالتقدم أصله ثقافي، فأوربا قبل الثورة الصناعية كانت قد قطعت قرنين أو ثلاثة قرون في الإنتاج الفني والفلسفي والفكري قبل أن تلج إلى الثورة الصناعية وإلى الثورة الفرنسية، الثورتين اللتين حولتا وجه أوربا، فالثورة الصناعية حولتها على المستوى الاقتصادي، والثورة الفرنسية حولتها على المستوى السياسي ولكن كان قبل الثورتين هناك تراث فلسفي وفني وأخلاقي كبير جدًا وممتد عبر 3 قرون تقريبًا من الزمان، التي أنتجت هاتين الثورتين، فالثقافة لا شك هي عماد التنمية، وأن إهمال الجوانب الفنية والتذوق الفني وإهمال المنتجات الأدبية والفلسفية وكل الأشكال الثقافية التي يمكن أن تنهض بالمجتمع، يؤدي إلى حالة من العجز والركود، وكان كانط له مقولة شهيرة كتبها في صدر مقاله الشهير عن التنوير: «إن التنوير هو الخروج من دائرة القصور والعجز في استخدام العقل»، فإذا كانت الثقافة هي التي تدعونا إلى استخدام العقل، فمعنى ذلك أنها الطريق إلى التنوير، الطريق إلى الخروج من دائرة القصور ودائرة العجز كما يقول كانط، فالعقل هو نبراس الثقافة، والأساس الذي تقوم عليه كل المكونات الثقافية، نعم الثقافة هى عماد التنمية.
•  فى ضوء كتابك «صوت الإمام... الخطاب الدينى من السياق إلى التلقى»... ماذا تقصد بالخطاب الدينى وهل هناك علاقة بين النخب الدينية والرأسمالية وقوانين السوق والعرض والطلب؟
- كتاب «صوت الإمام» مهم جدًا من وجهة نظري وهو من آخر أعمالي، وقد قضيت وقتًا طويلًا في كتابته، ويدرس الخطاب الديني، فالخطاب الديني نستطيع أن نعرفه ببساطة بأنه هو كل الأقوال التي تظهر حول الدين سواء في شكل تفسيرات أو في شكل كلام عن الدين أو في شكل تأويلات في الدين، في شكل منتجات لمؤسسات ذات طبيعة دينية، فالخطاب ينتج هنا عبر وسائل مختلفة، فمن الممكن أن يظهر في كتب أو في أقوال أو في خطب أو برامج إعلامية أو في أفلام فيديو أو في أي شكل من أشكال الاتصال، فالخطاب الديني ينتج عبر منصات مختلفة من المؤسسات الدينية مثل الأزهر والإفتاء وهيئة كبار العلماء أو الخطاب الديني المسيحي الذي ينتج من خلال الكنيسة، ومن ينتج الخطاب الديني هم صفوة، من الذين يطلق عليهم رجال الدين، وهناك اختلاف على  التسمية، ولكن يمكننا أن نطلق عليهم المتخصصين في شؤون الدين المهتمين بشؤون الفقه وشؤون الدين والوعظ، فهم الذين ينتجون الخطاب الديني، وهم يشكلون نخبة دينية تعمل وتتنافس على الحقول المختلفة وتصنع حقلًا دينيًا وتتمدد وتنتشر، بل إنه في بعض الأحيان يسيطر على الحقول الأخرى، فالخطاب الديني في هذه الحالة عندما يتمدد ويحاول أن يتنافس مع الخطابات الأخرى يخلق علاقات مع المصلحة وعلاقات صراع ومصلحة مع الرأسمالية ومع النظم الاستهلاكية، وهو نفسه يستخدم أدوات استهلاكية، ويتم إنتاجه بنفس الأدوات التي تنتج بها السلع، فينتج في شكل أشرطة وأفلام، فلو قارنا بين الطريقة التي ينتج بها الخطاب الديني لدى كل هذه النخبة الدينية التي نراها عند الشيخ الشعراوي أو كبار الوعاظ في العالم الإسلامي سنجد أنَّ نفس الأساليب التي تتبع هي نفس الأساليب التي يتبعها أي نجم سينمائى، مفتى أو مطرب في إنتاج أفلامه، وخطابه الفني وإذا كانت هذه المقارنة بها نوع من التجاوز، لكنني أقصد بها أنه ليست تقليلًا من شأن القائمين على شؤون الدين ولكن فقط أقول إنهم مندمجون ومنصهرون في قلب المنظومة الرأسمالية فهي تستخدمهم وهم يستخدمونها، تمامًا مثل أي شكل من أشكال الإنتاج الفني أو الإنتاج العلمي أو الثقافي أو أي شكل من أشكال الفن.

حقيقة موجودة
• لماذا دومًا الخطاب الدينى مرتبط بالآخرة أكثر من ارتباطه بالدنيا في رأيك؟
- ارتباط الخطاب الديني بالآخرة هو حقيقة موجودة وهي إحدى النتائج المهمة التي توصلت لها في دراستي عن «خطى الإمام» لأن جلَّ الخطاب يتجه نحو الآخرة، نحو عذاب الآخرة، نحو التحذير من بعض الأشياء في الحياة الدنيا، فهو يحذره من بعض الأشياء التي تتدفق إلى الحياة الآخرة، فالحياة كلها تتحول نحو أشياء مرتبطة إما طلب الآخرة أو الحديث عن العذاب أو ما يمكن أن يلقاه الإنسان من عذاب أو ثواب في الآخرة، ولذلك توصلت إلى نتيجة أكدت فيها أن هناك سمتين رئيسيتين يتسم بهما الخطاب الديني وهما الأخروية والماضوية، فهو خطاب ماضوي أي يحاول دائمًا أن يرجع إلى الماضي ولا يهتم بالحاضر، ثم أنه يهتم بالآخرة أكثر من اهتمامه بالحياة الدنيا حتى عندما حللنا الموضوعات التي يتحدث فيها الخطاب لم نجد إلا أقل من 15 في المئة موضوعات تتصل بالحياة الدنيا وأكثر من 85 في المئة يتصل بالآخرة بما فيها من كلام عن الآخرة وذكر الله وعن العبادة وعذاب القبر ويوم القيامة. أي كل ما يتصل بالآخرة، وهذا يدل على أن الخطاب الديني به قدر كبير جدًا من الوصاية والتخويف، ويخلق نوعًا من التخويف والرجم للمجتمع الذي نعيش فيه، فهو ناقد للمجتمع دائمًا، فالمجتمع في نظره سيئ، وأفراده سيئون، لا يوجد أشخاص أتقياء، ومهمة الدين هنا أن يحول هؤلاء الناس إلى أتقياء، خلاصة القول بالشكل المباشر أنهم هم الأتقياء ونحن غير أتقياء وهو الأوصياء ونحن الموصى عليهم، هم يفكرون لنا ونحن غير قادرين على التفكير، وهذا كلام مهم جدًا يمكن استخلاصه من الطبيعة التي يتهندس بها الخطاب الديني في عملية الوعظ ■