النَّقْدُ والمُكَاثَبَة أو القِرَاءَةُ مِنْ كَثَب

النَّقْدُ والمُكَاثَبَة  أو القِرَاءَةُ مِنْ كَثَب

حين أنشد الشاعر المغربي محمد السرغيني في ديوانه «من أعلى قمم الاحتيال- فاس» قائلا:
«أيها الليل، آوِنِي إلى جبل عارٍ
لأنحت صورتي وصوتي
على أحجاره ومغاوره».
لعله كان يستبصر من وراء ستْرٍ رقيق أن ثمة من سيتلقف أشعارَهُ الفائقةَ «من أعلى قمم الاحتفال» محبةً واحتفاء، بعد أن انطبعت ليس فحسب في جلاميد الصخر وتجاويف المغاور، بل أيضًا في أشغفة قلوب العاشقين ومرايا الأنفس الشفيفة. 

وفي مثل هذه الحالة لا تستقيم الكتابة عن شغف الوصل إلا بحِبْر التَّعَشُّق... انتظامًا في سلك هذا النسق، ذكر الدكتور أحمد زكي كنون في أعقاب متابعته لتجربة محمد السرغيني الإبداعية: «فلتكنْ هذه المغامرة مني بالكتابة عن علم من أعلام الفكر والثقافة والإبداع الشعري في العالم العربي إفصاحًا عن ذلك الحب العميق الذي لولاه لما تحرك القلم ولا صاغ فكرة واحدة». ومعلوم أن همة المحبين إذا استقامت على ساقِها، نالت المطلوبَ بحسبِ وِفَاقِها. لأن اللغة حينئذ تغدو ميدانا، والمحبين فرسانا... ألم يقل ألفرد دوبلن (Alfred Döblin): «إن اللغة صيغة من حب الآخرين»؟ فما أبهى ذلك الحبّ العميق حين يَخُطُّ بقلم التَّعَشُّقِ بَوْحًا بأسرار الشعر، ولَـمْحًا إلى أسفارِ الفكر الممتدةِ بسائطُها الوثيرةُ بين الناقد والشاعر.

1- في مرتفعات الشعر والمحبة
في حضرة الشاعر الدكتور محمد السرغيني -إنسانًا وتجربةً وإبداعًا - نكون بإزاء مسيرة متفردة «أصيلة لها سحرها الخاص، وقسماتها الخاصة»، فنحتفي بمتون «مضيئة تقطر شعرًا وفرادة وامتيازًا، وتضج بثمار الوعي الإنساني النبيل، وتكشف جماليات نسيجها الشعري عن لبنات معمارها الآسر المتماسك، ويحفل عالمها المتوهج بممتلكات تعبيرية وأسلوبية بالغة الغنى والرحابة». ونسلك في طريق موسوعة ثقافية نَلِجُ عبر مَسَاربها إلى خمائل المتنبي وجلال الدين الرومي ورامبو وأندريه بروطون وغوته وبوشكين وابن عربي والحلاج وابن الفارض والششتري والنفري وابن عطاء الله السكندري وابن عجيبة التطواني وابن العريف الصنهاجي الطنجي والقديسة تيريزا الأبيلية (Teresa de Avila) ويوحنا الصليبي (San Juan de la Cruz) والشاعر اليهودي المتصوف الفاسي أبينصور، وأبي حيان التوحيدي، وخورخي لويس بورخيس... (هؤلاء - وغيرهم كُثْر- هم شيعة السرغيني التي إليها ينتسب)، وتأسرنا فسيفساء تشكيلية ينتصب فيها سالفادور دالي وجها لوجه مع الواسطي صاحب المنمنمات المرافقة لمقامات الحريري، أو مع  الفنان التشكيلي الجيلالي الغرباوي؛ ويَتَخَفَّى في متونها وحوافها «الكائنُ السّبَئيّ» رامزًا إلى تقويض العمران والبنيان وإنسانية الإنسان، وتتجاسر فيها جذورٌ ممتدةٌ من توبقال الأطلسي إلى الألب الأبيض إلى الهيمالايا الآسيوية، ومن زالاغ الأصهب إلى الأولمب البني... يتزاوج ويتمازج في أثنائها الدابر والقابل، الذاتي والموضوعي، العرضي والجوهري، الوجداني والفلسفي.
ومن هنالك - زعموا - كانت قراءة أشعار الدكتور محمد السرغيني ضربًا من العنت والاستعصاء، تنتصب دونها عقباتٌ وحُدود، وتعترضها موانعُ وسُدُود. لذا فقد لزم على الخائض في بحر هذه التجربة أن يحترز من أن تكون مراكبُ إبحاره ضعيفة. ضمن هذا السياق، يؤكد الناقد أحمد زكي كنون في مستهل كتابه «الدكتور محمد السرغيني إبداعُ تجربةٍ» قائلًا: «لم تكن قراءة نصوصه سهلة»، مستحضرًا أن النصوص مجرد إنجاز، والإنجاز قد يتحقق شكلًا، أما جوهرًا فإنه «يتسرمد ما تسرمد مشروع الشعر في الشاعر». ومشروع الشاعر محمد السرغيني طُمُوحٌ ممتدٌّ سامقٌ باسق، وسعيٌ فائقٌ نحو الاستشراف على تخوم الجوهري من علياء الفن والفكر وكثافة الشعر والفلسفة. ضمن هذا السياق، يؤكد السرغيني: أنه ليس فَرِحًا بمقروئيته من لدن أولئك الذين «يريدون الحصول على المتعة من دون بذل أي جهد ذهني ونقدي في الآن عينه». وفي المقابل فإنه يُثني على قرائه «الذين يقرأون باتزان وتَرَوٍّ»، فلا تقف صعوبةُ البناء دون استكناه الحقائق واستجلاء المقاصد والتعويل على مَغَاصِ الدُّرة في لُجَج المعنى بقصد تفتيق الذخائر واللطائف. ارتباطًا بهذا النسق، وردَ في أسرار البلاغة: «ولو كان الجنس الذي يُوصَفُ من المعاني باللطافة ويُعَدُّ في وسائط العقود، لا يُحْوِجُكَ إلى الفكر ولا يحركُ من حرصك على طلبه بمنع جانبه وببعض الإدلال عليك وإعطائك الوصلة بعد الصَّدّ والقرب بعد البعد (...) لسقط تفاضُلُ السامعين في الفهم والتصور والتبين». إنها مكابدةٌ مقرونةٌ بلذاذةِ الاستكشاف والانكشاف. فمن المركوز في الطبع «أن الشيء إذا نِيلَ بعدَ الطلبِ لهُ والاشتياقِ إليهِ ومعاناةِ الحنين نحوه كان نيلُه أحْلَى، وبالمزية أَوْلَى، فكان موقعُه من النفس أَجَلَّ وأَلْطَفَ، وكانتْ به أَضَنَّ وأَشْغَف...»، بل إن هذه اللذاذة تتضاعف حين «يزيدُكَ الطلبُ فرَحًا بالمعنى وأُنْسًا به وسرورا بالوقوف عليه». ويبدو أن الشاعر السرغيني كان يؤسس لمعنى مَسَرَّاتِ الاشتباك بين النص والقارئ من خلال مفهوم الصراع «الذي يجب أن يكون قائما بين الشاعر وقارئه، وهو صراع سلمي مأتاه أن الشاعر يريد أن يُتعب قارئَه قبل أن يصل هذا إلى فك رموز القصيدة. إن قراءة الشعر المحَكّك المحْكَم تستلزم هذا الصراع الحيوي الذي يجمع بين الشاعر وقارئه».
بيد أن صلات الأنسِ والقرابةِ الممتدةِ وشائجُها بين الناقد أحمد زكي كنون والشاعر محمد السرغيني - ابتداء من حَوَاري المدينة العتيقة وعبق أسوارها وأسرارها، ثم انعطافًا إلى كراسي الأستاذية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ومن ثمة إلى مُناسمات في الشعر واستعاراته وتلويحاته وكناياته وترميزاته، وإلى مطارحات في الفكر ولُـمَحِهِ ومُلَحِهِ - تدفعنا إلى القول: إن قراءة أحمد زكي كنون لمحمد السرغيني يمكن أن تندرج تحت عموم لفظ «القراءة الـمُـكَاثِبَة»؛ وهي القراءة «مِنْ كَثَبٍ وقُرْبٍ وتَمَكُّنٍ»... تلك التي لا يستجيدها إلا المستكشفُ المصاحبُ القاصدُ الذي تكون «الخرائط تحت تصرفه»، والمبحرُ المتمرّس «العارف بشعاب المحيط مرجانه ولألائه». بيد أن الدكتور زكي كنون اختار ألا ينزع في متابعاته مَنْزَعَ الاشتباك مع النصوص نقدًا ومساءلةً، أو مواجهةً ومبارزةً، فإقامةً أو نقْضًا، بل تحبيرًا للمودة وتحريرًا لشغف الـمُكَاثَبَة والـمُصَاقَبَةِ والمحبة الموصولةِ «بمبدع وباحث وإنسان بصدق»، يحفظ له أحباؤه وأصفياؤه حرمةَ شِدّةِ الـمُنَّة وطول الباع في الأستاذية والإنسانية والألمعية واللوذعية فكرًا وشعرًا وإبداعًا وإشعاعًا.  

2- فائقية الإبداع في تجربة السرغيني
يمكننا اقتحام تجربةِ الإبداع لدى الشاعر محمد السرغيني من باب الفائقية، مستندين إلى أصلها المعجمي الذي يَحُفُّ حول معاني العلو والسمو والغلبة والأفضلية في الجمال والمرتبة والمقام والشرف. أما اصطلاحيًا فلعله من المناسب أن نستلهمَ توصيفَ كولوريدج (Samuel Taylor Coleridge) للشعر من حيث هو «التعبير الفائق عن الشعور الفائق». ونرجح أن الفائقية في شعر السرغيني إنما يكون السعي إليها من طريق البحث عن «المثال» و«الكمال». وإذا عُلِمَ أن المثال والكمال يظلان - باعتبار خصيصة النقص الإنساني - في نطاق المستحيل المأمول، لا الـمُمْكنِ الحُصُول، فإن السبيل نحوها يظل موقوفًا على المجاهدة والمكابدة من أجل تجاوز عتبات المتحقق إلى مُرْتقى أجود. ومن شروط الأجود «تجاوز الموجود، والاجتهاد في إبداع نص قد يكون مثالاً في رحم مبدعه، إلا أنه غير مكتمل بعد كتابته لعجز الشاعر عن اقتناص كل شارده، فتكبر رغبته في تجريبه إعادة كتابته بعيدًا عن تكراره أو نسخه، فيتجاوزه... وتتكرر المحاولات دون أن ينجز «المثال»، ولا أن تتوقف استمرارية التجاوز والتجريب والاجتهاد، فيتحقق التعدد، وعبره تؤكد الذات الشاعرة حضورها واستمراريتها في العطاء». إن الإبداع وفق هذا التصور هو مواظبة واستمرار في البحث عن نص مثاليّ متعالٍ يلتمع في علياءِ قُبَّةِ الإبداع، فيتطلَّعُ المبدعون إلى الإمساك به من أجل تقديمه على صفحات المحبة إلى قرائهم، كما يتطلع المحبون الحالمون إلى الإمساك بأَلْـمَعِ نجمةٍ في سماء الخيال من أجل إهدائها إلى من يتعشّقون بهم... هنالك إذًا قراءٌ خُلَّص ينتظرون هدية فاخرة، وهنالك نص فائق يرقد خلف أفق المستحيل. وبينهما مبدعٌ يبحث عن «أناه» مُجِدٌّ مُكِدٌّ في برازخ الفصام. ضمن هذا السياق، يؤكد الدكتور أحمد زكي كنون على أن الشاعر الحق هو: «الذي كلما زاد اقترابه من الواقع كبر انفصاله عنه، لأن الانفصال المواكِبَ للاقتراب هو الذي يكسب الذات المبدعة المناعة كي لا تصبح عاكسة لهذا الواقع فقط، أو لاقطة له دون اجتهاد في إعادة بنائه من جديد، وفق رؤيةٍ تنسج رؤيا هي خلاصة حركة الانفصال التي تحمل إلى جانب ما سبق من معاني: الحرية والمقدرة والجرأة، وتعطي لصفة «الفائق» معناها الشامل». ونحسب أن نهج الكتابة لدى الشاعر محمد السرغيني يُعَدُّ من بين النهوج الأكثرِ تحررًا ومقدرةً وجرأةً على «تجريب الكتابة على أشكال متعددة».

3- تأويلية الاشتياق والاحتراق
في محاولة من الدكتور أحمد زكي كنون لبيان انفتاح القراءة في دواوين الدكتور محمد السرغيني على تأويلية الاشتياق والاحتراق واقتحام أشعار السرغيني من أبواب متعددة، يقول: «وكأني بالشاعر - وهو البحاثة المجرب - يريد أن يضع المتلقي أمام عناوين تحتاج إلى تأمل كبير، وإلى بعد نظر، وإلى قراءة تعتمد التأويل، وتبتعد عن التسطيح. فالعنوان الجملة مركب يحيل تركيبه على معنى أو معان خاضعة لتأويلات المتلقي».
ففي ديوان «ويكون إحراق أسمائه الآتية» للسرغيني؛ لا يحيل الضمير المتصل على مذكور سابق في جملة العنوان، لذا «فإن تحديده يتطلب قراءة كاملة للديوان، خصوصًا والشاعر لم يُسَمِّ نصا من نصوص ديوانه صاحب العنوان المتحدث عنه باسم الديوان ككل». أرجحُ أن ثمة إمعانًا في توريط القارئ في لعبة الاشتياق والاحتراق بسبب المزاوجة بين الإخفاء والتجلي، أو «الوصلة بعد الصد، والقرب بعد البعد» التي أومأنا إليها سابقًا.  ليستكشف القارئُ النبيهُ بعد استكناه الحقائق واستجلاء الدقائق أن الديوان يحمل إشارات وتنبيهات إلى سيرة أبي حيان التوحيدي. لكن ما الذي يحمل السرغيني على إحراق المتلقي بجمر الاشتياق لسردية التوحيدي؟
 لا جَرَمَ أن التوحيديّ قمةٌ من قمم الإبداع في الثقافة العربية «حتى ولو لم يكتب غير الإشارات الإلهية». وباعتباره كذلك، فإنه لم ينل في عصره «ما هو جدير به من الحظوة». لذا «اعتراه القرف». فربما مضت عليه أيام «لم يكن يجد فيها ما يتبلغ به»، فسلط غضبه على من لم ينصفوه، و«سخر بهم، واعتبر أنهم غير جديرين بقراءة كتبه، فأحرقها. إن حال أبي حيان مع معاصريه وأبناء جيله، يكاد يكون هو ذاته متجليًا في مرآة عصرنا من وجهة نظر الشاعر محمد السرغيني. ذلك أن حال التوحيدي هو «نفس حالنا مع بيئة ثقافية مشوهة الملامح. فكيف نطمئن فيها على أن نكون من مقروئيها، وأن تكون هي قارئتنا؟». إن استلهام سردية التوحيدي يستبطن تجسيرًا للأزمنة والثقافات، وتلاقحًا في الأفكار وبين الأرواح... فلا غرابة في أن يكون تجديد السرغيني بحسب النقاد الذين يتابعون تجربته من كثب «مطبوعا بغلبة الفكر وطغيان الثقافة، وأن يكون إعلانا عن ذات متمردة على الجمود، رافضة للتقوقع، ممتدة عبر أزمان وحق، وأفكار ومفكرين، وأدباء وأمكنة وكتب». إن أبا حيان التوحيدي - الحارِق والمحترِق في آنٍ واحد - كان - وفق رأي السرغيني - من جملة أولئك «الدعاة ورثة المعرفة، الدعاة الساهرين على رعاية شؤون العالم، الدعاة الإشعاعيين المكلفين بإدماج كواكب ما فوق العالم في العالم، الدعاة المتشبثين بالقلم واللوح والحبر واللغة»، حتى وأن اعتراه الكثير من الحنق.

4- مُسَارَّة في فاس... مدينة الإيناس
في لحظة استسرار يهمس محمد السرغيني في أذن أحمد زكي كنون قائلاً: «إن فاس الجديدة لا تعني لي شيئًا، بقدر ما تعنيه لي فاس القديمة». إن المكان وفقا لهذه الـمُسَارَّة «لا يخلد إلا على أول صورة». ولا يكون إخلاص الحب إلا للحبيب الأول... فاس العتيقة هي مبعث الإيناس وسلوة الأنفاس؛ هي وشم الذاكرة ووسم الكتابة عند السرغيني. يقول: «من ميلادي ونشوئي إلى حد كهولتي، كانت فاس - ولا تزال - هي العالم السحري الذي انتظم كل العوالم السابقة واللاحقة في مخيلتي، ولذا لم أغادرها إلا للدراسة، ولكن إذا كانت تاريخا بقي في أطلال (...) وماء وينابيع ونواعير وخضرة ومنتزهات جفت، فقد أخذوها مني، واسترجعتها منهم بالقوة وحرصت كل الحرص على أن تبقى طفولتها راعية لطفولتي السرمدية». لا تكبر الذات المبدعة إلا بتجذر تجربتها، ولا تتجذر التجارب إلا إذا احتفت بها أرضٌ راسخة مخصبة... ينشد السرغيني: «لا أريد بما أرويه إلا نقشه على حجارة...». فاس - بالنسبة إلى السرغيني - هي الحجارة والبشارة...
إن قارئ شعر الدكتور محمد السرغيني «سيُوَاجَهُ بحضور فاس القوي في شعره، وسيلمس أن هذا الحضور قد امتزج بالذات المبدعة امتزاجَ تكامُل، وأنه عبر هذه المدينة ومن خلالها كانت تتشكل صور شعرية غير واصفة ولا مادحة لهذا لفضاء المكاني المهيمن، بل مبدعة له بألوان الذات الشاعرة. وشتان بين الوصف والمدح وبين الإبداع - الرؤيا - الذي يلتقط فيه الشاعر الصورة واقعًا ثم يحولها إلى صورة بعيدة عن ذلك الواقع تتجسد فيها خيالاته، وتحمل عباراتها تصوراته». بين حجارة التحقيق وبشارة التخييل في شعرية السرغيني يتلأْلَأُ «الزليج محفوفًا بظل سائب التركيب ما بين المدور والمكعب، هذه الحبات ناتئة مرصعة حزام الحائط الجيري، ملقية عليه حياده: فوضى مزخرفة، نشوز غائر. عن ظهر قلب يحفظ المنقاش دورته، ويعرف كيف ينتزع اعتراف الطين حين تولد الأشكال ميتة، ووشم فضاءاتها حيًا. خدوش في الزوايا». حبات ناتئة، وفوضى مزخرفة، ونشوز غائر، وخدوش في الزوايا... يتعين على القارئ أن يرهف السمع لهسيس اللغة، ويمعن النظر في شمولية الصورة، كي يدرك أن شجرةَ الشعر الوطفاء لدى السرغيني متجذرة في فاس مدينة الإيناس.

خاتمة
في ختام هذه الورقة يتعين أن نذكر على جهة الإلماع أن ثمة قلَقًا مُمِضّا يعتري الشاعر محمد السرغيني (وغيره كثير من الغيورين) بإزاء حاضر فاس ومستقبلها... لعلها نُذُرُ الإيجاس بعد زمن الإيناس... في مستهل كتاب «الدكتور محمد السرغيني إبداع تجربة» ملمح دال؛ كتب زكي كنون في الإهداء «إلى الصديق الكبير الدكتور عبدالرحيم الفيلالي بابا الذي جمعتني به وبالدكتور محمد السرغيني محبة «المكان» فاس. التي كلما تكررت زياراتنا المشتركة لمدينتنا العتيقة كبر يقينُنا بأنها ستبعث من رمادها في يوم قريب، لم نشك أبدًا في قرب حلوله». فيجيب الدكتور السرغيني ضمنيًا في أكثر من سياق: «أتعاطف مع جميع المدن القديمة تعاطف عاجز لا يملك إلا ضعفه». لكن مهلاً! إن قوة الشعر تكمن في كلماتٍ متوهجةٍ يتضاعف وهجُها حين تنْشدُ «لليوم الرث غدا نقيًا ناصعًا» ■